التفاسير

< >
عرض

وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤١
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ واعْلمُوا أنَّما } اسم موصول، والفاء فى الخبر لشبه الموصول باسم الشرط فى العموم والإبهام، وعن الفراء: يجوز كون ما شرطية، وعليه فاسم أن محذوف أى أنه وهو ضمير الشأن كقوله:

إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جاذرا وظباء

ولا يجوز هذا عند سيبويه إلا فى الضرورة { غَنِمْتم } الغنيمة فى اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعى، فالغنيمة ما ناله المسلمون من المشركين بالقتال أو بالقهر كائنا ما كان، والمغنم الفوء بالشئ، واستثنى بعضهم الأصول فلا تسمى غنيمة، بل تسمى فيئا، وليس كذلك، فإن الفئ ما جاء بلا قتال وقهر: العشر والجزية، وأموال الصلح والمهادنة، وقال: من مات منهم فى دار الإسلام ولا وارث له، وإخراج الأصول قيل: وخمس الغنيمة ونحو ذلك، ولا خمس فيه هذا هو الصحيح، وهو قول الثورى، وعطاء.
وقال قتادة: كل ذلك يسمى غنيمة، ويسمى فيئًا، والغنيمة والفئ شئ واحد، وفيه الخمس، وكذا حكى ابن المنذر، عن الشافعى: أن فى الفئ الخمس لمن ذكره الله فى هذه الآية، وأربعة الأخماس للمقاتلة والمصالح، وذكر عنه أنه كان فى قرى فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم، وأن أربعة أخماسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يضعها حيث شاء، قال قتادة: إن الفئ داخل فى هذه الآية وإن هذه الآية ناسخة لقوله سبحانه فى سورة الحشر:
{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } الآية، وكانت هى الحكم أولا، ثم أعطى الله الخمس أهلها، وجعل أربعة الأخماس فى المقاتلين، ورد بأن هذه السورة ببدر قبل الحشر فى بنى النضير، وقيل: هذه الآية لقوله سبحانه: { قل الأنفال لله والرسول } وأن غنائم بدر لم تخمس، وأكثر الروايات أنها خمست.
ومنها أن عليا قال: كانت لى شارف من المغنم ببدر، وشارف أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس، والأكثرون على أنه لا يخمس الفئ، وأنه يقسم على المسلمين مطلقا بحسب المصلحة، فيعطى الرجل بالنظر إلى قومه، والرجل بالنظر إلى قتاله، والرجل بالنظر إلى عياله، والرجل بالنظر إلى حاجته، وكان الفئ فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم فيما ذكروا عن عمر خاصا به، يتصرف فيه كما شاء، ينفق منه سنة على عياله، والباقى فى السلاح والكراع، ويصرف بعده للمقاتلة الذين أثبت أسماءهم فى ديوان الجهاد بقدر ما يكفيهم، ثم مصالح المسلمين، ثم الأهم فالأهم، وقيل: للمقاتلة لأن بهم أرهب العدو، وكالنبى صلى الله عليه وسلم وقيل: هو الإمام.
{ مِنْ شَئٍ } حال من الرابط المحذوف، أى ما غنمتموه من شئ ومن للبيان، وفائدته التعميم حتى أنه يشمل الصبى والمرأة،
"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنب بعير، ثم أخذ وبرة منه وقال: ما لى ولا لكم منها، أى من الغنيمة مثل هذه إلا الخمس، ثم هو ردّ عليكم فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول نار وشنار على الغلة يوم القيامة ولكن الأكل والركوب والعلف، وليس أحدكم أحق بالغنيمة من الآخر ولو بالسهم وقيل: يا رسول الله استشهد فلان فقال: كلا إنى رأيته يجر إلى النار بعباءة غلها" .
