التفاسير

< >
عرض

إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٦
-التوبة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إنَّ عِدَّة الشُّهورِ عنْدَ الله } متعلق بنسبة الخبر إلى اسم إن وهى عامل معنوى، أو متعلق بمحذوف نعت لعدة على ما ذكر بعض المتأخرين فى مثله، أى إن عدة الشهور الثابتة عند الله، وعلقه القاضى بعدة وهو مصدر { اثْنا عَشَر } وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بإسكان العين قبل الشين تخفيفا، لتوالى الحركات { شَهْراً } لا أكثر، وكانت بالنسىء ثلاثة عشر أو أربعة عشر.
والاثنا عشر: المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وهى شهور السنة القمرية، مبنية على سير القمر فى المنازل، وهى شهور العرب التى يعتد بها المسلمون فى الصوم والحج والأعياد، وأيامها ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما، كذا قيل، وإنما هذا فى عام الكبس، وهو يكون فى كل ثلاثة أعوام وهو القياس، ويقع فى عامين أيضا، وذلك أن العام ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وسدس يوم وخمسه، ففى العام الثالث يكمل يوم وزيادة يسيرة، فيجعل فى آخره، واصطلاحهم أن يكون ذلك فى العام الثانى ينقصان، وذلك أنه إذا اجتمع من الكسور أكثر من نصف يوم عدوه يوما كاملا.
وقيل العام ثلاثمائة يوم وأربعة وخمسون يوما وربع يوم، إذا جعلنا شهرا ثلاثين وشهرا تسعة وعشرين، استوفت الشهور أيام السنة، وإذا اجتمع من الكسور يوم زيد فى آخر ذى الحجة.
والسنة العجمية، تزيد على العام العربى بأحد عشر يوما، وقيل بعشرة، وسبب هذه الزيادة كان الصوم والحج تارة فى الصيف، وتارة فى الشتاء، وتارة فى الربيع، وتارة فى الخريف، وسميت الثلاثون يوما، والتسعة والعشرون يوما شهرا أخذا من الشهرة، ولأن الناس ينظرون إلى الهلال فى أولها ويشهرونه.
وأول شهور العام: المحرم بضم الميم وفتح الراء مشددة، سمى لتحريم القتال فيه، وقيل لتحريم الجنة فيه على إبليس، وقرن بأل المعرفة إشارة إلى أنه هو أول العام، والصحيح أنها للمح الوصف، فإن محرما اسم مفعول فى الأصل لا للتعريف، وخص بهذا الاسم دون سائر الأشهر الحرام، لأن التحريم فيه أشد، لأنه أفضل منها.
وثانيها: صفر بفتح الصاد والفاء، سمى لخلو مكة فيه من أهلها لخروجهم للحرب، وقيل: لأنه وافق وقت خروجهم منها وتركهم لها.
وثالثها ورابعها: الربيعان، وسميا لارتباع الناس فيهما أى لإقامتهم فيهما بلا غزو، وقيل: لأن إرادة وضع الاسم لهما وافقت ارتباعهم، لكن الصحيح أن الأسماء توقيف، الله علمها آدم.
وخامسها وسادسها: جمادى الأولى والآخرة بضم الجيم، وبألف التأنيث المقصورة لجمود الماء فيهما بالموافقة لحين الوضع.
وسابعها: رجب، سمى لتعظيمهم له، وقيل: لموافقته حين الوضع تثاقل الشجر بحملها حتى احتاجت إلى الترجيب، وهو جعل ما تعتمد عليه لها، ويسمى الأصم لعدم قعقعة السلاح فيه والأصب لكثرة صب الله سبحانه فيه الرحمة والخيرات، قيل: ولعدم تعذيب أمة فيه، ورد بإغراق قوم نوح فيه.
وثامنها: شعبان لتفرق القبائل فيه، والتشعب يطلق على التفريق وعلى الاجتماع، وفى الحديث:
"سمى لأنه يفرق فيه خير كثير" .
وتاسعها: رمضان، لاحتراق الأكباد فيه بالجوع والعطش، أو احتراق الذنوب فيه، أو لموافقته حين الوضع شدة الحر، ومنع صرفه للعلمية وزيادة الألف والنون، قيل: ويسمى شهر رمضان وإنه هذا كله علم عليه، وتعتبر علامتا منع الصرف فى الجزء الثانى لوجودهما فيه كأبى هريرة بمنع هريرة للعلمية والتأنيث، وهذا فى نفسه صحيح، لكن لا أسلم أن مجموع قولك: شهر رمضان علم مركب، بل العلم رمضان، والإضافة للبيان إضافة عام لخاص، وزعم بعض أنه لا يقال: رمضان، بل شهر رمضان، وزعم مجاهد: أن رمضان اسم لله، ومعنى شهر رمضان شهر الله، فلا يجوز أن يسمى باسم لم يرد فى سنَّة أو قرآن، وإن لم يشعر بنقص، وأسماء رسوله توقيفية إجماعا، لأن تسميته حق له، وحق المخلوق مبنى على المشاحة، وحق الله على المسامحة، فلو خوطبت بما لم يسمك به أبواك لم تسمح نفسك، كذا قال التلاتى، والصحيح أن أسماء الله توقيفية، ولعل له فى ذلك توقيفا.
