التفاسير

< >
عرض

قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
٢٩
-التوبة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنُون بالله ولا باليَومِ الآخِرِ } هم أهل الكتاب كما بينه الله بعد، وهذا من الدلائل القوية على أنهم مشركون، حيث وصفهم بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإنهم ولو أقروا بهما لكن لا كما ينبغى، فإن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فذلك مبطل لإيمانهم بالله، فإن لفظ الجلالة يتضمن الانفراد بالذات، والفعل، والصفة، وهم عدَّدوه وشبَّهوه، إذ جعلوه والدا فذلك انكار له، وإنما صفة الإيمان به، أن يؤمن به منفردا بذلك، وقد قالوا: بأنه جسم، وقالت اليهود خصوصا: إنه أعياه خلق السماوات والأرض فاستراح، والعياء صفة مخلوق، فقد أخرجوه بهذه الصفة عن الألوهية، ومن لم يؤمن بالله لم يصح منه الإيمان باليوم الآخر، فإن الباعث هو الله، فإذا ألحدوا فيه فكأنهم نسبوا البعث إلى غيره.
ولهم فى البعث أداء كثير كشراء منازل الجنة من الرهبان، وقالت اليهود: يكونون فى النار أياما معدودة، فإن البعث على الحقيقة أبعث المكلفين للخلود فى الجنة والنار، وزعم قوم منهم، أن نعيم الجنة منقطع، وقوم أن نعيمها ليس من جنس نعيم الدنيا، وزعم قوم منهم: إنما تبعث الأرواح دون الأجساد، وإن أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، فليس إيمانهم باليوم الآخر حقا كإيمان الموحدين.
وكذلك اختلفت النصارى، وأيضا هم كافرون برسالة بعض الرسل، بل أكثر الرسل كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولبعض الكتب كالقرآن وذلك معارض للإيمان بالله ومناف له، فأهل الكتاب، وكل من أنكر حرفا أو رسولا مشرك عندنا، وقال جمهور المخالفين: ليسوا بمشركين فيما قال بعضهم، وكذا قال عيسى بن عمير، وأحمد بن الحسين: إن أهل الكتاب ليسوا بمشركين، لكن منافقون مع استحلالهما منهم ما حل من المشركين، وتحريم ما حرم منهم.
وذكر الثعالبى: أن فائدة الخلاف تبين فى فقه منافعهم وذبائحهم وغير ذلك، قال مجاهد: وعند نزول الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة الروم، ومشى نحو تبوك، ذكر الثعالبى، وقال الكلبى: نزلت فى قريظة والنضير، فصالحهم فكانت أول جزية أصابها المسلمون، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدى المسلمين.
{ ولاَ يُحرِّمونَ ما حرَّم اللهُ ورسُولُه } محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة، كالخمر والخنزير، وقال أبو روق: المراد ما حرم الله فى كتابهم كالتوراة والإنجيل، ورسول الله الذى زعموا أنهم يتبعونه كموسى وعيسى عليهما السلام، فهم لم يتبعوا دينهم المنسوخ، ولا ديننا الناسخ له، لا فى الاعتقاد ولا فى العمل.
{ ولا يَدِينُون دِينَ الحقِّ } دين الصواب الثابت، وهو دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإضافته للحق إشارة إلى أنه ناسخ لا ينزل ما ينسخه، إذ كان الحق بمعنى الصواب الثابت، وقيل: الحق الله، أى دين الله، وهو هذا الدين، وقيل: دين أهل الحق وهم المسلمون، ودين مفعول مطلق أو مفعول به، أى لا يعتقدون دين الحق.
