التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٣٧
-التوبة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إنَّما النَّسىءُ } التأخير وهو مصدر نسأه ينسأه بالهمزة بمعنى أخره، ويقال أيضا: أنساه والأصل النسىء بالهمزة، أبدلت ياء وأدغمت فيها الياء، هذه قراءة نافع فى رواية ورش، وهى قراءة ابن كثير فى رواية غير مشهورة، وأبى جعفر، وقرأ الباقون النسىء على الأصل المذكور بإسكان الياء بعدها همزة بوزن المسيس والنذير والصهيل، وهو المشهور عن ابن كثير، وإذا وقف حمزة وهشام وافقا نافعا، وقرأ ابن كثير فى رواية، وجعفر بن محمد، والزهرى: النسىء بإسكان السين بعده ياء فقط، وقرأ ابن كثير أيضا فى رواية: النسىء بإسكان السين بعده همزة متصلة به فقط، وقرأ بعضهم: النساء بالمد، وبعض النسىء بالقصر، والكل مصادر بمعنى التأخير.
والمراد تأخير حرمة الشهر إلى شهر بعده، كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أو مريدون المحاربة أحلوه وحرموا مكانه آخر، ورفضوا تخصيص الأشهر الحرم، وحرموا من العام أربعة على حد ما يوافقهم، ولا يجوز أن يكون النسىء بتشديد الباء، أو النسىء بإسكانها بعدها همزة فعيلا بمعنى مفعول، لأن المؤخر الشهر، والشهر لا يكون زيادة فى الكفر كما قال أبو على الفارسى، وقال أبو حاتم: هو فعيل بمعنى مفعول، ولعله مضافا، أى إنما إنساء النسىء.
وقال الطبرى: معنى النسىء الزيادة، أى إنما الزيادة فى الأشهر، وذلك أن العام بما تفعله الجاهلية من التأخير يكون ثلاثة عشرة شهرا، وربما جعلوه أربعة عشر شهرا، ولذلك رد الله عليهم بأن الشهور اثنا عشر شهرا لا غير، وقال فى النسىء بإسكان السين بعده ياء: إنه الترك، والصحيح أنه التأخير، لكن أبدلت الهمزة، وزعم أبو وائل: إن النسىء بإسكان الياء بعدها همزة رجل من كنانة، أخبر عنه بزيادة فى الكفر مبالغة أو بتقديره بزائد فى الكفر، أو بذو زيادة فى الكفر، أو بتقدير زيادة النسىء زيادة فى الكفر، وأن الهاء فى به عائدة إليه وترده الهاء ان بعدها.
{ زِيادةٌ فى الكُفْر } الشرك لأنه تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، ضموه إلى شركهم { يُضلُّ } وقرأ أبو رجاء بفتح الضاد، لأن ضل من باب ضرب، ومن باب علم، وذلك لغتان { به الَّذينَ كَفرُوا } أى يزدادون به ضلالا، وقرأ حمزة، والكسائى، وحفص، وعاصم فى رواية عنه، وابن مسعود بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول، من أضله ليناسب زُيِّن، والمضل لهم الله أو الشيطان، أو رؤساؤهم.
وقرأ يعقوب وابن مسعود فى رواية عنه، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وعمرو بن ميمون، بضم الياء وكسر الضاد، على أن الفاعل ضمير الله سبحانه وتعالى، أو ضمير الشيطان لعنه الله، والذين مفعول أو هو الفاعل والمفعول محذوف، أى يضل به الذين كفروا أتباعهم ورجحهم بعضهم والهاء عائدة إلى النسىء أى يضل بالتأخير الذين كفروا.
{ يُحلُّونه } مستأنف لبيان الضلال، أو حال من الذين، أو يحلون النسىء وهو التأخير، بأن يجعلوه حلالا فيؤخروا شهرا ويحرمون مكانه شهرا آخر، وأرجع بعضهم الهاء إلى الشهر المفهوم من المقام، وبعض إلى النسىء على أنه بمعنى الشهر المؤخر على معنى إنما إنساء النسىء زيادة فى الكفر.