وعاشرها: شوال، سمى لرفع الإبل فيه أذنابها للطروق، وقيل: لقلة اللبن فيه عند أصحاب الإبل.
وحادى عشرها: ذو القعدة بفتح القاف وهو أشهر من كسرها، وروى ضمها وهو غريب، سمى لقعودهم عن القتال فيه.
وثانى عشرها: ذو الحجة بكسر الحاء على الصحيح، وقيل: بفتحها اسمى لوقوع الحج فيه فى الإسلام، ولأنه وقت الحج أيضا فى الجاهلية على الأصل، ولو كان تارة فيه، وتارة فى صفر، وتارة فى بقية الشهور للنسائى، قال ابن هشام: تكون الحال مؤكدة لعاملها، ولا يقع التمييز كذلك، وأما أن عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرا، فشهر مؤكد لما فهم من أن عدة الشهور، وأما بالنسبة إلى عامله وهو اثنا عشر فمبين، ولا ينافى هذا قوله فى القطر وشرحه: إن هذا تمييز مؤكد لأنه لم يقل مؤكد لعامله.
{ فى كِتَابِ اللهِ } متعلق بالنسبة التى تعلق بها عند على أنه بدل، أو بمحذوف نعت لاثنى عشر، أو بعدة على ضعف للفصل بين المصدر ومعموله حينئذ بخبر إن، والمصدر ومعموله كالموصول وصلته، ومنعه بعض، وكتاب الله اللوح المحفوظ، أو حكم الله، والقرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب أقوال ضعف الثالث.
{ يَومَ خَلقَ السَّماواتِ والأرضَ } متعلق بكتاب إن جعل مصدرا، أو بالنعت المحذوف النائب عنه قوله: { فى كتاب الله } أو بمحذوف مستأنف أى ثبت ذلك يوم خلق السماوات والأرض.
{ مِنْها أربعةٌ حُرمٌ } جمع حرام، والحرام ما منع وهى: رجب وهو فرد، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهى ثلاثة فرد، كانت العرب تعظم الأربعة وتحرم القتال فيها، يلقى أحدهم فيها قاتل ابنه أو أبيه أو أخيه فلا يقتله ولا يروعه، وأعظمها رجب، وسموه متصل الأسنة، لأنهم يدخلون فيه الأسنة فى أغمادها، ولا يركبونها فى مواضعها كالرمح والنبل والسيف، واختلفوا: هل القتال فيها جائز أو حرام؟ والصحيح جوازه وعليه الجمهور.
وقد حاصر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أهل الطائف فى ذى القعدة، ووقع بعض قتال، وقال سعيد بن المسيب: كان حراما ثم نسخ تحريمه لقوله:
{ { براءة من الله ورسوله } وقيل بقوله: { { قاتلوا المشركين كافة } وقال عطاء بن أبى رباح: تالله ما يحل للناس أن يغزوا فى الحرم، ولا فى الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا، وما نسخت والجمهور وعطاء الخراسانى على أنه كان القتال فيها حراما ثم نسخ تحريمه، وكان تحريمها من دين إبراهيم وإسماعيل، وتمسكت به العرب.
وذكر بعضهم: أن معنى كونها حرما أن المعصية فيها أشد عقوبة منها فى غيرها، وأن الطاعة فيها أكثر ثوابا منها فى غيرها، وفى الحديث:
"إن الله اختار من الشهور رمضان وهذه الأربعة، وإن سيد الشهور رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة، وإن أعظم الشهور بعد رمضان المحرم" واستبعد بعضهم تفضيل الأشهر الحرم على غيرها، لتماثل الشهور، ويرده كثرة نظائره كتفضيل ليلة القدر، ويوم الجمعة وليلتها، ويوم عرفة، وفضل مكة.
وأول الأشهر الحرم ذو القعدة، وقيل: المحرم، والصحيح الأول، قيل: يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:
"إلا إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلقه الله" ووافقت حجته من ذى الحجة، وهى حجة الوداع، وكانت حجة أبى بكر فى العام قبله فى ذى القعدة، وعلى الأول تكون من سنتين، ومن نذر صومها مرتبة بدأ بذى القعدة، وعلى الثانى من سنة، ويبدأ من المحرم، وعليه فجعل أولها المحرم لأنه أفضلها، ووسط أحدها وهو رجب، لتعلم بركته الوسط، قيل: والأول ختم بذى القعدة، وذى الحجة، لتتم بركة الطرف الثانى، وأما الطرف الأول له بركتان: بركة ابتدائه بالمحرم، وأخذه جزءًا من رجب كذا زعموا، وزعموا أيضا أنه ختم بشهرين ليقع فيهما الحج المركب من شيئين: مال وبدن، وهو ختام الأركان الأربعة الزكاة، وهو مال محض، والصلاة وهى عمل بدن، والصوم وهو عمل القلب فيما قيل وهو بدن، لأنه الكف عما حرم، والحج وهو مال وبدن.
