التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٥
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ومَا كانَ صَلاتُهم عِنْد البيْتِ } الكعبة { إلا مُكاءً } صفيرا من مكا يمكو كدعا دعاء، ورغا رغاء، وبكى بكاء، وصرخ صراخا ونحو ذلك من الأفعال الدالة على الصوت الثلاثية المفتوحة السين الآتى مصدرها بوزن فعال بضه الفاء وتخفيف العين، وقال قتادة: المكاء ضرب الأيدى وهو ضعيف، وليس بخارج عن القياس فى المصدرية لخروج الصوت من الضرب، وقيل: المكاء الصفير فى الأيدى، وقرأ إلا مكا بالقصر، ونسب لأبى عمرو، والمشهور عنه المد.
{ وتَصْدِيةً } تصفيقا تفعلة من الصدى كزكى تزكية بتخفيف الياء، يقال صدى بالتشديد الجبل ونحو تصديه ردد مثل الصوت الذى يلفظ به الإنسان أو غيره، وذلك أنهم يضربون أيديهم هذا هو المشهور، وقال قتادة: يضجون ويصيحون بما لا يعنى، وبما لا معنى له، وذلك التصدية، وعلى كل حال فقد شبه صوت تصفيقهم أو صياحهم بالصوت الذى يرده الجبل ونحوه فى عدم النفع، أو فى كونه لا معنى له، وربما صاحوا بماله معنى، لكنه كعدم المعنى لأنه غير معتبر، ويصح على تفسير قتادة أن يكون من صد يصد بكسر الصاد إذا ضج وصاح، وهو لازم ضعف للمبالغة فعيل صدد يصدد بتشديد الدال الأولى فيهما، أبدلت الثالثة فيهما حرف علة فقيل: صدى يصدى بدال واحدة مشددة، مثل زكى يزكى، فالمصدر تصدية كتزكية.
وقال سعيد بن جبير: التصدية المنع، فأما أن يكون تفسيرا بالواقع من تصفيقهم أو صياحهم فإنه منع عن الصلاة والقراءة، أو تفسير بالصد الذى هو المنع وهو الصد المتعدى، شدد للمبالغة، فهو من صده يصده بالضم فعيل صدده يصدده بتشديد الدال الأولى فيهما، أبدلت الثالثة حرف علة فكان المصدر تصدية كتزكية مثل ما مر.
وروى أنهم كانوا يدخلون أصابعهم فى أشداقهم، وذلك المكاء، ويصفرون، وذلك التصدية، وفى رواية عن ابن جبير: التصدية منعهم المؤمنين عن المسجد وأمر الدين، لا بأصوات اللغو، وعلى كل حال فالمراد بالآية ذكرهم بما يستحقون به العذاب، ويمتنع به أن يكونوا أولياء الله أو مسجده، فإن من كانت صلاته الصفير والتصفيق لا يليق وليا له، وكانوا يعتقدون أن المكاية والتصدية عند البيت صلاة أو دعاء، وكانوا كما قال ابن عباس: يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، يعنى قريشا، وكانوا يتقربون بذلك، وكان بعض أقوياء العرب يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء وبينهما أربعة أميال.
وإن قلنا: ليسوا متقربين بذلك، فمعنى كونه صلاة أنهم أبدلوا الصلاة به وجعلوه مكانها، وقيل: أحدثوا المكاء والتصدية حين جاء النبى والمؤمنون ليشغلوهم به عن الصلاة والقراءة والعبادة، ونسبه بعضهم لأكثر المفسرين، وكانوا إذا جاء النبى أو مؤمن يصلى اجتنفه رجلان يمينا وشمالا بالمكاء والتصدية، وكان نفر من بنى عبد الدار يعارضون النبى صلى الله عليه وسلم فى الطواف، يستهزئون به ويدخلون أصابعهم فى أفواههم ويصفقون كما قال مجاهد، وكان إذا دخل المسجد قام رجلان عن يمينه يصفران، ورجلان عن يساره يصفقان من بنى عبد الدار كما قال مقاتل.
صحح بعضهم ما مر من أن المكاء والتصدية عبادة قديمة فيهم، وبه قال ابن عباس، ويمكن أن يزيدوا فيهما ليشغلوه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقرأ الأعمش، وعاصم، وإبان بن ثعلب فى رواية عنهم بنصب صلاة على أنه خبر كان، ورفع مكاء وتصدية على الاسمية بكان، وفيها الإخبار بالمعرفة عن النكرة، وهو وارد فى السعة والضرورة، لكن الراجح عكسه، وزعم قوم أن هذه القراءة لحن.
وروى عن الأعمش أنه قال: قال بعض: إن هذه قراءة عاصم وقرأ بها فقال له: أفإن لحن عاصم تلحن أنت، وزعم الفارسى أن داعى هذا القارئ إلى ذلك توهمه أنه لو كان صلاة اسم كان لقيل: كانت، وممن قال لا يخبر بالمعرفة عن النكرة الا فى الضرورة: ابن هشام، وأجازه بعض فى السعة إن وصفت النكرة أو أضيفت أو تعلق بها شئ.
{ فذُوقُوا العَذابَ } يعنى القتل والأسر يوم بدر قاله الحسن، والضحاك، وابن جريج، ولا يلزم منه أن يكون ذلك نزل بعد بدر حكاية لما قيل لهم خلافا لبعض، بل يحتمل أن يكون قبله، وقد قالوا: ائتنا بعذاب فجاءهم هذا العذاب، وقد قيل: إن أل للعهد، والقائل لهم فذوقوا العذاب: الملائكة، أو شبه حالهم بحال من قيل له ذلك، ويحتمل أن يكون بعده قال بعضهم: الراجح أن يكون الكل نزل بعده حكاية، وقيل: العذاب عذاب الآخرة، كأنه قيل: يقال لهم فذوقوا العذاب، والقائل الملائكة { بما كُنْتم } بسبب كونكم { تكْفُرونَ } كفر اعتقاد، وكفر عمل.