{ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءِ } خص النداء وعم الخطاب بالحكم الذي هو الطلاق لانه إمام امته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كذا اظهاراً لتقدمه واعتناء بتصدره ولانه إذا أراد أرادوا فكانه جميعهم فنداؤه كندائهم أو المراد يا ايها النبي والامة أو لان الكلام معه والحكم يعمهم أو يقدر القول أي قل لامتك اذا طلقتم والمراد اذا اردتم التطليق تنزيلا للامر الذي قرب وقوعه منزلة الواقع كقوله صلى الله عليه وسلم "من قتل فله سلبه" ولأن الارادة سبب للتطليق وملزوم له.
{ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } اللام للتوقيت ويقدر مضاف أي لاول عدتهن أو زمانها وهي الطهر والمراد ان يكون في طهر لم يمسها فيه أو يقدر مستقبلات لعدتهن ويتعين هذا لمن عد العدة بالحيض وعلى كل حال انما يطلق في الطهر وان طلق في الحيض غصى ومضى الطلاق لما روي ان ابن عمر طلق فيه وامره صلى الله عليه وسلم بالمراجعة ولولا مضيه لم يأمره بالمراجعة والنهي قيل: يدل على الفساد وقيل: لا واختلف في الامر هل يدل على النهى عن الضد أم لا.
وروي "أَن عمر أَخبره بذلك فتغيظ وقال مرة ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له ان يطلقها فليطلقها قبل أَن يمسها فتلك العدة التي أَمر الله أَن يطلق بها" وفعل وتلك التطليقة محسوبة وفي رواية مرة فليراجعها ليطلقها طاهرا أو حاملا وفي رواية ما هكذا امر الله انما السنة ان تستقبل الطهر استقبالا وتطلقها لكل قرء تطليقه ونزلت الآية تسبب طلاقه في الحيض.
وقال ابن عباس: نزلت في تطليقه صلى الله عليه وسلم زوجته حفصة فقال له: راجعها فإنها صوامة قوامة ومن أزواجك في الجنة وكان صلى الله عليه وسلم وابن عباس وابن عمر يقرأون في قبل عدتهن وأحسن الطلاق واحله في السنة وابعده من الندم ان يطلقها في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها وكانت الصحابة يستحبون ان لا يطلقوا السنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا حتى تنقضي العدة وكان احسن من ان يطلق الرجل ثلاثا في ثلاثة اطهار وعن مالك بن انس لا اعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة أو متفرقة وكره ابو حنيفة واصحابه ما زاد على الواحدة في طهر ولم يكرهوه في الاطهار لقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر "وطلقها لكل قرء تطليقة" وقال الشافعي: يجوز ارسال الثلاث وقال لا اعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح "وطلق رجل امرأته بين يديه صلى الله عليه وسلم ثلاثا فقال أَتلعبون بكتاب الله وأَنا بين أَظهركم" .
وروي "أَن ابن عمر قال: يا رسول الله أرأيت إِن طلقتها ثلاثا فقال له إِذن عصيت وبانت منك امرأتك" وعن عمر انه كان لا يؤتى برجل طلق ثلاثا إلا أوجعه ضربا وأجاز ذلك عليه وقال سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين: إن من خالف السنة في الطلاق فاوقعه في حيض أو ثلاثا لم يقع تشبيها بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف ومن طلق ثلاثا فقد يندم ولات حين ندم ومن طلق أقل فله التوسعة وينفعه الندم لأنه إن شاء راجعها قبل الفوت وإنما أمرنا بالطلاق في الطهر لئلا يطول عليها زمان العدة وذلك في الدخول بها بدليل قوله (لعدتهن) أما غيرها فلا عدة عليها ويطلق قيل: حين شاء ولا تطلق للسنة إلا واحدة ويكره طلاقها بائنا.
وأما التي لم تحض والآيسة والحامل فيطلقن للسنة متى شاء الزوج بدليل انهن غير مستقبلات لطهر واحد لا أكثر وقال أبو حنيفة وأبو يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر وقال محمد وزفر: الحامل تطلق للسنة واحدة وقيل: لايكون طلاقهن بدعيا ولا سنيا قيل والخلع في حيض أو طهر جامع فيه لا يكون بدعيا لانه صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته قيل ان يعرف حالها قلت يحتمل انه عرفها طاهرا أو اعتمادا على انه قد بلغ الناس ان الطلاق في الحيض لا يحل ولا يلزمه السؤال نعم قيل: ان الخلع فرقة لا طلاق ومن راجع في الحيض جاز طلاقه في طهر يليه قبل المسيس مع انه طلق في الحيض.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في شأن ابن عمر "ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر" فأمر استحباب ولا يستأذن على المطلقة ولكن يضرب برجله وينحنح قال بعض ويسلم وتتشوف له وتتصنع ولا يرى لها رأسا ولا بطنا ولا رجلا وينام معها في البيت لا في فراش واحد وقيل ينام معها ايضا في فراش واحد ومن غاب كتب إليها إذا حاضت ثم تطهرت فاعتدا وإن بان حملها كتب اليها طلاقها ومن طلق ثم طلق اعتدت من الاول وقيل: من الثاني.
{ وَأَحْصُوا العِدَّةَ } احفظوا الاقراء لتراجعوا ان شئتم قيل فراغها وللميراث والنفقة والسكنى.
{ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ } بدل أي احذروا معصيته في كل شيء فلا تطيلوا عدتهن ولا تضروهن ولا تطلقوهن في الحيض أو في طهر جامعتم فيه أو في طهر قبل الغسل.
{ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } أي بيوت سكناهن سواء كانت البيوت لهن وطلقن فيها للزوج أو لغيرهما وان كانت لغيرهما فارتجعها صاحبها فعلى الزوج ان يحضر منزلا لها وان كان البيت له فليتركها فيه وان كانت في بيتها وطلبت ان تسكن في بيت ملكه زوجها فلها والظاهر انه ان اراد ان ينقلها من بيت له إلى آخر له بالملك والكراء أو غيره جاز لما كان الزوج قد يكره مساكنة مطلقتة لغضب أو حاجة للمسكن أو غير ذلك نهى الازواج ان يخرجوهن.
قال جار الله: وقد تريد المطلقة الخروج فنهاها الله ونهى زوجها ان يأذن لها في الخروج كما قال { وَلا يَخْرُجْنَ } والسكون بناء والجزم في المحل واذن الزوج لها في الخروج لا يحل الخروج لها وقد حرمه الله.
والحق انه ان اذن لها جاز لان لزوم البيت حق له وإذا انقضت العدة اخرجوهن وخرجن ولا يخرجن قبل ان خرجن اثمن إلا لضرورة كخوف هدم أو غرق أو بيع غزل أو شراء قطن أو نحوهما ان كان العرف كذلك ولم يمنعها زوجها ولا تخرج لنحو البيع إلا نهارا وذلك حفظ للنسب وستر للعورة ولو طلقن ثلاثا أو بائنا وان خرجن لحاجة نهارا فلا يأتي الليل عليهن إلا في بيوتهن.
وقال ابن العباس والحسن ان شاءت خرجت اذات طلقت ثلاثا قيل وكذا البائن والموت وان سافرت اعتدت ذاهبة وراجعة والبدوية تعتد في البدو مع زوجها أو حيث كانت بأمره "وعن فاطمة بن قيس انها اتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ابانها زوجها فقال: لا سكنى لك ولا نفقة فبلغ قولها عمر فقال: ما كنا لنأخذ بقول امرأة لعلها وهمت وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول للبائنة السكنى والنفقة" أي فلا تخرج.
وسأل ميمون بن مهران ابن المسيب عن اشياء فقال: انك تسأل سؤال رجل يمحن فهل خالفت في شيء مما سمعت من غيري قلت: لا إلا قولك في المطلقة البائن انها لا تنتقل فما بال حديث فاطمة بنت قيس فقال ويح هذه المرأة كيف أفتت الناس قلت إن كان أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فما افتيت ومات رجال رحمهم الله بأحد فقالت نساؤهم نستوحش في بيوتنا فأذن لهن صلى الله عليه وسلم يتحدثن عند احداهن وإذا كان وقت النوم تأوي كل الى بيتها واذن لخالة جابر بن عبدالله طلقها زوجها ان تخرج لجذاذ نخلها.
{ إِلا أَن يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } الاستثناء منقطع راجع الى قوله لا تخرجوهن وان مصدرية يأتين فعل مضارع في محل نصب بأن مؤول بالمصدر وفاعل والفاحشة الزنى عند الحسن بأربعة شهود أو اقرار فيخرجن لأقامة الحد ولا ترجع لأبطال حقها. وعن ابن مسعود ترجع والاربعة أو الاقرار هي التبين وقيل الفاحشة المبينة النشوز البين وقيل سوء لسانها أو خلقها ويدل له قراءة أبي إلا ان يفحشن عليكم وعليه ابن عباس وقيل المراد نشوزهن حتى يطلقن فإذا طلقن على النشوز فلا حق لهن أو الاستثناء راجع الى قوله ولا يخرجن مبالغة في النهي دلالة على أن خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة.
ويجوز كون الاستثناء متصلا بأن يقدر المضاف أو يقدر المصدر باسم الفاعل أو يبقى مبالغة ويكون ذلك حالا من هاء تخرجوهن أو من نون يخرجن أي إلا ذوات اتيان أو اتيات والتشديد للمبالغة وقرأ عاصم مبينة بفتح الياء وفاء لتشديد المتعدية ويجوز ان يكون كذلك على الكسر أي مبينة للامر كاشفة له.
{ وَتِلْكَ } الأحكام من الطلاق للعدة وإحصائها والتقوى وعدم الاخراج والخروج.
{ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ } يجاوزها والاضافة للحقيقة فيصدق ذلك على من تعدى حدا واحدا والتعدي المجاوزة { فَقَدْ ظَلَمَ } ضر { نَفْسَهُ } بأن عرضها للعقاب { لا تَدْرِى } النفي أو انت ايها النبي أو أيها المطلق أو لا تدري المطلقة وعلى هذا الاخير يردع ذلك الى قوله لا يخرجن.
{ لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } هو ان يقلب قلبه من بغضها إلى حبها فيندم فيراجعها قيل انقضاء العدة ان لم يكن ثلاث تطليقات أو بائنا فهذا راجع الى قوله احصوا العدة وفيه تأكيد لطلاق السنة فإنه اذا طلقها ثلاث فلا يرجعها وقيل يجوز ان يكون المراد بالامر الرغبة في الرجعة قبل الانقضاء أو الاستئناف بعده.
وفي الحديث عن ابن عمر "أبغض الحلال الى الله الطلاق" وفي رواية بعض "ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق" وفيه عن ثوبان أيّما أمرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به حرمت عليها رائحة الجنة ولعل ترجية أو توقع للخلق لارجاء من الله أو توقع حاشاه وهي ومعمولاها مفعول ادري سد مسد مفعولين.