وفى حديث، عن ابن عمران:
"أولهن رجب" وأذا رأى أى الشخص الهلال قال: الله أكبر اللهم أهلَّه علينا بالأمن والأمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربى وربك الله، هلال خير ورشد، اللهم إنى أسألك من خير هذا الشهر وخير القدر، وأعوذ بك من شره.
وإذا نظر إلى القمر أول ليلة فليقل: اللهم إنى أعوذ بك من شر هذا الغاسق، ومن رأى هلال رمضان كبر خمسا وعشرين وقال: إلهى وإلهك الله، وربى وربك الله، سبحان من أظهر فيك من محاسن أسمائه ما عمت به البركات، سبحان من شرف أوقاتك على سائر الأوقات، سبحان من فتح فيك أبواب الإجابات للدعوات، سبحان من وصفك بأتم الصفات، سبحان من سنى فيك ملائكة الحضرات القدسيات، إلهى توسلت إليك بالأسماء التى على أبواب ليلة القدر وبالأذكار، التى ألهمت بها أولياءك، فشرفت بها على ألف شهر، تعرج الروح فيها والأملاك، أن تشهد فى مشاهدة هذه الليلة مطابقة لشهودك، وتلهمنى ذكر أسمائك التى تقدست بها ملائكة الليلة، حتى يمتزج الذكر فيصير وضعى ملكيا ونفسا روحيا يا قيوم لا إله إلا أنت.
{ ذَلكَ } أى تحريم الأشهر الأربعة { الدِّينُ القيِّمُ } دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام المستقيم، وقال ابن عباس: القضاء المستقيم، وقيل: الحكم الثابت الذى لا يزول، وقيل: الحساب المستقيم، وقد فسر بعضهم دان بمعنى حاسب فى حديث:
"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" والإشارة فى هذا القول إلى عدد الاثنى عشر شهرا.
{ فَلا تظْلمُوا فيهنَّ } فى هذه الأربعة { أنفُسَكم } بارتكاب المعاصى، فإن الوزر فيها أعظم كالوزر فى الحرم، ولو كان الوزر محرما فى كل وقت، وكل زمان، وذلك على قول الجمهور، وعطاء الخراسانى، وأما على قول عطاء بن أبى رباح، فالظلم القتال، وكان يرى القتال فيهن حراما، وقال ابن إسحاق: لا تظلموا فيهن أنفسكم باستحلالها، وتحريم غيرها بالنسىء كما تفعل الجاهلية.
قيل: سبب تعظيم بعض الأشهر، وبعض الأماكن: أن يتدرب الإنسان المجبول النفس على المعصية إلى ترك المعصية فيما سواها، وقيل: الضمير عائد إلى الاثنى عشر، أى خلقت الأزمنة كلها للطاعة، فلا تعصوا الله فيها، والجمهور وقتادة على أن الضمير للأربعة، ويؤيده المجىء به بصورة الجمع المؤنث، لأن الأربعة لم تبلغ عدد جمع الكثرة، وهى لغير العاقل، فكان الأفصح الجمع، وإذا رد على الاثنى عشر كان بدون ذلك فى الفصاحة، لأن الاثنى عشر بلغ عدد جمع الكثرة لغير العاقل، فكان الأفصح الإفراد والتأنيث، بأن يقال فيها، وجمع الكثرة أحد عشر، وقيل عشرة فصاعدا.
{ وقَاتِلُوا المشْرِكينَ كافَّة كَما يُقاتلونَكُم كافَّة } قاتلوهم وأنتم مجتمعون عليهم، كما يقاتلونكم وهم مجتمعون عليكم، فكافة حال من الفاعل فى الموضعين، أو قاتلوهم ولا تتركوا منهم أحدا كما يقاتلونكم، ولا يتركون منكم أحدا، فكأنه حال من مفعول وهو مصدر بوزن اسم الفاعل وقع حالا، وذلك أن الجميع مكفوف عن الزيادة، ويجوز أن يكون حالا من الفاعل والمفعول معا، ويجوز أن يكون اسم فاعل، أى جماعة كافة، أى تكف من عارضها، وقيل: يكف بعضها بعضا عن التخلف وهو ضعيف، قال بعضهم: المراد قاتلوا المشركين فى الأشهر الأربعة، وأخرى أن تقاتلوهم فى غيرها.
قال بعضهم: كان الغرض بهذه الآية متوجها على الأعيان، ثم نسخ وجعل فرض كفاية، قال بعض: إن هذا ضعيف، وإنه لم يعلم قط من شرع النبى صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر، وإن المراد بالآية الحض على قتال المشركين والتحزب عليهم.
{ واعْلَموا أنَّ اللهَ مَعَ المتَّقينَ } أمرهم بعلم أن الله مع المتقين بالنصر والعون بعد أمرهم بالقتال بشارة، ووعد بالغلبة بسبب التقوى، وحظا على القتال والتقوى.