التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ومَنْ يُولِّهم } منكم { يَوْمئذٍ } أى يوم إذ لقيتموهم مطلقا بدر أو غيره { دُبرهُ } خلفه، وسكن الحسن الباء والتفسير بالدبر بتشنيع على الفار { إلا مُتحرِّفاً } عنهم { لِقتالٍ } مجموع إلا والمنصوب بعد حال، أو هى الحال على أنها اسم ظهر إعرابها فى ما بعدها لكونها بصورة الحرف قولان فى مثله، أى ومن يولهم دبره غير متحرف، وصاحب الحال الضمير المستتر.
وإن قلت: إذا كان الحال على القول الأول مجموع إلا وما بعدها فما وجه النصب فيها بعدها.
قلت: لما لم يكن له إعراب على حدة، وكان اسما معربا احتاج إلى أن يكون على صورة ما سلط عليه العامل، فجئ به على صورة المنصوب، لأن محله مع إلا النصب، وعلى القولين: فلا عمل إلا فى متحرفا وأحسن من ذلك أن يكون النصب على الاستثناء من الضمير المستتر، لأنه من حيث المعنى عام، قيل: أو من مَنْ فالناصب له إلا، أو يؤول أو غيرهما مما ذكرته فى النحو، واللام للتعلل أو لشبه التمليك، وقيل: بمعنى إلى، وقيل: للتعدية أو متحيزا متفيعل من حاز يجوز، أصله متحيوز اجتمعت الياء والواو، وسكنت السابقة فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء لا متفعل، وإلا قيل: متحوزا ولا وجه لقول بعضهم استثناء المتحرف والمتحيز من أنواع التولى، لأنه لم يقل إلا متحرفا لقتال أو تحيزاً، إلا إن أراد الاستثناء المنقطع، ولأنه لا يستثنى من الفعل ولو صح المعنى بالنظر إلى معنى مصدره.
{ إلَى فئةٍ } جماعة حاضرة معه فى القتال قريبة منه ومعنى التحرف لقتال أن يتصور بصورة المنهزم فيعطف على من لحقه فيقتله، وذلك يكون بسبب تحصن العدو فلا يحد لقتله مدخلا، فإذا تهازم برز له، ولسبب أنه اجتمع عليه رجلان أو ثلاثة، فإذا تهازم لحقه أحدهما أو أحدهم فقط، فيقدر عليه، وكذا إذا اتبعوه ووصل إليه أحدهم قبل غيره، ولغير ذلك من الأسباب، وذلك باب من خدع الحرب.
والتحيز إلى فئة أن ينضم بعد انفراد، أو من جماعة إلى جماعة من المسلمين يستعين بهم ويتقوى، وزعم بعضهم أن التحيز جائز ولو إلى فئة بعيدة غير حاضرة فى القتال لما قال الحسن عن عمر بن الخطاب، لما بلغه وهو فى المدينة أن أبا عبيدة بن الجراح وأصحابه قتلوا يوم القادسية: رحم الله أبا عبيدة لو انحاز إلينا لكنا فئته، وكذا روى ابن سيرين، وزاد عن عمر إنا فئة كل مسلم.
وعن عبد الله بن عمر:
"خرجت فى سارية ففروا، فلما دخلوا المدينة دخلوا البيوت حياء، فقلت: يا رسول الله نحن الفرارون، فقال: بل أنتم العكارون - أى الكرارون - وأنا فئتكم" وروى أن رجلا فر من القادسية فقال لعمر: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال، فقال أنا فئتك، وعن الحسن: لو أن أهل سمرقند انحازوا إلينا، ونسأل الله العافية من ذلك لكنا لهم فئة، وكان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما يقولان للجيوش، إن غلبكم أمر فانحازوا إلينا فإنا فئتكم، وإنما لم يكن ذلك كبيرة لنية الرجوع إلى العدة وإلى العدو بعدة قوية من القربة مثلا.
{ فقدْ باءَ } رجع { بغَضَبٍ مِنَ اللهِ ومَأوَاهُ } مصيره ومرجعه { جَهنَّم } وفيه إيماه إلى أن الموضع الذى هرب إليه مثل جهنم فى حقه { وبِئْس المصِيرُ } هى ومذهبنا كما تعلم من كلامى أن الفرار من الزحف كبيرة، وهى موبقة فى كل قتال للمشركين، ومثله قتال المنافقين، إلا إن فر تحرفا لقتال، أو تحيزا إلى فئة قريبة حاضرة للقتال، أو كان المسلمون أقل من نصف العدو، وكما قال ابن عباس: ما فر من فر من ثلاثة، والمراعى فى ذلك هو العدد، وبذلك قال الجمهور.
وقالت فرقة منهم ابن الماجشون وهو من المالكية: فر أى أيضا العدة والقوة، فيجوز على قولهم أن تفر المائة من مائة مثلا إذا علمت أن فيها أكثر من ضعفها عدة أو شجاعة، وذكروا عن أبى سعيد الخدرى، والحسن، وقتادة، والضحاك، ونافع: أن الآية فى قتال بدر خاصة، وجد الفرار فى غيرها لأنه تحيز إلى فئة، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان معهم يوم بدر، ولا فئة لهم ينحازون إليها دون النبى صلى الله عليه وسلم، ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين، ولأنه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه.
وكتب عبد الله بن عون إلى نافع يسأله عن الفرار من الزحف فقال: إنما حرم يوم بدر، فإن صح ما مر عن النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر من قولهم: إنا فئة من انحاء الينا وليسوا فى قتال كان لهم حجة، وصح لهم تخصيص الآية ببدر، وإلا فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وأما قوله تعالى فى شأن أحد:
{ { ولقد عفا الله عنهم } فما استدلوا به، ولا دليل فيه لجواز أن يكون المعنى قد عفى عنهم لتوبتهم من الفرار الذى هو كبيرة، وذكروا أنه إن جاء المسلمين عدوٌّ لا يطيقونه تحيزوا إلى البصرة، وإن جاء ما يغلبهم تحيزوا إلى الكوفة، وإن جاء ما يغلبهم تحيزوا إلى الشام، فإن جاء ما يغلبهم تحيزوا إلى المدينة، فإن جاء ما يغلبهم فليس ثم تحيزٌ، وصار الجهاد فريضة بعد أن كان دخوله متطوعا، وأنه ما قبض صلى الله عليه وسلم حتى كان تطوعا.