التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٦٧
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ما كانَ لنبىٍّ } من الأنبياء ونبينا صلى الله عليه وسلم داخل فى هذا العموم، وقيل: ما كان لنبى قبلك فما يكون لك، وهذا لمعونة المقام، وإلا فكم من أمر لم يكن للأنبياء قبله وكان له، ويجوز أن يكون التنكير للتعظيم لا للعموم، والمراد النبى صلى الله عليه وسلم، والأصل ما كان لك فوضع الظاهر موضع المضمر، وما تقدم أولى، وقرئ: ما كان للنبى بتعريف الحضور، فالمراد نبينا صلى الله عليه وسلم، ويحتمل الجنس.
{ أنْ يَكونَ } وقرأ أبو عمرو بالفوقية، قيل: وابن عامر نظر إلى معنى الجماعة، وإلى ألف التأنيث كذا قيل، والصواب أنه نظر إلى معنى الجماعة، وإلا جاز قامت طلحة، وجاءت سلمى إذا أريد بهما رجلان، وليس بجائز { لَه أسْرَى } جمع أسير كقتيل وقتلى، وقرأ أبو جعفر: أسارى وهو رواية المفضل، عن عاصم، وهو كما قال الزجاج جمع أسرى، فهو جمع الجمع، وقيل: جمع أسير شاذا، وأصل المعنى واحد، وقال أبو عمرو بن العلاء، وهو أبو عمرو القارئ من السبعة: إن الأسرى هم غير الموثقين عند ما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطا، وأنه جمع أسير كما أن أسرى جمع أسير.
{ حتَّى يُثْخِن فى الأرْضِ } حتى يكثر القتل والجراح، ويبالغ فى ذلك، فيذل الكفر وأهله، ويعز الإسلام وأهله، يقال: أثخنه المرض أثقله وذلك من الثخانة أى هى الغلظ والكثافة، وقرأ أبو جعفر، ويحيى ابن يعمر، ويحيى بن وثاب بفتح الثاء وتشديد الخاء للتعدية لا للمبالغة، كما قال بعض، إلا إن أراد أن التشديد تلويح للمبالغة لوقوعها به فى الجملة، ومعنى الآية إيجاب القتل وتحريم استبقاء الأسرى.
قال ابن عباس: كان ذلك يوم بدر، ولما كثر المسلمون نزل:
{ { فإما منًّا بعدُ وإما فداء } قيل: فكان ناسخا لذلك كما فى كتاب الناسخ والمنسوخ، وهو ظاهر كلام ابن عباس، وجار الله، قال الرازى: ليس ناسخا فإن الآيتين متوافقتان، وكلتاهما يدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان، ثم بعده أخذ الفداء، وأقول كلامه يقتضى هذا فى كل قتال على حدة، وليس بشئ، وكان الفداء يومئذ أربعة آلاف درهم، أربعة آلاف لكل أسير.
{ تُريدُونَ } أيها المؤمنون { عَرضَ الدُّنيا } وهو ما يأخذون من فداء الأسارى، وسمى عرضا لأن متاع الدنيا حادث قليل اللبث، سريع الفناء، وقرئ: يريدون بالتحتية، ولا دليل فى الآية لمن يقدح فى عصمة الأنبياء، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حكم بالفداء، لأنه قد فوض الله إليه الحكم فى المصالح، فرأى الحكم به مصلحة، ولما نهاه كف وكان حراما، بل قيل: إن الآية عتاب رقيق فى اختيار الفداء على القتل، لا تحريم له، وأما الأسر ففعلته الصحابة لا هو، فإن كان ذنبا فمنهم إذا مروا بالقتل فأسروا، بل لا ذنب لأنهم لم ينهوا عن الأسر يومئذ، والأمر بالقتل لا يحرم الأسر، فإنهم إذا أسروا فالأمر بعد للنبى، فإن شاء ألحق الأسرى بالقتلى بالقتل.
ويدل على عدم تحريم الأسر، وأن الآية عتاب أن الملائكة تعين المؤمنين على أسر الكفار وتأسر، بل قيل: كان مشروعا بشرط الإثخان، وقد حصل الإثخان فى ظنهم بمن قتلوا وجرحوا، ويرده أن الأسر يوم بدر كان فى وسط القتال قبل الإثخان وبعده، لا بعده فقط، وأما بكاؤه هو وأبو بكر لنزول الآية فإشفاق من فعل الصحابة إذا اشتغلوا بالأسر وتركوا القتل، أو من فعلهم ما حدث تحريمه بعد الفعل، أو من ميلهم للفداء، أو موافقة حكمه بالفداء تحريم الفداء بعد الحكم، رغبة فى أن لو وفقوا ما لم يحدث تحريمه و تضعيفه.