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفى وهو ما يختاره لنفسه قبل القسمة، وتركه إكراما لأمته وادخارا لأجره، وكتب به إلى بنى زهرة وقيس: أنه له فيما غنموه إن آمنوا، وبكلمة الإخلاص والصلاة والزكاة، وإن لكم حظا فى الخمس، ولا صفى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع إلا ما قاله أبو ثور أنه باق للإمام وهو قول شاذ، وأما الأرض وسائر الأصول فإن شاء الإمام قسمها كسائر الغنيمة، وإن شاء تركها فى أيدى أهلها يجزأ من غلتها وبخراج يضربه عليها، وإن شاء فعل غير ذلك كبيعها بحسب المصلحة مثل أن يرى أنه لو قسمها لاشتغلوا بها عن الجهاد فلا يقسمها، وأما البالغون قبل ومن شارف البلوغ فللإمام عند مالك والجمهور القتل، ويستحسن فى أهل الشجاعة والكناية أو الفداء، ويستحسن فى ذى المنصب الذى لا رأى له ولا مكيدة أو المن، ويستحسن فى من يرجى فيه النفع والحنو على أسرى المسلمين أو الاسترقاق أو ضرب الجزية.
{ فأنَّ } بفتحة همزة أن عند الجمهور والمصدر من خبرها مبتدأ محذوف الخبر، أى فثبوت خمسه لله واجب أو حق أو لازم أو نحو ذلك، أو خبر لمحذوف أى فالحكم أو الواجب أو الحق اللازم أو نحو ذلك، ثبوت خمسه لله، أو فاعل لمحذوف أى فثابت كون خمسه لله، أو فحق ثبوت خمسه لله أو نحو ذلك.
وروى الجعبى عن أبى عمر، وقيل: الجعبى عن أبى بكر، عن عاصم وحسن، عن أبى عمرو بكسر الهمزة، ويؤيده قراءة النخعى فلله خمسه بإسقاط أن الموافق لإثباتها مكسورة فى عدم التأويل، والتقدير وقراءة الجمهور آكد وأثبت للإيجاب، كأنه قيل: فلا بد من إثبات الخمس فيه من حيث إنه إذا حذف الخبر أو المبتدأ أو رافع الفاعل، واحتمل أوجها من التقديرات كما رأيت كان أقوى لإيجابه من النص على واحد.
{ للهِ خُمسَهُ } وقرأ الحسن بإسكان الميم، والمراد بذكر الله تعظيمه، وافتتاح الجملة به للتبرك، وأن من حق الخمس أن يتقرب به إليه كما قال مالك، وأنه هو الحاكم فى الخمس يقسمه كيف شاء، وليس المراد أن له سهما من الخمس، فالدنيا والآخرة كلها لله، فإنما يقسم الخمس على الخمسة المذكورة بعده، أو سهمه سهم الرسول فيقسم أيضا الخمس المذكور على الخمسة المذكورة.
وقال مالك والزجاج: قسمه على الخمسة تمثيل بأهم من يدفع إليه لا حصر، فيجوز إعطاء الغير منه كقوله سبحانه:
{ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين } الخ وقد أجمعوا على جواز إنفاق الخير على غير من ذكر، والصحيح الأول، وبه أقول، وهو قول الشافعى، وأبى حنيفة ومالك، وابن عباس، والحسن بن محمد، وعطاء، وقتادة، والنخعى، وهو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
وذكر الطبرى، عن ابن عباس: أن الخمس مقسوم على أربعة، وسهم الرسول لقرابته، وليس له ولا لله شئ، وقال أبو العالية: المراد بذكر الله أن له سهما فيقسم الخمس على ستة، وسهم الله يصرف للكعبة، قيل: قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ قبضة يجعلها للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم الباقى على خمسة" وقيل: سهم الله لبيت المال، وقيل: يضم إلى سهم الرسول، وقال منذر بن سعيد: قالت فرقة: لفقراء المسلمين أو لبيت المال ورد عليه:
{ وللرَّسُولِ } سهمه بعد موته لمصالح المسلمين، وما فيه قوة الإسلام عند الشافعى وأحمد، وقالت فرقة: للكراع والسلاح، قال الأعمش، والنخعى: هو الذى كان أبو بكر وعمر يفعلانه، وقال علىّ، وقتادة، والحسن: للإمام وهو حسن، وقال أبو حنيفة: الأربعة المذكورة بعد، وقالت فرقة: هو لأصحاب أربعة الأخماس الباقية، وهم الجيش، وقال قوم: لقرابته صلى الله عليه وسلم، وقال مالك: إلى رأى الإمام، وقال أصحاب الا رأى هو لليتامى والمساكين وابن السبيل دون القرابة، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يورث.
