التفاسير

< >
عرض

ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ
٨
-الفجر

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ } الضمير لإرم سواء أريد القبيلة أو البلدة أي لم يخلق مثل عاد في البلاد عظما وقوة يأتي واحد فيحمل الصخرة العظيمة فيلقيها علي حي فيهلكهم أو لم يخلق مثل مدينة شداد منهم في جميع بلاد الدنيا، وقرأ ابن الزبير لم يخلق مثلها بالبناء للفاعل ونصب مثل أي لم يخلق الله مثلها، قال سفيان بن منصور عن أبي وائل أن رجلا يقال له عبد الله بن قلادة خرج في طلب إبل شردت فبينما هو في صحارى عدن بتلك الفلاوات إذا هو بمدينة فيها حصن حول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام ولما دنا منها ظن أن فيها من يسأله عن إبله فلم ير أحدا فيها داخلا ولا خارجا فنزل عن ناقته وعقلها وسل سيفه ودخل باب الحصن فإذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدنيا أعظم منهما ولا أطيب ريحا منهما وإذا خشبهما من أطيب العود عليهما نجوم من ياقوت أصفر ضوؤها ملأ المكان ولما رأى ذلك أعجبه ما رأى وافتتح البابين فإذا هو بمدينة عظيمة لم ير الناس مثلها قط وإذا بقصور معلقة تحتها أعمدة من زبرجد أخضر وعلى باب المدينة عمود من طيب قد نظمت عليه اليواقيت وقد فرشت تلك القصور باللؤلؤ والدر والمسك والزعفران فلما رأى ذلك ولم ير هنالك أحدا أفزعه ذلك ثم نظر إلى الأزقة فإذا في كل زقاق منها أشجار أثمرت تحتها أنهار تجري فقال هذه الجنة التي وصف الله تعالى لعباده في الدنيا الحمد لله الذي أدخلني الجنة وحمل من لؤلؤها ومن بنادق المسك والزعفران ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ولا من ياقوتها شيئا لأنها كانت مشبكة في أبوابها وجدرانها فكان اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران منشورا بمنزلة الرمل في تلك القصور وقد كان أصفر اللؤلؤ وتغير لطول الزمان فظهر خبره فبلغ معاويه ابن أبي سفيان فكتب بأشخاصه اليه ولما قدم على معاوية وخلا به سأله فقص عليه وأنكر ذلك عليه واستغربه فقال له يا أمير المؤمنين معي من متاعها الذي فرش في غرفها وبيوتها قال من هو قال بنادق المسك واللؤلؤ قال له هات حتى أرى فعرض عليه ما حمله منها فشم البنادق فلم يجد لها ريحا فأمر ببندقة فكسرت فسطع ريحها مسكا وعنبرا فقال معاوية كيف أصنع حتى أسمع باسم هذه المدينة ولمن هي ومن بناها والله ما أعطي أحد مثل ما أعطي سليمان بن داود وما أظن أن يكون له مثلها فقال بعض الجلساء ما كان في اليمن مدينة مثلها وما يوجد خبر هذه المدينة إلا عند كعب الأخبار فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث له ويأمر بأشخاصه ويغيب عنه هذا الرجل بموضع يسمع كلامه منه وحديثه أو وصفه حتى يتبين أمر هذه المدينة ففعل فإن كعبا سيخبر أمير المؤمنين بخبرها وأمر هذا الرجل إن كان دخلها فأرسل معاوية الى كعب ليخبره بأمرها فلما أتاه قال له معاوية أخبرنا بقصة إرم ذات العماد إن كان عندك علمها قال نعم يا أمير المؤمنين إن هذه