التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
١
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَسْألونَك عَنِ الأنْفالِ } السؤال سؤال استخبار، فعن على: أصلها والأنفال الغنائم، سميت الغنيمة نفلا بفتح النون والفاء، أو بسكون الفاء ونافلة، لأنها زيادة على القيام بالجماد، وحماية الحوزة، والدعاء إلى الله عز وجل، والنفل والنافلة لغة الزيادة، ولأنها عطية من الله، تفضل بها على هذه الأمة فقط، يقال: نفله الله أو الإمام كذا، أى أعطاه إياه، وقيل: لا يقال نفله إلا إذا أعطاه زائدا عن حقه.
وقرأ ابن محيصن علنفال، بنقل حركة همزة أنفال إلى اللام، وحذف الهمزة وإدغام النون من عن فى اللام، وقع اختلاف من المسلمين فى غنائم بدر كيف تقسم؟ ولمن الحكم فى قسمها للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فجعلوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال: { يسألونك عن الأنفال } وقال جوابا لهم:
{ قُل الأنْفالُ للهِ والرَّسولِ } أمرها مختص بهما، فقسمتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما يأمره الله به، فإن شاء قسمها، وإن شاء أمر من يقسم، هذا ما يتبين لى فى تفسير الآية، وعليه الأكثر، وقيل: السؤال سؤال طلب، "فعن" إما زائدة مع أنها غير عرض عن أخرى، أى يطلبونك أن تعطيهم الأنفال، فالأنفال مفعول ثان ليسألونك، ويدل لهذا قراءة ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعلى ابن الحسن، وأبى جعفر محمد بن على، وجعفر بن محمد، وطلحة بن مصرف، وعكرمة، والضحاك، وعطاء: يسألونك الأنفال، وأل لاستغراق غنائم بدر على أنها طلبوها كلها، وللحقيقة على أنهم طلبوا بعضها، وإما بمعنى من الابتدائية فافهم، أو التبعضية وذلك أنهم افترقوا ثلاثا:
فرقة أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العريش الذى صنع له، تحميه وتؤنسه، وفرقة احاطت بالعدو، وفرقة تقاتل فقتلت وأسرت، وقالت: نحن أولى بالمغنم لأنا القاتلون الآسرون، وقالت المحيطة: هو لنا لأنا الآخذون والمحيطون بالعدو، وقالت القائمة بالعريش: نقدر أن نقاتل العدو، ولكن خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم غرة العدو فقمنا معه، فنزلت الآية.
وذكر الطبرى وغيره، عن ابن عباس:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرض على العدو قبل ذلك [بقوله]: من قتل قتيلا فله كذا، ومن أسر أسيرا فله كذا، ومن أتى مكان كذا فله كذا، ومن صنع كذا فله كذا، ومن أخذ شيئا فهو له، وأن الله وعدنى النصر والغنيمة" فسارع الشبان فقتلوا سبعين وأسروا سبعين، وبقيت الشيوخ تحت الرايات والوجوه، فقالت الشبان: الغنيمة لنا لذلك، وقالت الشيوخ: والوجوه: كنا ردءًا لكم وجنَّة تنحازون إليها لو انهزمتم، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو اليسر بن عمرو الأنصارى من بنى سلمة: أنجز لنا الوعد، قد قتلنا وأسرنا وفعلنا، فقال سعيد بن معاذ، وكان من وجوه [مَنْ] قعدوا بالعريش: ما منعنا أن نفعل ذلك زهد عن الآخرة، ولا حين، ولكن كرهنا أن تعطف الخيل فتصيبك والمسلمين، فأعرض عنهما، فقال سعد: إن أعطيتهم ذلك فما لسائر أصحابك، فان المغنم قليل فنزلت، فقسم على السواء فكان قسمه على السواء إصلاحا لما ساء من أخلاقهم فيه، وتقوى وإصلاحا لذات البين.
"وقال سعد بن أبى وقاص: قتل أخى عمير، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكنيفة فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد شفى الله بهذا السيف صدرى من المشركين فأعطنيه، وكأنه قاتل به بعد ما أخذه، أو أراد الشفاء يأخذه وكان عظيما، فقال لى: ليس لى ولا لك فاطرحه فى القبض" أى فى جملة المقبوض من سلب المشركين بفتح القاف والباء فطرحته وبى ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخى، وأخذ سلبى، وخفت أن يعطيه من لم يبل بلائى، "وروى أنه لم يأخذه، وإنما وجده فى جملة الغنيمة، فقال: أعطينيه فقد وجدته فى جملة الغنيمة، فأنا من قد علمت حاله، فقال: رده من حيث أخذته فأردت طرحه فى القبض فرجعت، فقلت: أعطنيه، فنهرنى: رده من حيث أخذته" .
