التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١٩٠
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَلمَّا آتاهُما } أى آدم وحواء { صَالحاً } كما أرادا وكان ذكرا { جَعَلا } أى آدم وحواء { لَهُ } أى لله { شُركاءَ } أى شركة { فِيما آتاهُما } متعلق بجعلا أو بشركاء، وفى ظرفية أو سببية، وقرأ أبىّ شركاء فيه، وكذا فى مصحفه، وهذه الشركة هى اتباعهما إبليس فى قوله: سمياه عبد الحارث، وكان اسم إبليس فى الملائكة الحارث، أو هى إضافته للحارث لا إشراك فى العبادة، وسمى ذلك شركا بالنظر إلى اللغة إذ اتبعناه كما يتبعان أمر الله، وأضافاه للحارث كما تضاف الأشياء لله، وفى ذلك تلويح بعتابهما على ذلك، أو بالنظر إلى علو مرتبتهما، حتى يعد ذلك إشراكا مع أنه ليس بإشراك، ولا سيما أن آدم نبى، وإنما أراد بتسميته عبد الحارث أنه كان سبب حياته، وسلامة أمة الحارث والإضافة تكون لأدنى ملابسة.
وقد قال يوسف فى العزيز: { إنه ربى } وأراد إنه مربينى وكافلى لا معبودى، وتقول: أنا عبد فلان تريد أنك تخدمه وتقوم بحقه، لا أنه معبودك فعوتبا على التسمية بما يوهم الشرك، وعلى النظر إلى السبب، وقد فسر أبو عبيدة الشرك هنا بالحظ والنصيب.
روى أن حواء لما حملت أول حمل لم تدر ما هو كما قرئ فمرت به بتخفيف الراء فجزعت لذلك، فوجد إبليس لها سبيلا فقال لها حين أثقلت: ما يدريك ما فى جوفك؟ لعله خنزير أو حية أو بهيمة أو كلب أو حمار، وروى أنه قال بها: ما الذى فى بطنك؟ فقالت: ما أدرى، قال: إنى أخاف أن يكون بهيمة أو كلبا أو خنزيرا أترين فى الأرض إلا بهيمة أو نحوها، قالت: إنى أخاف بعض ذلك، وكان فى صورة رجل لا تعرفه، فقال: وما يدريك من أين يخرج؟ أينشق له بطنك فتموتى أو من فيك أو أنفك؟ ولكن إن أطعتينى وسميتيه عبد الحارث فسأخلصه لك، وأجعله بشرا مثلك، فان لم تفعلى قتلته لك.
فأخبرت آدم فقال لها: ذلك صاحبنا الذى أغوانا فى الجنة، لا نطيعه، وقيل: قال لها: ما يدريك ما هو؟ ومن أين يخرج؟ خافت وذكرت لآدم فلم يُرَ إلا فى غم، ثم عاد إليها إبليس فقال لها: إنى من الله بمنزلة، فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويًّا مثلك ويسهل خروجه فسميه عبد الحارث، فذكرت ذلك لآدم فقال: لعل ذلك صاحبنا فلا تطيعيه، ولم يزل بها حتى سمياه عبد الحارث.
وقال ابن عباس: سمياه عبد الله فمات، وولد آخر فسمياه عبيد الله فمات، وولد آخر فسمياه عبد الرحمن فمات، فقال لهما: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث، فسميا الرابع عبد الحارث فعاش، وقيل: قال لهما هذا بعد موت الثانى، فسميا الثالث عبد الحارث فعاش، وروى أن الله سلطه على أولادهما فيموتون، فقال ذلك.
وفى رواية عن ابن عباس: أتى آدم حين ولد له أول ولد فقال: أنصحك فى شأن ولدك هذا سمه عبد الحارث، فقال: أعوذ بالله من طاعتك، أطعتك فى أكلى من الشجرة فأخرجتنى من الجنة، فلن أطيعك، فمات وولد له ثان فقال: أطعنى وإلا مات كما مات الأول فعصاه فمات، فقال: لا أزل أقتلهم حتى تسميه عبد الحارث، وروى أنه لما ولَدَت أول أول ولد وقد قال لها ما خوفها به مما مر قال لها: ألا تسميه بى كما وعدتنى؟ قالت: فما اسمك؟ قال: اسمى الحارث، فسمته عبد الحارث، وذلك أنه جاءها لما كانت حاملا فقال لها: يا حواء ما الذى فى بطنك؟ قلت: لا أدرى، قال: لعله بهيمة من هذه البهائم، قالت: لا أدرى، فأعرض عنها حتى أثقلت فقال لها: كيف تجدين نفسك يا حواء؟ قالت: إنى أخاف أن يكون الذى خوفتنى ما أستطيع القيام إذا قعدت، قال أفرأيت إن دعوت الله فجعله إنسانا مثلك أو مثل آدم أتسميه بى؟ قالت: نعم، وقالت لآدم: إن الذى فى بطنى بهيمة، وإنى لا أجد له ثقلا.
