التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
-التوبة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إنَّما يعْمُر مسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ باللهِ واليوْم الآخِرِ } يوم البعث { وأقَام الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ ولم يخْشَ إلاّ اللهَ } فى باب الدين بأن لا يترك أمر الله خشية الناس، لا كمن يترك أمر الله خشية للناس، ولا كهؤلاء الذين يخشون الأصنام ويخافون عقابها، وأما الخشية عن المحاذير فطبيعة لا ينفك عنها عاقل، ولم يذكر الإيمان بالرسول، لأن الإيمان بالصلاة المخصوصة وهى الخمس وبالزكاة، يتضمن الإيمان به، لأنه الجائى بهما، ولأن الآية مسوقة فى الرد على من لم يؤمن به، ولأن الإيمان بالله واليوم الآخر إذا كان إجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم إيمان به إنما تستقيم عمارتها من أجمع ذلك وهو المثاب على العمارة.
وأما من أنكر البعث، فكيف يرجو ثوابا بعمارة، وإن رجاه فى الدنيا، فليست المساجد مجعولة لمجرد طلب الدنيا، ومن أنكر الرسول، أو لم يقم الصلاة، أو لم يؤت الزكاة فإيمانه بالبعث لم يكن من جهة يثاب عليها، قيل: عمارة المسجد نافلة، والزكاة واجبة، فمن عمر المسجد على الحقيقة لزم أن يكون مؤديا للزكاة، إذ لا يشتغل بنفل مع تضييع الفرض، ومن عمارته قراءة القرآن فيه، والتسبيح، والتهليل، والصلاة، والقعود فيه بنية الأجر، أو بنية انتظار عبادة كصلاة إمام، وقراءة القرآن، ومنها: درس العلم فيه، وإقراءه وقراءته، بل العلم أجل الذكر، ومنها: صيانته عما لم يبن له كحديث الدنيا، والبيع والشراء.
وروى أن الكلام فى المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش، ومن ألف المساجد ألفه الله، ومنها: تنويره بالمصباح، وتستغفر الملائكة وحملة العرش لصاحبه ما دام وضوءُه، ومنها: تنظيفه وإخراج ما لا يصلح فيه، وإصلاحه وتفريشه، وعبارة القاضى تزيين المساجد بالفرش، وفى أحكام المسجد وعمارته وفضله كلام فى النيل وشرحه، ولم يقرأ أحد من القراء العشرة فى هذا الموضع مسجد الله بالإفراد فى الأشهر، وقال حماد بن أبى سلمة: إن ابن كثير قرأ بالإفراد فى الموضعين، وهو قراءة الجحدرى فيهما.
ويجوز أن يراد فى حال الإفراد المسجد الحرام، ويحكم على غيره بحكمه، وذكر بعضهم فى قراءة من قرأ الأول بإفراد، والثانى بالجمع، أنه ذكر أولا المسجد الذى فيه النازلة فى ذلك الوقت وهو المسجد الحرام، ثم عمت المساجد ثانيا، ويجوز أن يراد بالمساجد جنس المساجد، وبالمساجد كذلك غير المسجد الحرام، فيرمز الكلام إلى أنه إذا لم يصالح المشركون لعمارة المساجد غير المسجد الحرام فكيف يصلحون لعمارة المسجد الحرام، وهذا أبلغ من حيث إنه أشد ابعادا لهم عن المسجد الحرام حفظه الله.
{ فَعَسَى } ترجية وعبارة جملة ممن يتفقه أن عسى ولعل من الله واجبة، يعنى جزما { أولئِكَ أن يكُونُوا مِنَ المهتَدينَ } الناجين من العذاب وما يسوءهم، فإذا كان أولئك فى رجاء الاهتداء لا فى الجزم به مع كمالهم، فما ظنك بأضدادهم المشركين، وهذا قطع لأطماع المشركين فى الانتفاع بأعمالهم، ومنع للمؤمنين أن يتكلموا على أعمالهم، وعن الاغترار بالله، قيل: وفيه ترجيح للخشية على الرجاء.
والجمع هنا نظر إلى معنى من، والإفراد هناك نظر إلى لفظه، وقيل: إن المراد فى قوله: { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله } الخ، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لذلك لم يذكر الإيمان به، وأنه نزل جوابا لقولهم: إنما يدعى محمد النبوة طلبا للرياسة والملك، وردا عليهم، بأن غرضه طاعة الله وتوحيده، فلذلك يعمر المساجد سرا وجهرا، سواء حمد الناس ذلك منه أو كرهوه، فالمساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد قباء وغير ذلك مما يعمره إن كان، أو مما يمكن أن يعمره، أو مما يأمر بعمارته، فالأمر بالعمارة عمارة ممن صدقت نيته، وعلى هذا القول فالجمع فى قوله: { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } مراد به من اقتدى بالنبى صلى الله عليه وسلم، وهو قول ضعيف.