وعلى الروايتين فما جاوز إلا قليلا، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه فقال: أخاف أن ينزل فى شئ، قال: "اذهب فخذه سألتنيه وليس لى والآن هو لى، وقد نزل: { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول }" وعن الكلبى أنه صرع وعد الأنصار المغنم، فتكلم فيه المهاجرون فنزلت الآية، فقال مالك بن ربيعة: أصبت سيف بن عائذ يوم بدر، وكان يسمى المرزبان، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ما بأيديهم من النفل فطرحته، فسأله إياه الأرقم المخزومى فأعطاه، وفى نفسى كراهة، وكان لا يرد سائلا.
وقضية سعد ونحوها تدل على أن الأنفال فى الآية ما يعطاه القاتل زيادة على سهمه، وأن معنى كونها لله ورسوله أنها لرسول الله ملكا يعطيها من يشاء، وقد قيل بذلك فى بدر فقط، وقال عطاء، وابن عباس فى رواية عنه: إن الأنفال هنا ما شذ من المشركين إلى المسلمين كالفرس الغائر، والعبد الآبق، والمتاع مما ليس سلبا هو للنبى صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما يشاء، وقال ابن عباس: الأنفال هنا ما وجد من مال المشركين بعد قسم الغنيمة هو له كذلك، وهذا أن القولان حكمهما مستمر فى غير بدر أيضا، وقيل: هما فيما ناله الجيش بعد الحرب، وارتفاع الخوف.
وعن ابن عباس: إن الأنفال ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه، وعنه: الغنيمة، ونسب للأكثر، وعنه: ما يعطى الغازى زيادة، وعن الحسن: الأنفال ما تجئ به السرايا وهو بعيد عن الآية لا يناسب الأسباب المذكورة، بل خارج عن يوم بدر، وعن مجاهد: هى الخمس، قال المهاجرن: لا يخرج منا، قيل: وهو قليل المناسبة للآية، أو قيل: الأسارى والغنيمة، وليست الآية منسوخة بآية الخمس، بل تضمنت أنها يضعها حيث أمر الله، وقد أمره فى غنائم بدر بالقسم على السوية، أو أجاز له أن يفعل فيها ما يشاء، وأمره فى سائر المغانم بالتخميس، وما ذكره فى آيته.
وإذا قلنا: إن السؤال والجواب فى غنائم بدر لم يصح النسخ أيضا، وقال مجاهد، وعكرمة، والسدى: منسوخة بآية الخمس، وهذا إنما يصح على أن السؤال عن الغنائم مطلقا، وكذا الجواب، أو على أن السؤال عن غنائم بدر، والجواب عام، وهى أيضا عند ابن زيد ناسخة لتحريم الغنائم على من قبلنا، وللإمام أو نائبه أن ينقل من الغنيمة قبل التخميس لمن يشاء من أهل الشجاعة وغيرهم، بحسب نظر المصلحة، ليحض على مكافحة العدو من أول الغنيمة أو وسطها أو آخرها، أو بعد الفراغ من القتال بما شاء من دابة أو عبد أو سلاح أو ذهب أو فضة أو لؤلؤ أو غير ذلك من المال، وأن يقول: من أخذ شيئا فله، ومن قتل أحدا فله سلبه، أو له كذا، ومن وصل موضع كذا فله كذا ونحو ذلك، ولو كان لا يحسن لأحد أن يقاتل بنية المال، ولا يعطى ما يدعى أنه سلبه، أو قتل صاحبه أو فعل ما يستحقه به إلا بنية.
وقيل: يجرى شاهد واحد كما جرى لأبى قتادة، ونسب للأكثر، وقال الأوزاعى: يعطى بمجرد دعواه وهو أوضح إذا نادى منادى الإمام بما ذكر، من أن من فعل كذا فله كذا ونحوه إذا وجد فى يده، ولا يجوز له أن يخلف الوعد فى ذلك إلا أن تبين له أن الحق أو الرأى والمصلحة غير ما وعد به، كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ترك لأمر الله له، بخلاف ذلك، أو لئلا يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصاف، وقيل: يلزمه الوفاء ولو خالف الرأى والمصلحة إن لم يخالف الحق.
وقال مالك لا ينفل إلا من الخمس، وقال بن المسيب: من خمس الخمس، وقال أنس: من أربعة الأخماس، وقال الشافعى وابن حنبل: بعد الغنيمة قبل التخميس وفرقة قبل القتال فقط، بأن يقول: من وصل موضع كذا، أو هدم من الحصن كذا ونحو ذلك مما مر فله كذا، ومنع مالك أن يقول لهم ذلك، وإن قال وفى، وعن الحسن: كان ينفل رسول الله بعد الخمس، وذكروا أنه كان ينفل فى البداءة الربع، وفى الرجعة الثلث، قيل: لأن الرجوع أشد خوفا، ومنع بعضهم أن ينفذ ذهبا وفضة أو لؤلؤاً ونحو ذلك.