المدينة لعاد وذلك أن عادا كان له ابنان سمى أحدهما شديدا والآخر شدادا فهلك أبوهما وملكا وتجبرا وقهرا كل البلاد ودان لهما جميع الناس فلم يكن أحد من الناس في زمانهما إلا دخل في طاعتهما لا في شرق الأرض ولا في غربها وأنهما لما صفا لهما ذلك مات شديد بن عاد وبقي شداد فتملك وحده ولم ينازعه أحد ودانت له الدنيا كلها وكان مولعا بقراءة الكتب القديمة وكان كلما مر فيها بصفة الجنة تمنى أن يصنع مثلها في الدنيا فامتلك المدينة التي هي إرم ذات العماد وأمر على صنعتها مائة قهرمان مع كل قهرمان مائة من الأحوان ثم قال انطلقوا الى أطيب فلاة من الأرض وأوسعها واعملوا فيها مدينة من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ وتحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد وعلى المدينة قصور ومن فوق القصور غرف ومن فوق الغرف غرف واغرسوا في تلك القصور أغراسا فيها أصناف الثمار كلها واجروا فيها الأنهار حتى تكون تحت الأشجار جارية فإني أسمع في الكتب صفة الجنة وإني أريد أن أتخذ مثلها في الدنيا فالنجعل سكناها وقالت قهارمته كيف لنا بالقدرة على ما وصفت لنا من الزبرجد والياقوت والذهب والفضة واللؤلؤ نبني بها مدينة كما وصفت لنا فقال لهم شداد ألستم تعلمون أن ملوك الدنيا كلها بيدي قالوا بلى قال فانطلقوا الى كل معدن من معادن الزبرجد والياقوت والذهب والفضة واللؤلؤ وتكلفوا من كل قوم رجلا يخرج لكم ما في كل معدن من تلك المعادن ثم انظروا الى ما في أيدي الناس من الحلي فخذوه سوى ما يأتيكم به أصحاب المعادن من معادن الدنيا فيجتمع عندكم من ذلك كثير قال فخرجوا من عنده فكتب إلى كل ملك في الدنيا يأمرهم أن يجعلوا له ما في بلادهم من الجواهر ويحفروا معادنها فانطلقت القهارمة فبعثوا كتبا إلى كل ملك من الملوك أن يأخذ كل ما في أيدي أهل مملكته عشر سنين حتى يبعثوا بذلك إلى إرم ذات العماد قال معاوية يا أبا إسحاق كم عدد تلك الملوك الذين تحت شداد قال كانوا مائتين وستين ملكا وتفرقت القهارمة في الصحاري ليوافقوا ما يطلب إلى أن وقفوا على صحراء عظيمة نقية من الجبال والتلال فيها عيون مضطردة فقالوا هذه الأرض التي أمرنا بها فاخذوا بقدر ما أمرهم ثم عمدوا إلى موضع الأزقة وحفروا وعجنوا طين ذلك الأساس من دهن البان فلما فرغوا من الأساس أرسل اليهم الذهب والفضة فبنوها كما يريد شداد فقال معاوية يا أبا إسحاق إني لأحسب أنهم أقاموا في بنائها زمانا من الدهر قال نعم يا أمير المؤمنين إني لا أجد في التوراة مكتوبا أنهم أقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة فقال معاوية لقد أخبرتنا عجبا فحدثنا يا أمير المؤمنين إنما أسماها الله إرم ذات العمال التي لم يخلق مثلها في البلاد قال كعب لما اتوه أخبروه بفراغهم منها قال انطلقوا فاجعلوا عليها حصنا واجعلوا حول الحصن ألف قصر عند كل قصر ألف علم يكون في كل قصر وزير من وزرائي ويكون كل علم عليه ناظور فرجعوا وفعلوا وأتوه وأخبروه بالفراغ فأمر ألف وزير من خاصته أن يهيئوا أشيائهم ويعملوا في الثقلة