التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
٦
-التوبة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فإذا انْسَلخ الأشْهر الحُرُم } انقضت، وأصل الانسلاخ خروج الشىء مما يلبسه، والأشهر الحرم أربعة الأشهر التى جعل للمشركين أن يسيحوا فيها، وقد مر الخلف فيها، سميت حرما لتحريم القتال فيها فى ذلك العام، وقيل: لتحريم نبذ العهد فيها فى ذلك العام، وقيل: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ووجهه أن المدة أخذت من هذه الأربعة، وكان تمامها تمام هذه الأربعة، فصح تأجيلها بانسلاخ الأربعة، فليس هذا القول مخلا بالنظم.
غير أن تسمية رجب وذى القعدة وذى الحجة والمحرم أشهرا حرما، والتأجيل بانسلاخها يقتضيان بقاءها كما كانت قبل، على تحريم القتال فيها، مع أن العلماء أجمعوا على أن القتال فيها حلال، ولم ينزل ناسخ لها فيما قال القاض، فلا تحمل الأشهر الحرم على هذه الأربعة لئلا يخالف الإجماع، وحملها جار الله عليها، وقال: إن العلماء أجمعوا على حل القتال فيها لنزول ناسخها.
{ فاقْتلُوا المشْركينَ حَيثُ وجدْتُموهُم } فى الحل والحرم، قيل: وعند البيت، وهذه الآية ناسخة لكل آية أمر فيها بالكف أو بالمهادنة، وذلك مائة وأربع عشرة آية، وقيل: مائة وأربع وعشرون، زعم بعضهم أن ذلك عجيب، نسخت هذه الآية ذلك العدد من الآى، ثم نسخت بقوله: { وإن أحد من المشركين }.
قلت: بل قوله: { وإن أحد } الآية، قيل فيها: لا ناسخ لها، والمراد بالمشركين من لا عهد له، أو له عهد على تمام الأربعة، أو له عهد أقل منها، أو له عهد أكثر ونقضه، وقيل: كل مشرك، وزعم عطاء والسدى والضحاك، أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
{ { فإمَّا منًّا بعدُ وإمَّا فداء } وقالوا: لا يجوز قتل الأسير، بل يمنّ عليه بالإطلاق، أو يفادى، وزعم قتادة ومجاهد أنها ناسخة لقوله تعالى: { { فإمَّا مناً بعدُ وإما فداء } وقال: لا يجوز فى الأسير إلا القتل، وقال ابن زيد الأندلسى: إن الآيتين محكمتان، لأن هذه فى حال القتال، وليس فيها ذكر للأسر، وتلك فى الأسر، والأسر غير القتال وهو الصحيح.
{ وخُذُوهُم } وأسروهم، والأخيذ الأسير { واحْصُروهُم } احبسوهم لتتمكنوا منهم، وعن ابن عباس: أحضروهم أن تحصنوا، وعنه حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام، وقيل: امنعوهم من دخول مكة، والتصرف فى بلاد الإسلام.
{ واقْعُدُوا لَهم كُلَّ مَرْصدٍ } كل موضع يصلح أن يرصد فيه العدو، أى يرتقب فيه بأن يكون بئرا له لئلا ينبسطوا فى البلاد، وقيل: المراد طريق مكة، ولئلا يدخلوها، ونصب كل على الظرفية المكانية، لأنه ينصب على الظرفية إذا أضيف إلى ما يدل على زمان، أو مكان ولو لم يصلح هذا المضاف إليه للنصب على الظرفية كمرصد هنا، فإنه لا يصلح لها لأنه ولو كان اسم مكان، لكنه لم يتسلط عليه، ما هو فى لفظه ومعناه، وقيل: منصوب على نزع الخافض، أى فى كل مرصد أو على كل مرصد.
{ فإنْ تابُوا } عن الشرك { وأقامُوا الصَّلٰوةَ } المفروضة أتموها { آتَوُا الزَّكٰوةَ } تصديقا لتوبتهم { فَخلُّوا سَبيلَهم } لا تعطلوه عنهم يمشون حيث شاءوا، فإنهم حينئذ مثلكم، والآية دليل على أن تارك الصلاة، ومانع الزكاة لا يخلى سبيلهما، وأن مكان الصلاة والزكاة من الشرع عظيم، فقد قرنا بالتوحيد { إنَّ اللهَ } تعليل جملى { غَفورٌ } للتائب { رَحيمٌ } له، فإن التائب توبة نصوحا من أولياء الله.