{ عَاماً } ظرف { ويُحرِّمونَه عاماً } آخر، أى يتركونه على حرمته فى العام الآخر { ليُواطِئُوا } يوافقوا متعلق بيحلونه، أو يحرمونه على التنازع، أو بمحذوف يتضمن ذلك التحليل، وذلك التحريم، أى ينسأون أو يفعلون ذلك ليواطئوا، وقرأ الزهرى ليوطئوا بالتشديد.
{ عِدَّة ما حَرَّم الله } وهو أربعة الأشهر، يوافقون عدها دون أعيانها كلها، وقد يوافقون بعض أعيانها { فَيحلُّوا ما حرَّم الله } أى يزيلون الحرمة عما جعلها الله له بمراعاتهم العدد، دون الوقت المعين.
{ زُيِّنَ } وقرىء بالبناء للفاعل وهو الله، وقال ابن عباس: الشيطان ونصب سُوء { لَهم سُوءُ أعْمالهم } قبيحها فحسبوه حسنا، كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها، فكانوا إذا توالت حرمة ذى القعدة، وذى الحجة، والمحرم، صعب عليهم وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين فى العرب، وتتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام فيما يزعمون، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم، فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة، ثم ابنه قلع بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنه عوف بن أمية، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف، وعليه ورد الإسلام.
وقيل: هو أول من أحدث ذلك كان يقوم على جمل فى الموسم فينادى بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم فى القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه.
وقال الكلبى: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له: نعيم ابن ثعلبة، يكون على الناس فى الموسم، فإذا هموا بالصدر خطبهم وقال: أنا الذى لا يرده ما قال، لا أجاب ولا أعاب، فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا، فإن أحل لهم المحرم كان صفر حراما.
وعن ابن عباس: أول من فعل ذلك عمرو بن يحيى بن قمعة، وهو أول من سيب السوائب ورآه صلى الله عليه وسلم فى النار، وإذا أحلوا المحرم وحرموا صفرا سموا ربيعا الأول صفرا، وربيعا الآخر ربيعا الأول، وهكذا فتكون السنة من ثلاثة عشر شهرا، قال مجاهد فيحجون فى كل شهر عامين، فكانت حجة أبى بكر فى ذى القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة، وقيل: فى ذى الحجة.
"وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فى ذى الحجة حقيقة، وخطب فى منى وقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان وقال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، وهو يوم النحر فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، وستلقون ربكم يسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أوعى من بعض من يسمعه ثم قال: ألا هل بلغت، ألا هل بلغت قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد" وإنما نسب رجبا إلى مضر لأن قبائل ربيعة تجعل رجبها رمضان، بخلاف قريش ومن تابعهم.
وكان أول السنة المحرَّم، لأن عمر دوَّن ديوان المسلمين وأرَّخه بالمحرَّم، أو لأن سفينة نوح رست فيه، وقال قوم: كانوا يحلون المحرم ويحرمون صفرا، ويحرمون المحرم من قابل، ويحلون صفرا، وكانوا يسمونهما الصفرين، ولو فرضنا أنهم حرموا صفرا وأحلوا المحرم قبله، وفى السنة الثانية أحلوهما وحرموا ربيعا الأول، وفى الثالثة أحلوهن وحرموا ربيعا الآخر وهكذا، أرجع التحريم إلى المحرم فى الثانية عشر، لكنهم قد يفعلون ذلك، وقد يفعلون غير ذلك، وقد يحلون رجبا ويحرمون شعبان، فيحلون ذا القعدة، ويحرمون صفرا، وقد يحلون ذا القعدة فيحرمون مع المحرم صفرا وربيعا الأول، ويفعلون نحو ذلك.
{ واللهُ لا يهْدِى القَوْم الكافِرينَ } الذين سبقت شقاوتهم هداية توفيق، وأما هداية البيان فقد هداها كل كافر، وهكذا فى مثل الآية، وقد مر الكلام فى مثلها.