واحتجوا بمنع أبى بكر وعمر وعثمان لذوى القربى، وعورض بنو هاشم بأن قريشا قربى، وقد منع أبو بكر بنى هاشم الخمس، وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم، وتزوج أيمكم، ويخدم من لا خادم له، وأما غنيكم فهو كابن سبيل ويتيم غنيين، لا يعطيان شيئا، فتراه منعهم من الخمس المذكور لهم فى القرآن إلا بشرط الفقر، فكيف يعطيهم سهم الرسول، وقيل: لم يكن فى مدة أبى بكر مغنم.
{ ولذِى القُرْبى } صاحب القرابة المراد الجنس، الصحيح أن لقرابته صلى الله عليه وسلم وهم المراد هنا سهما فى الخمس، ولو كانوا أغنياء، ولا يفضل الفقير والأقرب، على الغنى والقريب، وللذكر مثل حظ الأنثيين، وبه قال الإمام مالك، والشافعى، والجمهور، وقد أعطى النبى صلى الله عليه وسلم العباس رضى الله عنه مع كثرة ماله، وكذا الخلفاء بعده، والمشهور عن أبى بكر أنه لا يعطى أغنياءهم كما مر، وهو قول زيد بن علىّ قال: ليس لنا أن نبنى منه قصورا، ولا أن نركب منه البراذين.
وعن أبى حنيفة، وأصحاب الرأى: يقسم الخمس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لليتامى والمساكين وابن السبيل، ودخل فقراء القربى فى المساكين، ولا يعطى أغنياءهم، وقال قتادة، والحسن البصرى: كان سهم القرابة طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما توفى كان للخليفة، وقالت فرقة: هو لقرابة الإمام القائم بالأمر، وذوى القربى بنو هاشم، وبنو المطلب، وبه قال الشافعى، ومجاهد وعلى بن الحسن.
قال عثمان بن عفان، وهو من بنى عبد شمس، وجبير وهو بن مطعم، وهو من بنى نوفل،
"حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم القرابة من غنائم خيبر، وقيل حنين على بنى هاشم وبنى المطلب، ولم يعط بنى عبد شمس، ولا بنى نوفل: يا رسول الله بنو هاشم لا ننكر فضلهم لموضعك الذى وضعك الله منهم، وأما بنو المطلب فنحن وهم بمنزلة واحدة قرابتنا واحدة، وأعطيتهم ولم تعطنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شىء واحد، وشبك بين أصابعه، ما فرقنا بنو المطلب فى جاهلية ولا إسلام وكانوا مع بنى هاشم فى الشعب حين تألبت عليهم قريش، لا يواكلون، ولا يشاربون، ولا يناكحون" .
وقال على بن الحسين فى رواية، وعبد الله بن الحسين، وابن عباس: ذوو القربى هم بنو هاشم فقط، وقال قوم: قريش كافة، وعن ابن عباس: هم بنو هاشم، جعل لهم فى الخمس عوض عن الزكاة، وأبى ذلك علينا قومنا وقالوا: قريش كلها قربى.
{ واليَتَامَى } الذكور والإناث الذين لا آباء لهم، ولم يبلغوا، يعطون من الخمس إن كانوا فقراء وآباؤهم غير مشركين، واليتيم فى بنى آدم والجن من مات أبوه، وفى البهائم من ماتت أمه.
{ والمسَاكِينِ } أهل الحاجة من الموحِّدين.
{ وابْن السَّبِيلِ } البعيد عن أهله يعطى من الخمس ولو كان غنيا فى بلده إن احتاج، وأضيف للسبيل لأنه مسافر ماشٍ فيه، كأنه قيل: صاحب السبيل أو ملازمه، أو لأن السبيل تبرزه فكأنها تلده، وقيل: الخمس كله للقرابة، وقاله علىّ فقيل له: إن الله تعالى قال: { واليتامى والمساكين وابن السبيل } فقال: أيتامنا ومساكيننا، يعنى وأبناء السبيل منا، والآية نزلت ببدر عند الكلبى وهو الصحيح، وقال الواقدى: فى غزوة قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة.
