التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
-الإنسان

هميان الزاد إلى دار المعاد

بسم الله الرحمن الرحيم
{ هَلْ } قال ابن عباس بمعنى قد وكذا الكسائي والفراء والمبرد يعنون قد التحقيقية والتقريبية. وقال جار الله هل ابدأ بمعنى قد وهمزة الاستفهام مقدرة قبلها وان قد هنا للتقريب والهمزة قبلها للتقرير أي اتى على الانسان زمان قريب لم يكن فيه شيئا مذكورا بل نطفة في الرحم ان اريد الجنس أو طين أن أريد آدم إذ كان طينا معجونا أو مصورا غير منفوخ فيه والأصل أهل بدليل قوله*

سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رؤنا بسفح القاع ذي الاكم

والظاهر انها للاستفهام التقريري. قال ابن هشام وبالغ الزمخشري فزعم انها ابداً بمعنى قد وأن الاستفهام مستفاد من همزة مقدرة معها ونقله في المفصل عن سيبويه، فقال وعند سيبويه انها ابدا بمعنى قد الا أنهم تركوا الالف قبلها لأنها لا تقع إلا في الاستفهام. وقد جاء دخولها عليها في قوله

سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رؤنا يسفح القاع ذي الاكم

انتهى ولو كان كما ذكر لن تدخل الا على الفعل كقد ولم أر في كتاب سيبويه ما نقله عنه.
انما قال في باب عدة ما يكون فيه الكلم ما نصه وهل وهي للاستفهام لم يزد على ذلك وقيل قد في الآية للتوقع وكأنه قيل لقوم يتوقعون الخبر عن "ما آتى على الانسان" وهو آدم عليه السلام قال والحين زمن كونه طينا. وفي تسهيل ابن مالك أنه تتعين مرادفة هل لقد اذا دخلت عليها الهمزة يعني كما في البيت ومفهومه أنها لا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها بل قد تأتي لذلك كما في الآية وقد لا تأتي له أو أراد أنها اذا لم تدخل عليها الهمزة احتملت الاستفهام ومرادفة قد وقد عكس قوم ما قاله الزمخشري فزعموا ان هل لا تأتي بمعنى قد اصلا قال ابن هشام وهذا هو الصواب عندي إذ لا متمسك من اثبت ذلك الا أحد ثلاثة أمور.
أحدها تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، ولعله اراد أن الاستفهام في الآية للتقرير وليس باستفهام حقيقي، أو قد صرح بذلك جماعة من المفسرين فقال بعضهم هل هنا للاستفهام التقريري والمقرر به من أنكر البعث وقد علم انهم يقولون نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه فيقال لهم فالذي احدث الناس بعد أن لم يكونوا كيف يمتنع عليه أحياء هم بعد موتهم وهو معنى قوله تعالى
{ ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } أي هلا تذكرون فتعلمون ان من انشأ شيئا بعد أن لم يكن قادر على إعادته بعد موته انتهى. وقال آخر مثل ذلك الا أنه فسر الحين بزمان التطوير في الرحم فقال المعنى ألم يأت على الانسان حين من الدهر كانوا فيه نطفا ثم علقا ثم مضغا الى أن صاروا شيئا مذكورا. وكذا قال الزجاج الا أنه حمل الانسان على آدم عليه السلام فقال المعنى ألم يأت على الانسان حين من الدهر كان فيه ترابا وطينا الى ان نفخ فيه الروح انتهى وقال بعضهم لا تكون هل للاستفهام التقريري وإنما ذلك من خصائص الهمزة، وليس كما قال وذكر جماعة من النحويين أن هل تكون بمنزلة ان في افادة التاكيد والتحقيق يعني فهي عندهم في التاكيد ابلغ من قد وحملوا على ذلك { { هل في ذلك قسم لذي حجر } وقدروه جوابا للقسم وهو بعيد. والدليل الثاني قول سيبويه الذي شاقه العرب وفهم مقاصدهم وقد مضى ان سيبويه لم يقل ذلك.
والثالث دخول الهمزة عليها في البيت والحرف لا يدخل على مثله في المعنى وقد رأيت عن السيرافي في الرواية الصحيحة ام هل وام هذه منطقه بمعنى بل فلا دليل. وبتقدير ثبوت تلك الرواية فالبيت شاذ يمكن تخريجه على أنه من الجمع بين حرفين بمعنى واحد على سبيل التوكيد كقوله *ولا المما بهم ابدا دواء* بل الذي في البيت أسهل لاختلاف اللفظين وكون احدهما على حرفين كقوله:

