التفاسير

< >
عرض

وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
١٠
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وما جَعَله } أى الوعد والإرداف المسبوك اللفظ فى قراءة فتح أن، والمدلول عليه بلفظ ممد فى قراءة الكسر، أو المدد أو الألف نظرا لإفراد اللفظ، أو لقول أو استجابة أنى ممدكم { اللهُ إلا بُشْرى لَكُم } بشارة لكم بالنصر { ولتَطْمئنَّ } متعلق بمحذوف، أى وفعل ذلك لتطمئن، أو بمحذوف معطوف على بشرى، أى وثابتا لتطمئن عند مجيز الإخبار بالتعليل، وإن جعلت لام لكم التعليل سواء علقت بمحذوف نعت بشرى، أو بجعل فلتطمئن معطوف على لكم، ولكن الأولى فى لام لكم أنها للتعليل.
{ بِهِ قُلوبُكم } فيزول ما فيها من الخوف لقلتكم إذا رأيتموهم وسمعتم أصواتهم فيكم، وكانوا يقولون: اثبتوا فإن عدوكم قليل، وإن الله معكم، ولم ينزلوا ليقاتلوا، وإلا فملك واحد كاف فى إهلاك أهل الدنيا، وقد حمل جبريل مدائن قوم لوط بريشة واحدة، وأهلك قوم صالح بصيحة واحدة فيما قيل، من قال: قاتلت الملائكة يوم بدر قال: إن المراد بالذات فى إرسالها البشرى، والاطمئنان وتكثير العدد، وقتالها كان بالعرض، ولا يقتلون أحدا إلا بأمر الله، ولم يرد الله أن يقاتلوا إلا على هيئة قتال الآدميين، ويكون الفعل للنبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويوافق أنهم قاتلوا ما قال أبو داود المازنى: إنى لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى، فعرفت أنه قتله غيرى، ومثل هذا عن أبى واقد الليثى، وعن ابن عباس: بينما مسلم الأنصارى يشتد فى أثر مشرك إذ سمع ضربة السوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه، فأخبر الأنصارى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة.
وعن سهل بن عمرو: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق، بين السماء والأرض معلمين، يقتلون ويأسرون، وعن أبى أمامة بن سهل قال لى: إنى لقد رأيتما فى يوم بدر، وإن أحدنا ليشير بكفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وعن أبى بردة:
"جئت يوم بدر بثلاثة رءوس فوضعتهن بين يدي النبى صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أما رأسان فأنا قتلتهما، وأما الثالث فإنى رأيت رجلا أبيض طويلا ضربه، فأخذت أنا رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك فلان من الملائكة" .
وعن السائب بن أبى حبيش: "انهزمت مع قريش، فأدركنى رجل طويل على فرس أبيض بين السماء والأرض فأوثقنى رباطا، وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدنى مربوطا، فكان عبد الرحمن ينادى من أسر هذا؟ فليس يزعم أحد أنه أسرنى حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى: يا ابن حبيش من أسرك؟ فقلت: لا أعرفه وكرهت أن أخبره بالذى رأيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسره ملك اذهب يا ابن عوف بأسيرك" فذهب بى وتأخر إسلامى حتى كان ما كان.
وروى
"أن رجلا قصيرا جاء بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرنى، لقد أسرنى رجل أجلح من أحسن الناس وجها، على فرس أنثى ما أراه، فقال الأنصارى: بل أنا أسرته يا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسكت فقد أيدك الله بملك كريم" وكان الأنصارى يعرف بأبى اليسر كعب بن عمرو.
وروى أنه قيل للعباس: كيف أسرك أبو اليسر وهو ذميم وأنت جسيم ولو شئت لجعلته فى كفك؟ فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر فى عينى كالخندمة يعنى جبلا من جبال مكة، وروى أنه قيل لأبى اليسر: كيف أسرته؟ فقال: أعاننى عليه رجل من صفته كذا، وما رأيته قبل ولا بعد.
ولما ولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه صلى الله عليه وسلم يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار فأطلقوه وفهموا أنه صلى الله عليه وسلم رضى بفك وثاقه، وسألوه أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم.
وعن رجل من بنى سعد بن بكر: أبصرت يوم بدر رجلا بين يدى منهزما فقلت: ألحقه أستأسره، فتدلى من جرف فلحقته، فإذا رأسه قد زايله ساقطا، وما رأيت قربه أحدا، ورأى حكيم بن خزام فى المنام بخارا قد سد الأفق فى بدر، فإذا الوادى يسيل نملا، فوقع فى نفسى أن هذا شئ أيد به محمد، فما كانت إلا الهزيمة، وقال: التقينا فاقتتلنا، فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض مثل الحصاة فى الطست الحديد.
قال نوفل بن معاوية: انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع كوقع الحصى فى الطساس فى أفئدتنا ومن خلفنا، فكان ذلك من أشد الرعب علينا، وروى أن أبا جهل قال لابن مسعود: من أين ذلك الصوت الذى كنا نسمع ولا نرى شخصا، فقال: من الملائكة، فقال: هم غلبونا لا أنتم.
قال قباث بن أشيم:
"نظرت إلى كثرتنا وقلة أصحاب محمد فانهزمنا، وإنى لا أقول فى نفسى ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء، ولما كان أمر الخندق قلت: لو قدمت إلى محمد فأنظر ما يقول وقد وقع الإسلام فى قلبى، فقدمت المدينة فسألت عنه فقالوا: هو ذاك فى ظل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته ولا أعرفه فسلمت فقال: يا قباث بن أشيم أنت القائل يوم بدر ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء؟ فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن هذا الأمر ما خرج منى إلى أحد لولا أنك نبى ما أطلعك الله عليه، هلم أبايعك، فعرض على الإسلام فأسلمت" . وليس فى الآية ما يدل على أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم فيما قيل، فإن الاستجابة يمكن أن تقع فى غيبه تعالى، وقد روى أنهم علموا ذلك قبل القتال.
{ ومَا النَّصرُ إلا مِن عِنْد اللهِ } وأما الأمداد وكثرة العدد ونحوهما فوسائط لا ناصرة، ولا يتأسوا بفقدها أو وما النصر بهذه الوسائط إلا من عند الله فلا تتقوا إلا بالله { إنَّ اللهَ عزيزٌ } غالب قاهر { حَكيمٌ } فى ما يفعل، ينصر من اقتضت الحكمة نصره.
ومن كتب فى بطاقة فى السابع والعشرين من رمضان: { وما جعله إلا بشرى } الآية وجعلها تحت فص خاتم، وحمله هواء وغيره لم يزل حاله مسرورا منصورا على عدوه.