{ مِنَ الَّذينَ أوتُوا الكِتَابَ } متعلق بمحذوف حال من الذين فى قوله: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } ومن للبيان، ولا يصح أن تكون للتبعيض بدليل السياق، فإن فيه الجزية، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم قبض الجزية عن أهل الكتاب كلهم، إلا ما استتر من راهب ونحوه، فهم كلهم مشركون، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فالآية صادقة عليهم، ولو أقروا بالله والتوراة والإنجيل فلا عذر لهم إلا من لم تبلغه رسالته صلى الله عليه وسلم وأوتوا بمعنى أعطوا بالبناء للمفعول، والكتاب الجنس، كالتوراة والزبور لبنى إسرائيل، والإنجيل للنصارى، وأهل الكتاب شامل للصابئين، قيل: والسامريين، قال على: هو شامل أيضا للمجوس، فإنه بعث إليهم نبى اسمه زرادشت، وكان لهم كتاب أصبحوا وقد رفع.
{ حتَّى يُعْطُوا } مبنى للفاعل، وإنما ضم أوله لأنه رباعى { الجِزْيةَ } يدعوهم الإمام إلى الإسلام، فإن لم يجيبوا ألزمهم الجزية، وإن امتنعوا منها قاتلهم يدعو من أهل القرى الأمراء، ومن أهل البادية واحدا واحدا، وقيل: المنظور إليه منهم والرؤساء وإن لم يعلم لغتهم ترجم لهم بأمينين، وقيل: بواحد، وإن قوتلوا بلا دعاء ردوا إلىَّ ما منهم، وإنما قبلت منهم الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الدين، الذى هو من الله قبل نسخه، ولأن فى أيديهم كتبا قديمة، ولعلهم يتفكرون فيها فيعرضوا صدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مع ما ينضم إلى ذلك من مشاهدتهم محاسنه وقوته، وكثرة الداخلين فيه.
وسميت جزية لأنها تجزى عن قتلهم، أو لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه، أى يقضوه، يقال جزى دينه بمعنى قضاه، أو لأنها مكافأة للمسلمين على إبقائهم، ويعطيها أيضا المجوس لما مر عن على، ولأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس اليمن، وأن عمر أخذها من مجوس فارس، وفى رواية أخذها صلى الله عليه وسلم من مجوس البحرين، ولما رواه عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" يعنى فى الجزية، ولكن ظاهره يقضى أنهم ليسوا بأهل كتاب، ولعله أراد سنوا بهم سنة أهل الكتاب الذين عهدتم أنهم أهل كتاب وشهروا، ولكن اليهود والنصارى والصابئين تحل ذبائحهم ونكاح حرائرهم بالجزية دون المجوس، هذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وعليه مالك وابن حبيب وغيره من أصحاب مالك إلا قليلا منهم.
وظاهر ما مر عن على أنه تحل ذبائح المجوس وحرائرهم بالجزية، وبه فسر بعضهم حديث عبد الرحمن المذكور، فإن قيل: المعنى سنوا بهم سنة أهل الكتاب فى كل شىء، كالجزية والذبيحة، ونكاح الحرة منهم، وسواء فى ذلك مجوس العرب وغيرهم، وقيل: لا يقيد من مجوس العرب إلا الإسلام أو القتل، وقيل: الصابئون ليسوا من أهل الكتاب، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل، ولا تحل ذبيحتهم ولا حرائرهم، وقيل: تؤخذ منهم الجزية، ولا تحل ذبيحتهم وحرتهم، وهذا الخلاف أيضا فى السامرة، ونسب لقول بأنهم والصابئون من أهل الكتاب، وأحكامهم واحدة إلى الجمهور، والنظر إلى الدين، فلو كان قوم من البربر من أهل الكتاب لأخذت منهم الجزية، وحكم عليهم بحكم أهل الكتاب كله.
وقد روى أن عثمان أخذ الجزية من البربر، فهى تؤخذ من أهل الكتاب عجما أو عربا، وكذا قال أبو حنيفة، لكنه قال: تؤخذ أيضا ممن كان من العجم مشركا غير كتابى، ولا تؤخذ من عربى مشرك غير كتابى، وقال أبو يوسف: تؤخذ من المشرك العجمى كتابا كان أو غيره، ولا تؤخذ من العربى ولو كتابيا، وقال مالك، والأوزاعى: تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد، وروى عن أبى حنيفة: أنها لا تؤخذ من العربى الكتابى، فإما الإسلام وإما القتل، ومذهبنا أنها لا تقبل إلا من أهل الكتاب وكذا قال الشافعى.