فاصبح لا يسألنه عن بمابه أصعد في جوالهوى أم تصوبا

انتهى كلام ابن هشام { أَتَى } مر *{ عَلَى الإِنْسَانِ } قيل آدم وقيل الجنس وقيل الصحيح المراد الجنس لسلامته من الخروج عن القاعدة التي هي ان المعرفة المعادة عين الأولى والجواب ان ها هنا قرينة واضحة كالشمس فلا يتوهم لبس *{ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ } مدة منه قليلة ويوافقه قول من قال هل بمعنى قد التقريبية وقيل المدة هذه قدر أربعين سنة من سنيننا وقيل ستة أشهر. وقيل بقي أربعين سنة طينا وأربعين سنة حماء مسنونا وأربعين سنة صلصالا كالفخار فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة.
وعن أنس عنه صلى الله عليه وسلم صور الله آدم في الجنة وتركه ما شاء الله في الجنة فجعل ابليس يدور به وينظر فلما رأه أجوف أي ذا جوف أي بطن أو رأي داخله خاليا علم أنه خلق لا يتمالك اي لا يحبس نفسه عن الشهوات وقيل لا يملك دفع الوسواس عن نفسه وقيل لا يملك نفسه عند الغضب. والذي حفظناه مشهورا أنه خلق في الدنيا وحملته الملائكة الى الجنة بعدما نفخ فيه الروح *{ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَذْكُوراً } لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به، وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح كان شيئا غير مذكور. وسمع عمر رجلا يقرأ الآية هذه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَذْكُوراً } فقال عمر ليتها تمت اي ليته بقي على ما كان عليه والضمير لتلك الحالة وهي كونه غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف.
وروي عن أبي بكر وابن مسعود مثل هذا وعن عمر انه قرأها رافعا صوته فقال يا ليتني مت قبل هذا كانه أراد ليتني عدمت ولم أخلق أو أراد أن الانسان في الآية الجنس فتمنى أن يكون نطفة غير مخلقة فلا يخرج للوجود فيبلغ التكليف وهذا هو الظاهر. وعنه أنه قال يا ليتني كنت هذه النيتة لنبتة أخذها من الأرض، ويا ليتني لم تلدني أمي، يا ليتني كنت نسيا منسيا يا ليتني لم أكن شيئا. والجملة حال من الانسان أو نعت لحين والرابط بين النعت والمنعوت محذوف اي مذكورا فيه، وهذا الجار المقدر معلق بمذكور أو ليكن أو نعت لشيئا، ويدل على أن الانسان الجنس قوله *{ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } فان الانسان في هذه الآية الجنس لأن آدم من الطين لا من النطفة فيكون ذكر كل أحد ونبهه بما هو نفسه وبما خلق منه. فمعنى كونه أتي عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا أنه مضى عليه زمان وهو في الاصلاب لا يذكر ولا يعرف أو مضى عليه وهو في الرحم نطفة ثم علقة ثم مضغة وذلك لا بعين إرادة الجنس بالانسان المذكور، أو لا لجواز ان يذكر او لا حال ابينا آدم ثم ذكر احوال بنيه *{ أمْشَاجٍ } اخلاط جمع مشج أو مشيج يقال مشجت الشيء إذا خلطته، والمراد مجموع مني الرجل والمرأة وكل منهما له أجزاء في الرقة والقوام والخواص. فمن هذا صح الجمع ولكونه أجزاء تختلف اعضاؤه وقيل الوان فان ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا أخضرا، وقيل اطوار فان النطفة تصير علقة ثم مضغة الى تمام الخلق وعن قتادة الوان واطوار. وعن ابن مسعود عروق النطفة وعن ابن عباس ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد فماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فايهما علا صاحبه كان الشبه له والعصب والعظم من ماء الرجل واللحم والدم والشعر من ماء المرأة وقيل كل لونين اختلطا فهما امشاج وقيل الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فهي نطفة ذات أمشاج.
وقيل أمشاج مفرد كبرمة اعشار وبرد اكياش اي اعيد غزله كالخز والصوف أو هو الردى أو من برود اليمن يغزل مرتين وعن بعضهم أن ذلك كله من نعت المفرد بالجمع واجيب بان النطفة لما كانت من أشياء كل منها مشيج والبرمه من اعشار هي قطعها والثوب من قطع كل منها خلق كان كل من الثلاثة مجموع اجزاء فجاز وصفه بالجمع والظاهر أنه مفرد في قول من قال كل لونين اختلطا فهما امشاج { نَبْتَلِيهِ } نختبره بالامر والنهي حال من نا اي مبتلين له مريدين اختباره أو ناقلين له من حال الى حال، فاستعار الابتلاء للنقل والحال مقدرة مثل مررت برجل له صقر صائدا به غدا الا على التاويل بالارادة، فالحال مقارنة.
وعن ابن عباس ما ذكر ننقله من حال الى حال في بطن امه نطفة ثم علقة، ويجوز كون الجملة مستأنفة *{ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } الفاء عاطفة سببية فان الجعل سمعيا بصيرا كانه مسبب عن الابتلاء لأنه جعله كذلك ليشاهد الدلائل ويسمع الآيات وزعم بعضهم أن في ذلك لتقديما وتأخيرا اي جعلناه سميعا بصيرا فنبتليه وهو تعسف وقيل المعنى أنا خلقنا الانسان من هذه الامشاج للابتلاء والامتحان وخص العضوين بالذكر لانهما اعظم الحواس وقيل المراد الفهم والتمييز.