الى إرم ذات العماد وأمر رجالا أن يسكنوا تلك الأعلام ويقيموا فيها ليلهم ونهارهم وأمر لهم بالعطاء والأرزاق وأمر من أراد من نسائه وخدمه بالجهاز الى إرم ذات العماد فأقاموا في جهازهم عشر سنين ثم سار الملك بمن أراد وتخلف مع قومه في عدن ابن له فلما انتقلوا وسار اليها ليسكن فيها وبقي بينه وبينها مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا ولم يبق أحد منهم ولم يدخلها شداد ولا من كان معه وسيدخلها رجل في زمانك ويراها ويتحدث بما رأى فلا يصدق فقال معاوية يا أبا إسحاق هل تصفه لنا قال نعم رجل أحمر اشقر قصير على حاجبه خال يخرج في طلب إبل في تلك الصحاري فيقع عليها ويدخلها ويحمل بما فيها والرجل جالس عند معاوية فالتفت كعب فرأى الرجل جالسا فقال هو ذلك الرجل يا أمير المؤمنين قد دخلها فسأله عمار أي فقال معاوية يا أبا إسحاق إن هذا من خدامي قال قد دخلها وإلا فسوف يدخلها وسيدخلها أهل الدين آخر الزمان قال معاوية يا أبا اسحاق لقد فضلك الله على غيرك من العلماء ولقد أوتيت من علم الأولين والآخرين ما لم يعطه أحد فقال والذي نفس كعب بيده ما خلق الله تعالى في الأرض شيئا إلا وقد فسره في التوراة لعبده موسى تفسيرا وإن هذا القرآن أشد وعيدا وكفى بالله وكيلا وروي أن قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفي كل قصر غرف وفوق الغرف غرف من ذهب وفضة ولؤلؤ وياقوت وأبواب القصور مثل مصارع باب المدينة وماءها يجري في سواقي فضة وقيل أنه أمر عليها مائة قهرمان ومع كل قهرمان ألف من الأعوان يديرون بناءها وإنه بنيت اسوسها من الجزع اليمني وإنه بقوا في الجهاز اليها عشرين سنة وكان عمر شداد تسعمائة سنة وقوله على حاجبه خال يعني به أن فوق حاجبيه شامة أي نكتة تخالف البدن قال بعضهم قد رأها سليمان وأنها كانت مدفونة فأمر الله الريح فاظهرتها فخاف أن يفتتن الناس بها فأمر الريح فدفنتها وروي أنها في بلاد الرمل.
قال الشعبي اخبرني دغبل عن رجل من أهل حضرموت قال كنت أسمع من صباي إلى أن اكتهلت بمغارة في جبل من جبالها وهاب الناس دخولها فلم احتفل بما كنت أسمع من ذلك فبينما أنا في نادي قومي إذ نناشدوا حديث المغارة واطنبوا في ذكرها وموضعها فقلت لقومي فإني غير منتبه حتى ادخلها فهل فيكم من يساعدني فقام فتى منهم حديث السن فقال اني سأحبك قلت يا أخي أو تجسر على ذلك قال عندي ما عند رجل من رياضة وشجاعة فهيأنا شمعة وحملنا أدوات عظيمة مملوءة ماء وطعاما مقدار ما يكفينا وما يقوينا عليه ثم مضينا نحو ذلك الجبل الذي فيه المغارة وكان مشرفا على البحر في المكان الذي يركب أهل حضرموت منه البحر فلما أنتهينا الى باب المغارة خزمنا علينا ثيابنا وأشعلنا الشمعة ثم ذكرنا الله تعالى ودخلنا ومعنا تلك الأدوات من الماء والطعام فإذا مغارة عظيمة عرضها عشرون ذراعا فمشينا فيها هونا في طريق مستو ثم افضينا إلى درج عالية عرض الدرج عشرون ذراعا في سمك عشرة أذرع فحملنا أنفسنا على نزول تلك الدرج فقلت لصاحبي هلم إلى يدك فكنت أخذ بيده حتى ينزل فإذا نزل وقام