التفاسير

< >
عرض

وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ
١٥٥
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ واخْتارَ مًوسَى قَومَه } أى من قومه، فهومنصوب على نزع الخافض، و المفعول ما بعده، ويجوز أن يكون هو المفعول وما بعده بدل بعض، والرابط محذوف، أى واختار موسى قومه سبعين رجلاً منهم.
{ سَبْعينَ رجُلاً } من كل سبط ستة، وزاد اثنين على السبعين، وقد أمره الله بسبعين فقط، فقال: لا بد أن يتخلف منكم اثنان فتشاحوا، فقال: لمن تخلف أجر من خرج، فقعد يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا فلم يخرجا، وقيل: قال ذلك فى أصل الجبل، فقعدا فيه، وروى أنه لم يجد إلا ستين شيخا، فأوحى الله إليه أن يختار من الشباب عشرة، فاختار فأصبحوا شيوخا، وقيل: إنه لم يكن فى السبعين من تحت العشرين، ولا من فوق الأربعين أذهب الله سبحانه عنهم الجهل والصبا.
{ لميقَاتِنَا } هو ميقات المناجاة المذكور الذى سئلت فيه الرؤية، أمر السبعين أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم، ويصوموا، وذهب بهم إلى طور سيناء.
قال جار الله: فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودخل فيه، ويقال للقوم ادنوا، وقد طلبوا سماع الكلام فدنوا، حتى دخلوا فيه، ووقعوا سجدا فسمعوه يكلم موسى، يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه يطلبون الرؤية، فوعظهم وزجرهم، وأنكر عليهم، فقالوا:
{ { يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } } { { قال رب أرنى أنظر إليك } يريد أن يسمع الرد والإنكار من جهته، أى بلا واسطة موسى، فأجيب: { لن ترانى } ورجف بهم الجبل فصعقوا كما قال.
{ فَلما أخذتْهمُ الرَّجْفةُ } أى الصعقة فقيل: ماتوا وهو أكثر الروايات، وقال وهب بن منبه: لم يموتوا بل ارتعدوا حتى كادت مفاصلهم تنفصل للاضطراب الشديد وقوله: { قالَ ربِّ } يا رب { لو شِئْت أهْلكتهُم } أمتَّهم { مِنْ قَبلُ } قبل هذا الخروج للجبل وطلبهم الرؤية { وإيَّاى } عطف على الهاء ظاهر على أكثر الروايات، وأما على رواية وهب فوجهه أنه لما رأى ارتعادهم ظنه مقدمة موت، فقال: { لو شئت } الخ ولو للتمنى، تمنى إهلاكهم من قبل بفرعون أو بالبحر أو بغيرهما لئلا يتهمه بنو إسرائيل عليهم قتلتهم لانفراده بهم فيقولوا:
{ أتهْلِكنا } إياى وهؤلاء السبعين؟ والاستفهام استعطاف { بما فَعَل السُّفهاءُ منَّا } وهم من طلب الرؤية من السبعين إن طلبها بعض دون بعض، أو هم السبعون على أنهم طلبوها كلهم أو طلبها بعض ورضى بعض، وإنما خاف الهلاك على غير السفهاء بفعل السفهاء زيادة فى الخضوع، أو لأن عذاب الدنيا قد يعم، أو لأنه طلب الرؤية زجرا لهم من غير أن يؤذن له فى ذلك، أو لأن الاستفهام للنفى، أى لست تهلكنا بما فعل السفهاء منا، وقاله تقوية لما أعتقد.
{ إنْ هِىَ } أى الرؤية المطلوبة، أو الفتنة وهى طلبها على حد
{ { إن هي إلا حياتنا الدنيا } أى ما الفتنة { إلا فتْنتُك } أى ابتلاؤك ومحنتك { تُضلُّ بها مَنْ تَشاءُ } إضلاله مثل هؤلاء الذين سمعوا كلامك فاستدلوا جهلا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا وطمعوا فيها { وتَهْدى مَنْ تَشاء } هدايته، وهم الثابتون فى معرفتك، غير الناقضين لها بادعاء جواز الرؤية. اهـ كلام جار الله بزيادة.
وعن على: أنهم ماتوا بالرجفة، وأحياهم الله وجعلهم أنبياء وهو ضعيف، وقال الثعلبى فى عرائس القرآن: لما وعد الله موسى أربعين ليلة، وذهب للميعاد، فتن قومه بعبادة العجل، فأوحى الله إليه ذلك، يا رب كيف يفتنون وقد نجيتهم من البحر ومن فرعون، وأنعمت عليهم؟ قال: إنهم اتخذوا العجل إلها من دونى، وهو عجل جسد له خوار. قال: يا رب من نفخ فيه الروح؟ قال: أنا. قال: أنت وعزتك أفتنتهم { إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء } الآية فقال تعالى: يا رأس النبيين، يا أبا الأحكام إنى رأيت ذلك فى قلوبهم فزينته لهم.
فلما رجع موسى من الميقات إلى قومه، وقرب منهم، سمع اللفظ حول العجل، وكانوا يقبرون حوله، ولم يخبر موسى أصحابه الذى كانوا معه فى ذلك الموعد وهم سبعون أيضا، وقيل: مضى إليه وحده، وعلى الأول قالوا: هذا قتال فى المحلة، وكان غير مخبر لهم بذلك، فقال: لا، ولكنهم فتنوا بعبادة غير الله، وذلك قوله تعالى:
{ ولما رجع موسى إلى قومه } الخ.