ولا يجوز أن يحرم أحد من تلك الأصناف، وإن لم يوجد صنف صرف فيمن وجد، وقال مالك: إن للإمام أن يعطى الأحوج، وإن حرم الغير، وأما أربعة الأخماس فتعطى لمن شهد الوقعة، وللنبى صلى الله عليه وسلم سهم رجل فيها، يعطى للراجل سهم، وللفارس ثلاثة، واحد له واثنان لفرسه على الصحيح، وهو قول الجمهور، وبه قال مالك، والشافعى وأحمد.
وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: للراجل سهم، وللفارس سهمان، وروى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وإن كان للراجل أفراس لم يعط إلا على واحد، وأتى خالد ابن الوليد بفرس هجين فقال: لأن أسف التراب أحب إلىَّ من أن قسم له، وذكر بعضهم عنه صلى الله عليه وسلم قسم للهجين قسم للهجين وأعطاه سهما ولاحظ فى ذلك للطفل، والمرأة، والعبد، وقيل: إن يعطوا قاتلوا وقيل: يعطون بدون أن يجب لهم سهم تام.
{ إنْ كنتُم آمنْتم باللهِ } شرط لقوله: { واعلموا أنما غنمتم } الخ فيقدر جوابه من جنسه، أى { إن كنتم آمنتم بالله } إلى آخره { فاعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه } إلى قوله: { السبيل } أو فاعلموا أن لهؤلاء الخمس، أو فاعلموا أن لهم الخمس هذا هو الصحيح لقرب دليل الجواب، ولفظ اعلموا يتضمن الأمر بالانقياد لأمر الله، فإن العلم العملى إذا أمر به فالمقصود منه بالذات العمل، لا مجرد الإدراك، فإنه مقصود بالعرض، فكأنه قيل: سلموا إليهم الخمس، واكتفوا بأربعة الأخماس، وقيل: شرط لقوله:
{ { فاعلموا أن الله مولاكم } ويضعفه البعد، وأما العمل فموجود، فان المراد بعلم أنه مولاهم أن يجترءوا على العدو، ولا يبالوا به، وفى الآية إخبار عن اسم كان بالجملة الماضوية المثبتة المجردة من قد، وأوجب البصريون تقدير قد فى مثل ذلك، والصحيح أن الكلام صحيح بدون تقدير.
{ ومَا أنزلْنا } من آيات القرآن والمعجزات، والملائكة والنصر، والعطف على اسم الجلالة { عَلى عَبْدِنا } محمد صلى الله عليه وسلم، والإضافة للتشريف، وقرئ عبدنا بضم العين والياء جمع عبد بفتح فإسكان، وهم النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.
{ يَومَ الفُرقَان } متعلق بأنزلنا، والفرقان مصدر فرق المخفف على غير قياس، أو اسم مصدر لفرق المشدد، وفيه مبالغة ليست فى الفرق، ويوم الفرقان يوم بدر، لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل، بإعزاز الحق وإذلال الشرك، وأجاز عياض تعليقه بغنمتم على ضعف لكثرة الفضل.
{ يَومَ } بدل من يوم بدر الكل، والمراد بهما يوم بدر { الْتقَى الجَمْعان } الفريق المؤمنون، والفريق المشركون، وكان رئيسهم عتبة، وذلك الالتقاء هو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان فى السنة الثانية من الهجرة، وقال أبو صالح: لتسعة عشر يوما من رمضان بالمثناة، وقال عروة بن الزبير: لتسع منه، وتقدم كلام فى ذلك، والأول قول الجمهور وهو الصحيح، والثالث شاذ.
{ واللهُ عَلى كلِّ شئٍ قَديرٌ } كما نصركم وأنتم قليل على عدوكم الكثير، وأمدكم بملائكته.