التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
١٧
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ثُم لآتينَّهم مِن بين أيدِيهم ومِنْ خَلفِهم وعَنْ أيمانِهِم وعَنْ شَمائِلهِم } الذى عندى أنه ليس المراد بجهة من هذه الجهات شىء مخصوص، وأن ذلك مجاز مركب ويسمى استعارة تمثيلية، شبه الشيطان فى اجتهاده فى الإغواء من أى وجه أمكن، بإتيان العدو من الجهات الأربع التى يأتى منها فى الغالب، فلم يذكر الفوق والتحت لنذور إتيان العدو منهما، ولأن الإتيان من تحت موحش، وعن ابن عباس وقتادة: لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه، ولم يجعل الله له سبيلا، إلى أن يحول بينه وبين رحمة الله وعفوه ومنِّه.
وعدى أتى إلى بين أيديهم وإلى خلف بمن، لأن من أتى من قدام أو خلف مبتدأ المجىء من قدام أو خلف متوجه إلى مأتيه، وعداه إلى الإيمان والشمائل بعن، لأن من أتى عن يمين وشمال كمتجاوز مأتيه منحرفا عنه.
وقال ابن عباس وقتادة: من بين أيديهم: من قبل الآخرة أصدهم عنها، وأشككهم فيها، وعبر عنها بذلك لأنهم متوجهون إليها، ومن خلفهم: من قبل الدنيا يرغبم فيها، وعبر عنها بذلك، لأنهم منقلبون عنها إلى الآخرة فهى مخلفة وراء الظهر، وعن أيمانهم: من حسناتهم، وعن شمائلهم: من سيئاتهم كيف تثابون ذلك الثواب العظيم على هذه الأفعال اليسيرة، ويعاقبون ذلك العقاب العظيم على هذه الأفعال الهينة، ويصدهم عن الحسنات، ويغريهم بالسيئات، وعنه: عن أيمانهم الحق، وعن شمائلهم الباطل، ومن بين أيديهم وخلفهم ما مر عنه.
وروى عنه من بين أيديهم من قبل الآخرة يشككهم فيها، ومن خلفهم الدنيا يرغب فيها، وعن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم يشهى لهم المعاصى، وعنه: من بين أيديهم من الدنيا بالتزيين وعبر عنها بذلك لأنها حاضرة يسعى فيها، ومن خلفهم من الآخرة يقول: لا بعث ولا جنة ولا نار، وعبر عنها بذلك لأنها غائبة كالشىء خلف الظهر، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم حسناتهم وسيئاتهم.
وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون، ويجوز أن يكون من بين أيديهم من حيث يعلمون، ويقدرون على التحرز، ومن خلفهم حيث لا يعلمون ولا يقدرون، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا، لكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم، وقيل: من بين أيديهم فيما بقى من أعمارهم ولا يطيعون فيه، ومن خلفهم ما مضى منها فلا يتوبون مما فعلوا، وعن أيمانهم من الغنى فلا ينفقون ولا يشكرون، وعن شمائلهم من الفقر يخوفهم به فيأخذون من غير حل ويمنعون بغير حل.
قال شقيق البلخى: ما من صباح إلا قعد لى الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدى، ومن خلفى، وعن يمينى، وعن شمالى، أما من بين يدى فيقول: لا تخف فان الله غفور رحيم، فأقرأ:
{ { وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } وأما من خلفى فيخوفنى الفقر فى أولادى فأقرأ: { { وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها } وأما من يمينى، فيأتينى من قبل الثناء فأقرأ: { { والعاقبة للمتقين } وأما من شمالى فيأتينى من قبل الشهوات فأقرأ: { { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } حكاه جار الله.
{ ولا تَجدُ أكثَرهُم شاكرِينَ } لنعمك بالإيمان والطاعة، وقال ابن عباس: لا تجد أكثرهم مؤمنين، وإنما يستكمل المؤمن، وعنه موحدين، وإنما قال إبليس ذلك ظنا كما قال الله سبحانه:
{ { ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنه } وذلك أنه رآى فيهم ميل الشر متعدداً وهو الشيطان والنفس والهوى، وميل الخير واحداً وهو ملك الإلهام أو رآى خلقته من أشياء مختلفة، فعلم أنهم تكون لهم شيم تمنع الشكر كالغل والحسد والشهوات، وقيل: سمع ذلك من الملائكة، وقيل: رآه فى اللوح المحفوظ فقاله على القطع، وقد كان الأمر كذلك كما جاء فى الحديث: "أن واحداً من الألف إلى الجنة والباقى إلى النار" وتحسب فى ذلك الأمم كلها كيأجوج ومأجوج وهن كثيرة جداً، قال صلى الله عليه وسلم: "ما أنتم بالأمم إلا كشعرة بيضاء فى الثور الأسود" والمراد شعرة واحدة، فالأمة مثلها، وباقى الأمم مثل باقى الشعر، وقيل هذا بعيد، والمناسب جنس الشعرة البيضاء أى هم كشعر بيض قليل متفرق فى الثور الأسود، لأن كل مسلم بتسعمائة وتسعة وتسعين كافراً. ويحتمل أن يريد لمعة شعر أبيض فى ثور أسود وهى بعيد.