وروى أنه أتى آدم وقد مات له ولد اسمه عبد الله، فقال: إن شئت أن يعيش لك الولد فسمه عبد شمس فسماه، وتم الكلام فى آدم وحواء واستأنفه فى مشركى مكة وغيرها بقوله:
{ فتَعَالى اللهُ عمَّا يُشْركونَ } وهو حسن، وعليه الطبرى، لكن خصه بمشركى العرب وهو تحكم، وقيل: هذا فيهما أيضا، وعبر عنهما بصيغة الجماعة مجازا أو لأن ألقها اثنان، وقيل الضمير لهما ولإبليس لا اشتراكهم فى التسمية بعبد الحارث، أو عبد شمس، وهما قولان مقبولان أيضا، وعلى هذا تم الكلام هنا، أو فى ينصرون عليهما، أو على إبليس.
وقال الحسن، وعكرمة: إن فى الكلام حذفا الأصل جعل أولادهما له شركاء فيما آتاهم فحذف المضاف وهو أولاد، فناب عنه المضاف إليه، فاعتبر المضاف إليه دون المضاف، فقيل: فيما آتاهما لا فى ما آتاهم، وقد اعتبر المضاف فى: { فتعالى الله عما يشركون } الخ أو الأصل جعل أولادهما له شركاء فيما أتى أولادهما، فحذفنا مضافان، ولا يخفى إشراك بنى آدم غير الله فى العبادة وفى التسمية، وقد سموا عبد العزى، وعبد مناة، وعبد مناف، وعبد اللات، وغير ذلك، أو خوطب الأبوان آدم وحواء بفعل الأبناء، كما جاء العكس وأعنى بالخطاب نسبة إليهما أو نسب إليهما فعل الأولاد، لأنهما السبب فى وجودهم وفعلهم، ولا ضير عليهما فى هذه السببية.
وفى رواية عن عكرمة: أن الله سبحانه خاطب بقوله:
{ { هو خلقكم من نفس واحدة } كل واحد على حدة، فأبو زيد نفس واحدة، وأبو عمرو نفس واحدة، وأبو بكر نفس واحدة، وأبو خالد نفس واحدة، وهكذا فان كل واحد أبوه واحد لا متعدد، أى خلق كل واحد من أبيه، وجعل منها زوجها بمعنى وجعل من جنس النفس الواحدة زوجها آدمية مثلها، ويجوز أن يكون الخطاب لقريش الذين فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصى، خلقوا من نفس واحدة هى قصى، وكان له زوج من جنسه آدمية عربية، قرشية، ولما تغشاها حملت حملا خفيفا، ولما ولد اسميا أولادهما عبد العزى، وعبد قصى، وعبد مناف، وعبد الدار، فضمير التثنية لهما، وضمير الجمع لهما، ولأعقابهما المقتدين بهما، أو لعامة المشركين، وبه قال ابن كيسان، واستحسنه جار الله وغيره.
وقد قرأ غير نافع، وأبى بكر، وابن عباس، وشيبة، وعكرمة، ومجاهد، وإبان بن ثعلب، وأبى جعفر جعلا له شركاء بضم الشين وفتح الراء والمد، وهى أنسب بقول الحسن وعكرمة فى روايته، وهذا الاحتمال الأخير، وكذا قرأ حفص، وأهل هذه القراءة لا يقولون بأن آدم وحواء هما بأنفسهما أشركا بالتسمية أو باتباع إبليس فيها، لأنهما اتبعاه فى تسمية واحدة لولد واحد.
وإن قلت: فما وجه قراءة نافع، ومن ذكرت معه بكسر الشين وإسكان الراء وتنوين الكاف على تأويل الحسن وعكرمة والوجه الأخير؟
قلت: وجهها أن الشرك مصدر أو اسمه يصدق على إشراكة واحدة، وعلى شركاء، أو الأصل ذوى شرك وهم الشركاء، وقيل، كما مر عن الحسن، وعكرمة: لكن فى اليهود والنصارى، رزقوا أولادا فهوًّدوهم ونصَّروهم، والصحيح أن نافعا وغيره قرءوا: عما يشركون بالتحتية، وروى عنه وعن الحسن وأبى جعفر وأبى عمرو وعاصم بالفوقية.