وأما غيرهم فالإسلام أو القتل أو السبى إلا قريشا، فلا تسبى ذريتهم ونساءهم، وقيل: العرب كلهم كذلك، وذلك لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن سبيت صبيانهم ردوا إلى آبائهم أو أوليائهم، وإن لم يكونوا فمؤنتهم من بيت المال، واستظهر بعض المتأخرين أنهم أحرار، وعن الزهرى:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية، وقال لأهل مكة: هل لكم فى كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب وأدت إليكم الجزية العجم" وعن الشافعى: لا تؤخذ من مشركى العرب غير الكتابيين، ومن دخل فى دين أهل الكتاب بعد نسخه، فلا تقبل عنه الجزية، قال بعض: وكذلك إن دخل فيه بعد نسخه، ولم يبدل فيه، والذبيحة والنكاح تابعان للجزية، وإن وقع الشك فى دخولهم قبله أو بعده قبلت منهم الجزية، ولا يتزوج منهم، ولا تؤكل ذبائحهم حوطة.
وعن على: تؤكل ذبيحة نصارى العرب، فإنهم لن يبلغوا من النصرانية إلا شرب الخمر، واختار بعض أصحابنا أن من دخل من العرب فى دين النصارى قبل نزول الآية فهو منهم، ومن دخل بعد نزولها قتل، ولا جزية على امرأة، أو عبد، أو طفل، أو شيخ كبير أو مجنون، أو راهب، أو مفلس، وعن بعض قومنا: يعطيها أيضا جميع من ذكر وهو ضعيف، كيف يطالب بها المجنون، وقال بعض العلماء: يعطيها رهبان الكنائس الذين لم ينقطعوا، ومن ضربت عليه ثم انقطع لم تسقط عنه، وقيل يعطيها الراهب مطلقا.
ولا يأخذ الجزية إلا الإمام العادل بنفسه أو بأمره، وإذا لم يكن الإمام أو كان، ولم يقدر على منع الظلم عنهم لم تؤخذ منهم، ومن أخذها بدون الإمام لم يعامل فيها، وقيل: يأخذها منهم كل من منع الظلم عنهم ولو فى الكتمان، وقيل: تؤخذ من الفقير الذى لا شىء له، وقيل: إن كان له ما يكتسب منه، وشدد بعض فقال: يطلى بلبن أو عسل أو نحو ذلك مما يتأذى منه بالذباب أو النمل أو نحوها، ويحبس فى الشمس حتى يعطيها، لأنه ترك التوحيد باختياره، والجزية بحسب ما يرى الإمام من قوة المشرك وضعفه، وكثرة المال وقلته، وسدة بعض الإسلام وعدمها وغير ذلك، حتى لو رأى الصلاح فى تسويتهم لفعل.
وقيل: دينار على كل واحد فى السنة، وإن رضوا بالزيادة فعلى المتوسط ديناران، وعلى الغنى أربعة، وقيل: الجزية لكل سنة على الغنى أربعة دنانير، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الفقير دينار، وإن شاءوا أعطوا الدراهم بدل الدنانير، فيحسب الدينار باثنى عشر درهما، كدينار الديات والأرش، وجماع الحيض، وغير ذلك، وأما دينار الزكاة فعشرة دراهم، ودينار المعاملات يزيد وينقص، وإن شاء الإمام أخذ فى كل شهر دراهم، فيكون على الغنى فى الشهر أربعة دراهم، وعلى المتوسط درهمان، وعلى الفقير درهم، وقيل: على اليهودى عشرة دراهم فى كل سنة، وعلى النصرانى اثنا عشر، وقيل: خمسة عشر ولم يذكر صاحب هذا القول الصابئين والمجوس، ولعله يقول: الأمر فيهم على ما يرى الإمام.