ثم إن الله أمر موسى أن يأتيه فى أناس من خيار بنى إسرائيل ليعتذروا إليه من عبادة قومهم العجل، فاختار سبعين وأرادهم شيوخا كما مر، فذهبوا للطور ودخلوا الغمام، وسجدوا وطلبوا الرؤية بعد انكشاف الغمام، فأخذتهم الصاعقة وهى نار من السماء فأحرقتهم.
وقال وهب: أرسل جندا من السماء، فسمعوا حسهم فماتوا فى يوم وليلة، وقال موسى: يا رب كيف أرجع إلى بنى إسرائيل وقد قتلت خيارهم؟ وما زال يدعو حتى أحياهم الله رجلا رجلا، ينظر بعض إلى بعض كيف يحيون، اهـ كلام الثعلبى فى عرائس القرآن.
وعليه فالميقات فى هذه الآية غير ميقات أربعين ليلة، والسفهاء عبدة العجل، وقوله: هى ضمير العبادة والفتنة التى هى العبادة، وقال بذلك الفراء والكلبى والسدى وجماعة، وقالوا: إن موسى ظن أنهم أهلكوا بعبادة العجل، وإنما أهلكوا بطلب الرؤية، ورده جماعة بأنه لا يجوز على موسى أن يظن أن الله يهلك قوما بذنوب غيرهم، بل قال: { أتهلكنا } الخ زيادة خضوع، أو لأن عذاب الدنيا قد يعم، لكن إن كان موتا فقط كالطاعون، وأما إن كان إحراقا أو مثلة فلا يعم إلا من رضى بالمنكر، أو لم ينه، أو لأن الاستفهام نفى.
قال الكلبى: قال له السبعون حين كلمه ربه: نحن أصحابك لم نختلف عليك، ولم نعبد العجل كقومنا، فأرنا الله جهرة كما رأيته، فقال: لم أره، ولكن قد سألت الرؤية فظهرت آية الجبل الذى هو أقوى منى فصار دكا، وخررت صعقا، وقد ثبت، وهذا على أنهم عرفوا بعبادة العجل قبل الرجوع بإخبار موسى بالوحى، فقالوا: فإنا لا نؤمن حتى نراه جهرة، فأحرقوا بنار.
وقيل: إن السبعين ما فارقوا القوم حتى نصبوا العجل، ولذا تناولتهم الرجفة، وبه قال ابن عباس، وفى عرائس القرآن: كان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطاع النظر إليه، فضرب الحجاب بينه وبين من معه، فأدنوا فسمعوا كلام الله، ومما سمعوا: إنني أنا الله لا إله ألا أنا ذو مكة، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى. وعن أنس، عنه صلى الله عليه وسلم:
"إذا راح منا إلى الجمعة سبعون كانوا كالسبعين الذين وفدوا مع موسى وأفضل" . اهـ.
وروى عن ابن عباس: أمر الله تعالى [موسى] أن يختار سبعين رجلاً، فاختار فبرزوا معه ليدعوا الله، فقالوا فى دعائهم: اللهم أعطنا ما لم يُعط أحد قبلنا، ولا تعطيه أحدا بعدنا، فأخذتهم الرجفة لاعتدائهم فى الدعاء، حكاه الثعالبى، ولم ينسبه لابن عباس، قال: وقيل: أخذتهم لما جرى بينهم وبين موسى، ذهب هو وهارون للتعبد أو نحوه، فمات هارون فدفنه، وروى أنه رأى فراشا على شجرة، وقال علىّ: على سرير فى سفح جبل، فاشتهى النوم عليه فنام فقبض، فرجع فقال بنو إسرائيل: أين هارون؟ فقال: مات، فاقلوا: أنت قتلته حسدتنا عليه لحسن خلقه وعشرته، فاختار السبعين، وقيل: اختارهم، وذلك لينهضوا معه إلى قبر هارون فنهضوا، فقال له: أقتلت أم مت؟ قال: متّ، فأخذتهم الرجفة هى موت وارتعاد أو صاعقة، اهـ بزيادة من غيره.
وقيل: أخذتهم لأنهم عبدوا العجل فيمن عبد، وقيل: إنهم لم ينهوا عنه، وهذا ونحوه على أن العجل منصوب سرا قبل خروجهم، روى أن الله لم يستجب للسبعين ولم يطلبوا شيئا جائزا إلا أعطاه هذه الأمة.
{ أنْتَ } لا غيرك لتعريف الطرفين المفيد للحصر { وليُّنا } متولى منافعنا من حفظ عن المضار، ومن نصر ورزق وغيرهما كعفو وغفران { فاغْفِر لَنَا } ذنوبنا دعا لنفسه ولمن تاب من قومه وللمؤمنين الذين لم يقارفوا ما ذكر من عبادة العجل وغيرها أصلا، وذكر بعضهم أن قوله: { إن هى إلا فتنتك } كأنه بعض اجتراء، فاستغفر منه لنفسه ومن عبادة العجل، وطلب الرؤية لقومه { وارْحَمْنا } زدنا نعما وأدم لنا ما أنعمت به وما تنعم به { وأنْتَ خَيرُ الغَافِرِينَ } لعموم غفرك للذنوب، وردها حسنات، وعدم الرجوع عنه، ولكونه فضلا وكرما لا طلبا لمنفعة أو دفعا لمضرة، بخلاف غفر المخلوق للمخلوق.