التفاسير

< >
عرض

وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ
١٤٢
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَوَاعَدْنا } المفاعلة لأن موسى لما وعده ربه أقبل على الوعد والتزمه، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب، وأبىّ بن كعب، وأبو رجاء، وأبو جعفر: ووعدنا بإسقاط الألف بين الواو والعين { مُوسَى ثَلاثِينَ لَيلةً } ذا العقدة يصومه ويعتزل فيه، ويجتهد فى العبادة، فلننزل عليه الكتاب فيه، ما يؤتون وما يتقون، ولا علم له بذلك.
وروى أنه وعد قومه بذلك الكتاب بعد هلاك فرعون، فسأل ربه فأمره بصوم ذلك، ففعل، فلما تم أنكر خلوف فمه، فتسوَّك بعود خرنوب، وروى بعود خروب، وقيل: أكل من ورق الشجر، وقيل: مص من لحى الشجرة، فقالت الملائكة: كنا نشتم من فيك أطيب من ريح المسك، فأفسدته بالسواك، وأوحى الله إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك، فأمره الله أن يزيد عليها عشرة ليختم بالخلوف كما قال:
{ وأتْممْناها } وقرأ أبى وتممناها بالتشديد { بعَشْرٍ } من ذى الحجة، وأنزل عليه التوراة بعدها، وقيل: أنزلها وكلمه فيها، ونصب ثلاثين على المفعولية لواعدنا، لأنه بمعنى أجلناه ثلاثين، أو يقدر مضاف، أى وواعدنا موسى مناجاة ثلاثين ليلة لا على الظرفية، لأن المواعدة ليست فى الثلاثين، وقيل: واعده فى أول مرة أربعين ليلة للمناجاة، وقيل ثلاثين للخلى للعبادة باجتهاد، وبعشر للمناجاة، وعليهما يكون قوله:
{ فتمَّ مِيقاتُ ربِّه أرْبعِينَ لَيلةً } مثل قوله:
{ { فتلك عشرة كاملة } بعد قوله: { { وسبعة إذا رجعتم } والميقات ما قدر وحدد، وأربعين حال من ميقات، وأجاز بعضهم أن يكون ظرفا، لأنه واقع على الزمان، ويرده أن التمام بالأربعين لا فيها، ويجوز كونه مفعولا لحال محذوف من الميقات، أى بالغا أربعين لا من الهاء على الصحيح لعدم شرط مجئ الحال من المضاف إليه، وليلة تمييز مؤكد لأنه معلوم من السياق أن المعدود ليال، وليس مؤكدا لعامله الذى هو أربعين، فإن مجرد أربعين ليس نصا فى الليالى، والتمييز لا يؤكد عامله كما قال ابن هشام.
{ وقالَ مُوسَى لأخِيهِ هارُونَ } بدل أو بيان، وقرىء بالضم على النداء { اخْلُفنِى فى قَوْمى } كن خليفتى فى قومى، أى حتى أرجع، ومعلوم أن استخلاف الحى فى حياته منته بوقت لا متصل بعد موته، والدليل على ذلك الوقت قرائن الأحوال، فإذا قال مريد السفر: أنت خليفتى، فوقت انتهاء الخلافة رجوعه من السفر، وإن مات فيه انقطعت بموته، وهذا متقرر عقلا من العادة، فبطل ما تعلق به بعض الفرق من أن قوله صلى الله عليه وسلم لعلى:
"أنت منى بمنزلة هارون من موسى" دليل على أن عليا أولى بالإمامة بعده، وأن الأمة أخطأت فى استخلاف الثلاثة قبله، ولقد أخطأت تلك الفرقة، وأصابت الأمة، فإن خلافة هارون مؤقتة برجوع موسى من المناجاة.
{ وأصْلحْ } ما فسد من أمرهم، أو كن عاملا بالمصالحات مطلقا. قال ابن جريج: كان من الإصلاح أن يزجر السامرى ويغير عليه ا هـ، وقد زجر وغير ولم يسمع له، وإن لم يفعل فلعدم قدرته، ونهى قوم السامرى باتفاق كما فى سورة طه.
{ ولا تتَّبعْ سَبيلَ المفْسِدينَ } أى لا تتحول عما أنت عليه من عدم اتباعهم، قال فى عرائس القرآن: قالت بنو إسرائيل بعد خروجهم من البحر: ائتنا بالكتاب الذى وعدتنا، فسأل ربه فأمره بصوم ثلاثين يوما ثم يتطهر ويطهر ثيابه ويأتى طور سيناء ليكلمه ويطيه الكتاب ففعل، فلما صعد الجبل أنكر خلوف فيه فتسوك، فذهب خلوف فمه، فأوحى الله إليه أن صم عشرة أيام فصامها، فتطهر وطهر ثيابه، فصعد الجبل فكلمه ربه.
ثم بعث الله جبريل إلى جنة عدن فقطع منها شجرة، واتخذ منها سبعة ألواح، طول كل لوح عشرة أذرع بذراع موسى، وكذا عرضه، وكانت الشجرة التى اتخذ منها الألواح من زمرد أخضر، ثم أمر جبريل أن يأتيه بسبعة أغصان من سدرة المنتهى، فجاء بها فصارت نورا بين السماء والأرض، فكتبت الملائكة أو القلم وحده بأمر الله التوراة فى الألواح، وموسى يسمع صرير القلم، وذلك يوم الجمعة، فأشرقت الأرض بالنور، ولم تطق السماء حمل الألواح لثقلها بالعهود المكتوبة فيها، وأمر جبريل بحملها لموسى، فلم يستطع وقال: يا رب من يقدر على حملها، وهل خلقت خلقا يطيق حملها؟ فأرسل الله ملائكة بعدد كل حرف فحملوها لموسى، فوضعوها على الجبل فانصدع الجبل، وانخشع وقال: يا رب من يطيقها بما فيها، كما قال الله فى شأن القرآن:
{ { لو أنزلنا هذا القرآن } الخ وذلك عند صلاة العصر، فقبض موسى على الألواح فلم يطق حملها، ومازال يدعو حتى حملها.