في الدرج تعلقت بطرف الدرجة وتسيبت حتى تنال رجلي منكبة فلما نزل كذلك وذلك داءبنا عامة يومنا حتى نزلناه وكانت مقدار مائة درجة فافضينا الى حفر عظيم في الجبل عرضه مائة ذراع وسمكه في السماء مائة ذراع في صده سرير من ذهب مفصص بصنوف الجوهر وفوقه رجل عادي عظيم الجسم قد أخذ طول الحفر وعرضه مضطجع على ظهره كالنائم وعليه سبعون حاله على طوله وعرضه منسوجة بقضبان الذهب والفضة وإذ ذلك الحفر مضيء بثقب عرضه ذراعان وإرتفاعه ثلاثة أذرع خارجا إلى فضاء لم ندر ما هو وإذ على رأس السرير لوح من ذهب عظيم مكتوب فيه بالمسك وهو حبر عاد في زمانهم محفورة تلك الكتابة في اللوح حفرا فقلعناه ودنونا من الرجل ومسسنا تلك الحلل فصات رميما وبقيت قضبان الذهب قائمة فحملناها فكانت مقدار مائة رطل وأردنا قلع الجوهر المفصص به السرير فلم نقدر عليه لوثاقة تركيبه وهجم علينا الليل وطفت الشمعة التي كانت معنا فلما أصبحنا قلت لصاحبي ما ترى قال اما الرجوع من حيث جئنا فلا سبيل اليه لارتفاع هذه الدرج وأنا لا نستطيع صعودها ولا سيما والشمعة قد طفت ولكن هلم لنلزم هذا الضوء الذي نرى في هذا الثقب لأنا نرجوا أن يخرج بنا إلى الفضاء إن شاء الله تعالى فقلت لعمري إن هذا لهو الرأي وحملنا معنا اللوح الذي في رأسه والذهب وخرجنا من ذلك الثقب فلم نزل في طريق ضيق مقدار مائتين ذراع حتى خرجنا منه إلى كهف في ذلك الجبل كهيئة الحائط وقد حف بذلك الكهف البحر فجلسنا على باب ذلك الثقب ثلاثة أيام نتقوت ببقية الماء والطعام ولما كان في اليوم الرابع نظرنا إلى مركب قد أقبل في البحر فلوحنا إليه فنظروا إلينا فأرسوا المركب تحتنا فنزلنا من باب ذلك الثقب نزولا شاقا حتى وثبنا إلى المركب بما معنا وخرجنا من البحر فاقتسمنا ذلك الذهب بيننا فصار اللوح في قسمتي ثم أن انفسنا دعتنا إلى العود إلى ذلك السرب مما يلي الثقب فركبنا قاربا وسرنا في البحر نحو ذلك المكان الذي نزلنا منه فخفي علينا مكانه فعلمنا أن لا ترزق إلا ما أخذناه ومكث ذلك اللوح عندي حولا لا أجد من يقرأه لي حتى أتى رجل من أهل صنعاء حميري كان يحسن قراءة تلك الكتابة فأخرجت اللوح فقرأه فإذا فيه:

اعتبر بي أيها المغتر بالعمر المديد
أنا شداد بن عاد صاحب الحصن العميد
وأخو القوة والياءس والملك الحشيد
دان أهل الأرض طرا من خوف وعبد
وملكت الشرق والغرب بسلطان شديد
وبفضل الملك والعدة فيه والعديد
فأتى هود وكنا في ضلال قبل هود
فدعانا فلم نتبعه إلى الأمر السديد
فعصيناه وناديت الأهل من مجيد
فأتتنا صيحة تهوي من الأفق البعيد
فتوافينا كزرع وسط بيداء حصيد

قال دغبل سألت الحميري عن شداد كيف كان بالمغارة بحضرموت مع أنه في اليمن قال إنه هلك هو ومن معه من الصيحة على القرب من تلك المدينة وملك ابنه مرتد بن شداد وقد كان أبوه خلقه على ملكه بحضرموت فحمل مطليا بالصبر والكافور وأمر بحفر تلك المغارة فاستودعه فيها على ذلك السرير من الذهب وزعم بعض الزنادقة أن تلك المدينة تارة تكون باليمن وتارة بالشام وتارة في غير ذلك تنتقل من بلد إلى آخر.