ولم يدخل صلى الله عليه وسلم فى الخطاب بإرادة عرض الدنيا ولا فى غيبتها، وإن دخل فالمراد بيان أن الراجح أن يختار القتل نفعا للإسلام حاضرا لا العرض للمسلمين، لأنه ولو كان نفعا للإسلام أيضا لكنه آجل وما أراد العرض لنفسه قط، وذكر بعضهم أنه دخل فى الآية من جهة المعاتبة فقط، حيث أسروا ولم ينههم من عريشه، وقد أنكر سعد بن معاذ، ولكنه صلى الله عليه وسلم أغفله بعد الأمر وظهور النصر، ولذلك بكى هو وأبو بكر خوفا من نزول العذاب لكمال خوفهم، واختار بعضهم أن العتب لأصحاب النبى كما يظهر مما مر، كأنه قيل: لا يستقيم أن تأخذوا الأسارى للنبى.
{ واللهُ يُريدُ الآخرةَ } أى يريد لكم ثوابها، أو سبب نيلكم ثوابها من إعزاز دينه بالإثخان، وقرأ ابن جماز بجر الآخرة على حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه مجرورا، فقدره ابن مالك، والله يريد عرض الآخرة من جنس المضاف المذكور ليشعر به، وليس فى القياس كقول أبى داود حارثة بن الحجاج، أو حارثة بن عمران الأيادى، أو عدى بن زائدة:

أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقد بالليل نارا

أى وكل نار توقد بالليل نارا، لأن الشرط فى الغالب أن يكون المضاف المحذوف معطوفا على مضاف بمعناه، والمضاف فى الآية لم يعطف. بل عطفت الجملة، فقراءة ابن جماز من غير الغالب لذلك، وإنما سمى ابن مالك خير الآخرة عرضا تجوز للمناسبة، أو لأنه عارض بمعنى حادث، ولو كان يدوم، وللمناسبة ومن قدره هكذا، والله يريد عمل الآخرة كابن هشام، أو ثواب الآخرة ونحو ذلك، كان عنده من غير الغالب لما ذكر، ولعدم مماثلة لفظ المحذوف للمذكور.
{ واللهُ عَزيزٌ } فأولياؤه تكون غالبة لأعدائه { حَكيمٌ } فى أفعاله وأقواله، فمصلحتكم فى الإثخان لا فى الفداء، قال ابن مسعود: جئ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم: العباس، وعقيل بن أبى طالب، فاستشار فيهم أصحابه، فقال أبو بكر رضى الله عنه: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم ويهديهم إلى الإسلام، وخذ منهم فدية يتقوى بها أصحابك على الكفار.
وقال عمر رضى الله عنه: كذبوك وأخرجوك، قدمهم واضرب أعناقهم، فإنهم أئمة الكفر، وأن الله أغناك عن الفداء، مكن عليا من عقيل وهو أخوه، وحمزة من العباس وهو أخوه أيضا، ومكننى من فلان نسيب لعمر نضرب أعناقهم.
"وقال عبد الله بن رواحة رضى الله عنه: انظر واديا كثير الحطب أدخلهم فيه وأضرمه عليهم نارا.
فقال العباس: إذن تقطع رحمك وسكت ودخل العريش، وقد كان يهوى قول أبى بكر، وقد قال سعد بن معاذ حين رأى الأسرى، وقد وقد كان فى العريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كان الإثخان فى القتل أحب إلىَّ يا رسول الله، فكان بعض يقول: يأخذ بقول أبى بكر، وبعض يقول، عمر، وبعض يقول ابن رواحة، ثم خرج فقال: إن الله ليليِّن قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: { فمن تبعنى فإنه منِّى ومن عصانى فإنك غفور رحيم }"
زاد فى رواية: "ومثل عيسى قال: { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ومثلك يا عمر مثل نوح قال: { ربى لا تذر على الأرض من الكافرين ديَّارا }" زاد فى رواية "ومثل موسى قال: { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } الآية وأخذ بقول أبى بكر وقال: أنتم اليوم عالة لا يفلتن أحد منهم، إلا بفداء أو ضرب عنقه"
"وروى أنه لما خرج أعلمهم التخيير فاختار الأكثر الفداء ولما قال: إلا بفداء أو ضرب عنقه قال ابن مسعود رضى الله عنه إلا سهيل بن بيضاء، فإنى سمعته يذكر الإسلام، فسكت صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود: ما رأيتنى فى يوم أخوف أن تقع علىَّ حجارة من السماء من ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل ابن بيضاء ونزلت الآية" بموافقة قول عمر بعد أخذ الفداء الألف أربعة آلاف من بعضهم.
وذكر عبد الله بن حميد بسنده: أن جبريل نزل بالتخيير، فعلى هذا فالعتب على اختيارهم ما هو مرجوح، والعذاب فى قوله:
{ لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } على غير اختيارهم وإلا لم يصح ما ذكره، وذلك مثل أن يحمل على استبقاء الرجال وقت الهزيمة، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للناس: "إن شئتم أخذتم فداء الأسرى ويقتل فى الحرب منكم سبعون على عددهم، وإن شئتم قتلوا وسلمتم" فقالوا: نأخذ المال ويستشهد سبعون، وفى هذه الرواية ما فى التى قبلها.