روى أن عليا قرأ:
{ { براءة من الله ورسوله } إلى: { { وأن الله مخزى الكافرين } فى الموسم فقال المشركون: يا على ولم تسيرنا فى الأرض أربعة أشهر، بل أنت وابن عمك بريئان منا إلا من الطعن والضرب إن شئتم، وندموا على ما قالوا وأسلموا، كما مر، ثم قال: { { وأذان من الله ورسوله } إلى: { { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } فقام إليه من له عهد كبنى ضمرة فقالوا: يا على ونحن أيضا على أربعة أشهر؟ قال: لا إن الله قد استثناكم، فقرأ: { { إلا الذين عاهدتم من المشركين } إلى: { { إن الله يحب المتقين } قيل: وكانوا قد عاهدوا النبى صلى الله عليه وسلم عند البيت عام الفتح، وقد بقى لهم حين قرأ على نحو سنة، وهى آخر مدتهم، وفيهم أيضا نزل: { { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } الآية وكان الذى عاهد على بنى ضمرة الوحشى بن خويلد، ولما قرأ على: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } الآية قام رجل من المشركين ممن لا عهد له فقال: يا على أرأيت إن أراد الرجل منا أن يلقى محمدا فيسمع منه، أو يقضى معه حاجة، أتقتلونه إذا انسلخ الأشهر الحرم؟ قال: لا وقرأ:
{ وإنْ أحدٌ } فاعل لمحذوف دل عليه { استجارك } وعده ابن هشام وغيره من الاشتغال فى المرفوع، وأجاز الأخفش كونه مبتدأ فيكون الشرط جملة اسمية، وأجاز هو والكوفيون كونه فاعلا مقدما { مِنَ المشْرِكينَ } الذين لا عهد لهم فيما قيل، وقيل: من المشركين الذين أمر بالتعرض لهم بعد الأربعة الأشهر { اسْتَجاركَ } طلب أن يكون جارا لك، أى مجاورا لك فى بلدك، مأمونا ليسمع ما أوتيت به ويعرب الشريعة { فأجِرْهُ } اجعله جارا لك، أى مجاورا فى بلدك مأمونا.
{ حتَّى يسْمَع كَلامَ اللهِ } أى القرآن، والإضافة إضافة مخلوق لخالق، والمعنى حتى يسمع القرآن ويتدبر ويتفهم، فحذف العطف، أو المراد بالسمع التدبر والتفهم فى القرآن المترتبين على سماع الإذن.
{ ثمّ أبْلغهُ مأمنهُ } موضع أمنه إن لم يسلم، والمأمن كما رأيت اسم مكان وهو موضعه الذى لا يخاف فيه، وهو بلد قومه، وبعد ذلك قاتله من غير غدر ولا خيانة ولو لم يقاتلك، لا كما قيل: إن قاتلك بعد فقاتله.
{ ذَلكَ } المذكور من الإجارة والإبلاغ المأمن، أو ذلك الأمر، أو ذلك الأمن مبتدأ خبره { بأنَّهم } بسبب أنهم { قومٌ لا يعْلمونَ } ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، وما مصلحتهم وهى الإيمان، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا، وذلك مفعول لمحذوف، أى قضينا ذلك أو فرضنا ذلك، لأنهم قوم لا يعلمون.
قال الحسن، ومجاهد: هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة، يجار من استجار إلى أن يسمع ويبلغ مأمنه، ثم يقاتل بعد أن لم يؤمن، وزعم الضحاك، والسدى، أنها منسوخة بقوله: { فاقتلوا المشركين } وقال بعضهم: حكمها فى مدة أربعة الأشهر، فالمراد استجارك فى أربعة الأشهر لا بعدها.
قال الكلبى: إن أناساً ممن لا عهد لهم لم يوافقوا الموسم الذى قرأ فيه على صدر هذه السورة، وكانوا بأرض اليمامة وكأنصارى من بنى قيس بن ثعلبة، ولما بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المشركين الذين لا عهد لهم إذا انسلخ الأشهر الحرم، أقبلوا إلى المدينة قيل: بعد ما انسلخت ليجددوا بينهم وبينه حلفا فلم يصالحهم إلا على الإسلام أو يقتلوا، فخلى سبيلهم حتى بلغوا مأمنهم وهو اليمامة، وأقاموا بها حتى أسلم الناس، فمنهم من أسلم، ومنهم من أقام على نصرانيته، وفيهم نزل: { وإن أحد من المشركين } الآية فهى نزلت بعد الموسم، وزعم بعضهم أن آية القتل السابقة نسخت حين أسلمت العرب طوعا وكرها بقوله:
{ { لا إكراه فى الدين } فرفع السيف عن أهل الكتاب بإعطاء الجزية.