وعلى من تؤخذ عنه الجزية ضيافة المسلمين ثلاثة أيام، وقيل: الضيافة على النصارى، والمبيت على اليهود، بعد أكل العشاء عند النصارى، وعن عمر أنه ضرب على أهل الكتاب أيضا كسوة للمسلمين، وعن عمر أنه ضرب الجزية دينارا على كل واحد فى السنة، وبه قال الشافعى، وبه أمر صلى الله عليه وسلم معاذا حين أرسله إلى اليمن، وقال له:
"أو خذ قيمة الدنانير معافر" ، وهى ثياب، وقد عمل به عمر فى بعض القرى.
وروى عنه أنه كتب إلى عامله عثمان بن حنيف فى الكوفة: بأن على الغنى أربعة دنانير، وعلى المتوسط دينارين والفقير دينارا، وروى عنه وعن غيره غير ذلك، فدل على أنها ليست محدودة، وفعل النبى ليس حدا لها، وأنها برأى الإمام، وقال ابن القاسم من المالكية: أربعة دنانير على كل غنى أو فقير لا ينقص عنها، وهو قول أصبغ منهم، لكن قال: يحط للفقير بقدر حاله، وقال ابن الماجشون منهم: لا جزية على الفقير، ويؤخذ من نصارى العرب ضعف ما يلزم المسلم فى الزكاة على أموالهم، فيعطى منهم من له مائتا درهم عشرة دراهم، ومن له مائة درهم خمسة دراهم، ولو كان لا زكاة على المسلم فيما دون المائتين، وكذلك فى الذهب والغلة والماشية، وكذا فعل خالد بن الوليد بنصارى تغلب فى الشام، فأجازه عمر.
وتؤخذ على تمام السنة من حين قهرهم الإمام، وضربها عليهم، وبهذا قال الشافعى، وقال أبو حنيفة: من حينه وهو ضعيف، وكل ما صالحهم، أعنى أهل الكتاب، الإمام عليه قبل القتال أو بعد القتال، إن لم يكن غالبا فجائز عليهم ولا يجوز { عَنْ يَدٍ } حال من واو يعطوا، والمعنى عن مطاوعة أى منقادين، أو عن يدهم بمعنى يسلمونها بأيديهم، ولا يرسلون بها على يدى غيرهم، كما قال ابن عباس، ولذلك منع بعضهم من توكيل فى إعطائه، والصحيح عندهم جوازه.
وعلى ذلك الوجه يجوز كونه حالا من الجزية، أى ثابتة عن يدهم، أو يقدر الحال كونا خاصا، أى منتقلة، عن يدهم، وتعليقه بيعطوا على أن عن بمعنى الباء، أو عن غنى، ولذا قال بعضهم: لا يعطيها الفقير، ولو كان له ما يعطى والصحيح يعطيها إن كان له ما يعطى وسبق الكلام فى ذلك أو عن عجز وذل، كما قاله بعض، أو عن إنعام عليهم، فإن قبلوها إبقاء لأرواحهم، أو يعطونها نقدا، وعلى هذا الوجه فهو حال من الجزية كأنه قيل: حتى يعطوا الجزية حاضرة، ولا متأخرة عاجلة، أو آجله، وعلى كل فالمراد قاتلوهم إذ لم يؤمنوا حتى يذعنوا الإعطاء الجزية عن يد.
{ وهُم صَاغِرونَ } أذلاء جاريا عليهم حكم الإمام، هذا هو الظاهر فى تفسير ذلك، وهو عام لأنواع الصغر اللازمة لقهر الإمام لهم، وقيل: الصغر أن يأتى بها ماشيا غير راكب، ويسلمها قائما، أو القابض قاعدا، ويحرك ويزعج بإقلاق، ويؤخذ بمجامع ثيابه، ويقال له: أدى الجزية، وإن كان يؤديها ويضرب فى قفاه، وفسره عكرمة بإعطائه قائما، والقابض جالس، وابن عباس: بأن يضرب باليد فى عنقه، والكلبى: بأن يضرب باليد مبسوطة فى قفاه، وقيل: هو أن يضرب ويؤخذ بلحيته، ويضرب فى لحمتيه تحت الأذنين، ويقال له: أد حق الله يا عدوَّ الله، والضرب فى ذلك كله خفيف.