وعن الشافعى: السلب للسالب ولو لم يقله الإمام لحكم النبى صلى الله عليه وسلم: وقيل: فى الغنيمة، وروى أن المسلمين عسكروا فأتى عليهم أبو عبيدة بن الجراح أميراً، وبلغ حبيب بن مسلمة، وكان فيهم علجا من الروم توجه فطلبه فقتله فاخذ سلبه، وقر خمسة أبغل ديباجا ولؤلؤاً، وقال أبو عبيدة: مالك منه إلا طابت به نفسى، فقال حبيب: أناشدك الله أن تظلمنى فيما أعطانى الله، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من قتل قتيلا فله سلبه" ؟ فقال: إنما ذلك فى غزوة بدر فقط، وسمعته يقول: إن ذلك إلى الإمام، فأخذه وخمسة فأعطاه الخمس، فبلغ عشرة آلاف، وقيل: إن كان السلب قليلا فللقاتل، والأخمس للقاتل، وقيل: للجميع، وعن سعيد بن المسيب: لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزعم ابن حنبل، والشافعى: أنما ينفل السالب ما سلب من مقبل مبارزة لا ما سلب من منهزم، واتفقوا أن السلاح سلب، واختلف فى الفرس وما يتزين به للحرب، وما فى الهيميان كدنانير ودراهم وجواهر ونحو ذلك، وزعم بعض أنهم اتفقوا أن ما فى الهيميان من ذلك ليس سلبا، وإن قال الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه، فقتل ذمى قتيلا فلا شئ له، وقيل: يرضح للذمى من الغنيمة، وإن قتل الإمام قتيلا بعد قوله ذلك فله سلبه.
وذكر الشيخ هود، عن ابن عمر: أعطانا صلى الله عليه وسلم من غنيمة غنمناها اثنى عشر بعيرا لكل واحد، ثم نفل لنا بعيرا بعيرا، وأنه صلى الله عليه وسلم كان فى الغزوة معهم، وذكر البخارى، ومسلم: أنه بعثهم، ويجمع بأنه لحقهم بعد البعث، وعن الحسن:
"أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم زماما من شعر قبل قسم الغنيمة، فقال: سألتنى زماماً من شعر نار فوالله ما كان لك أن تسأله ولا لى أن أعطيكه ولو أعطيتكه لأعطيتك زماما من نار" .
{ فاتَّقُوا اللهَ } بترك المحرمات والنزاع فى الغنائم { وأصلحُوا ذات بيْنكم } ذات بمعنى صاحبة، وهى واقعة على الحالة، وبين هى الظرفية فى مثل قولك: قعدت بين زيد وعمرو، والمعنى أصلحوا الحال التى بينكم بالمساواة والمساعدة فى أمر الغنائم والتسليم لأمر الله ورسوله فيه، فإنها قد فسدت بنزاعكم، فاحتاجت إلى أن ترد كما كانت من محبة وألفة ومتابعة، و عن بعضهم: إصلاحها برد بعض على بعض فيما أخذوا من السلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل كلاما سلب ان قاتله فأمره الله بالرد، وما فسرت به ذات بينكم حق واضح راجح لا يشكل منه شئ إن شاء الله.
وقول بعض: إنه متناقض خطأ ولك أن تجعل ذات بمعنى نفس، كأنه قيل: أصلحوا نفس بينكم، كما تقول: مررت بذات زيد تريد زيدا نفسه، وذكر بعضهم أن هذا يستعمله الناس، وليس عربيا فلا تفسر به الآية على هذا، ولك أن تجعل البين بمعنى الانفصال، لأنهما تخالفوا بالنزاع، أى أصلحوا الحالة التى هى صاحبة تقاطعكم، وهى ما يقع على التقاطع بالنزاع مثلا من البغض والغضب، وإصلاحها بإزالتها، أو أصلحوا نفس تقاطعكم بإزالته، يقال: أصلح الفساد أى أزاله، وقال الزجاج: البين هنا الوصل وهو ضعيف.
{ وأطِيعُوا اللهَ ورسُولَه } فى كل ما أمركم به، ونهاكم عنه، من أمر الغنيمة وغيره { إنْ كُنتم مُؤمِنِينَ } فإن الإيمان يقتضى ذلك، كما تقول: إن كنت جيدا فافعل كذا تريد الإشارة إلى أنه غير جيد إن لم يفعله، أو معنى مؤمنين كاملى الإيمان، إشارة إلى أنه يكمل باتقاء المعاصى وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله فى الأمر والنهى, كما تقول: إن كنت رجلا فافعل كذا، تريد إن كنت كامل الرجولة، وزعم بعضهم عن سيبويه أنه يجيز تقديم جواب الشرط، وأنه هنا أطيعوا الله ورسوله، وعن المبرد أنه لا يتقدم، وأنه محذوف مقدم كمثل ما سبق، أى إن كنتم مؤمنين فأطيعوهما.