التفاسير

< >
عرض

إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ
١١
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إذْ } بدل ثان من إذ فى قوله: { إذ يعدكم } أو بدل من إذ المبدلة من هذه، وإنما صح الإبدال وهو إبدال الشئ من الشئ فى الموضعين، مع أن كلا من وقت الوعد، ووقت الاستغاثة، ووقت الإغشاء غير الآخر لاعتبار مجموعها وقتا واحدا واسعا، وإن اعتبرت المغابرة فالإبدال إبدال إضراب انتقالى، أو وقت الوعد، ووقت الاستغاثة واحد، أو وإذ هذه مفعول لا ذكروا محذوفا مستأنفا، أو متعلق بالنصر أو باستقرار قوله: { من عند الله } أو به لنيابته عن الاستقرار، أو بجعل أو بتطمئن أو بحكيم.
{ يغَشِّيكُم النُّعاسَ } فى يغشى ضمير الله، وهو مضارع أغشى تعدى لاثنين بالهمزة والكاف مفعول ثان، والنعاس مفعول أول، لأنه هو المجعول غاشيا، وذلك قراءة نافع والأعرج، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر والكسائى بفتح الغين وتشديد الشين، وبه قرأ عروة ابن الزبير، والحسن، وأبى رجاء، وعكرمة وغيرهم، والإعراب مثله فى ذلك، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: إذ يغشاكم النعاس بفتح الياء والشين ورفع النعاس، وبه قرأ مجاهد، وابن محيصن، وأهل مكة وإغشاءهم النعاس إدخاله عليهم وتغطيتهم به، وذلك استعارة، والنعاس النوم الخفيف يصيب الإنسان وهو قائم أو ماش.
{ أمنةً منهُ } أمنة مفعول لأجله بمعنى أمنا منه، أى من الله نعت أمنة، وفاعل الأمن الله، وأما فى قراءة ابن كثير وفاعلها النعاس على الإسناد المجازى وعليها فالهاء فى منه عائدة للنعاس، والأمنة من أمن المتعدى فى ذلك، وإن جعل من اللازم كان فاعله المسلمون، وفاعل الإغشاء أو التغشية الله، وفاعل الغشى فى قراءة ابن كثير النعاس، فلا يكون أمنة مفعولا لأجله على المشهور لاختلاف الفاعل، وقد يجعل فاعل الأمنة النعاس على سبيل الإسناد المجازى أيضا، فيتحد الفاعل فى قراءة ابن كثير، أو على أن من حقه أن لا يغشاهم، فلما غشيهم صار كأنه حصلت له أمنة من الله، لولاها لم يغشيهم، ويجوز تضمين يغشيكم ويغشينكم ويغشاكم معنى تنعسون، والأمنة فعل لفاعل ذلك، وهو مصدر أمن، يقال: أمن أخوك، وأمنت أخاك أمنا وأمانا وأمنة، وقرأ ابن محيصن أمنة بإسكان الميم.
وعن ابن مسعود، وابن عباس: النعاس فى القتال أمنة من الله، وفى الصلاة وسوسة من الشيطان، وهذه نعمة عظيمة اشتد حالهم بالخوف والعطش، فألقى عليهم النوم فاستيقظوا، وقد خف عنهم ذلك، ولما ناموا ولم يصبهم العدو فى نومهم، كان ذلك قوة فيهم واجتراء عليه، وكان خفيفا بحيث لو قصدهم العدو لقاموا به وعرفوه، وهو فى ذلك الوقت خارق للعادة، ومعجزة له صلى الله عليه وسلم، كما أن إسماع أهل القليب فيما قيل كذلك، روى أنهم نعسوا حتى وقع السلاح من أيديهم.
{ ويُنزِّلُ عَليْكم مِن السَّماء ماءً ليُطهِّركُم بهِ } من الحدث والجنابة، وقرئ: ينزل بإسكان النون بعد ضم الياء، وقرأ الشعبى ما ليطهركم، قال أبو الفتح بن جنى: ما اسم موصل أى الذى للتطهير وهو الماء وهو ضعيف، وقرأ ابن المسيب بسكون الطاء { ويُذْهِبَ عنكُمْ } وقرأ عيسى بن عمرو بإسكان الباء تخفيفا { رِجْز الشَّيطانِ } وهو الجنابة لأنها من تخييله أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش، أو جميع ذلك، والرجز العذاب، وذلك عذاب منه لهم، وقرأ ابن محيصن بضم الراء، وقرأ ابن العالية بالسين.
{ وليَرْبطَ عَلى قُلوبكُم } يشد عليها بالصبر فتتوصل إلى الوثوق بالله واليقين، والتشجع على العدو والتثبيت، ولا حاجة إلى الحكم بزيادة على، فإنه كما يقال: ربطت الشئ يقال: ربطت عليه { ويُثبِّت بهِ } بالماء { الأقْدامَ } فلا تسوح فى الرمل أو الماء للربط، فانه إذا ربط على القلب ثبت القدم فى موطن القتال، روى أنه صلى الله عليه وسلم، نزل قريبا من بدر، وقد أمطرت السماء غير كثير، ونزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادى، ونزل المسلمون على كثيب أى تراب متراكم أعفر، أى مائل إلى البياض تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وقد سبقهم المشركون إلى ماء بدر فأحرزوه، وحفروا القليب لأنفسهم.
وأصبح المسلمون بعضهم محدث، وبعضهم جنب، وأصابهم الظمأ وهم لا يصلون إلى الماء، ووسوس الشيطان لبعضهم وقال: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبى الله، وأنكم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم عطاش وتصلون محدثين مجنبين، وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويذهب قواكم، فيتحكموا فيكم كيف شاءوا، فأرسل الله عليهم مطرا فى الليل أسال منه الوادى، فشرب المسلمون واغتسلوا وتوضئوا، وسقوا الركاب وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار، ولبَّد الأرض، حتى ثبتت عليها الأقدام، وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم فذلك قوله: تعالى: { وينزل عليكم من السماء ماء } الآية.
وكانت الأرض التى عليها المشركون تزلق بهذا الماء فقيل: لكثرته فيها، وقيل: معجزة ماء واحد على قدر واحد فى أرض واحدة، زلق أرضهم حتى لا يقدروا على الانتقال بسرعة، ولبد أرض المسلمين، قال بعضهم:
"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، فنزل بأدنى ماء بدر، فقال له الخباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل منزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: بل الرأى والحرب والمكيدة قال: يا رسول الله صلى الله عليك، فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فتنزله، ثم تغور ما وراءه من القلب ثم نبنى عليه حوضا فتملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأى فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى أتى أدنى ماء إلى القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية" .