التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ
٢
-القدر

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } وفي تعظيمها هذا تعظيم أيضا للقرآن بل عظمت لنزوله فيها وعن ابن عيينة ما كان في القرآن ما أدرك بكذا وقد أعلمه به وما كان ما يدريك لم يعلمه به فقد علم صلى الله عليه وسلم ليلة القدر وتعينت عنده وتعقب بقوله { { وما يدريك لعله يزكى } فإنها نزلت في ابن أم مكتوم وقد علم بحاله وإنه ممن تزكى ونفعته الذكرى وعن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم أرأيت هذه الليلة حتى تلاحى رجلان منكم فرفعت فالتمسوها في التاسعة أو السابعة أو الخامسة، قال الربيع تماريا وتنازعا والرجلان عبد الله بن أبي حدود وكعب بن مالك وفي رواية فتلاحى وروي فجاء رجلان يختصمان معهما الشيطان وروي أنه لقيهما عند سدة المسجد أي عتبته وروي خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة.
ومعني أرأيت بضم الهمزة وكسر الراء أعلمت بليلة القدر وذلك في المنام أو جعلت مبصرا لها وإنما أرى علامتها وهي السجود في الماء والطين، وروي وقد رأيت ومعنى قوله رفعت أنها من قلبي نسيب تعيينها للإشتغال بالمتخاصمين وقيل رفعت بركتها في تلك السنة وقيل ضمير رفعت للملائكة وقيل رفعت معرفتها ويمكن أنها لم تقع لكن كادت تقع فمنعت لمخاصمة الرجلين.
وسأل واهب المعافري زينب بنت أم سلمة هل كان صلى الله عليه وسلم يعلمها فقالت لو علمها لما أقام الناس غيرها ويبحث باحتمال أنه علمها بعد رفعها وأمره الله بسترها ليقع الإجتهاد في جميع العشر الأواخر أو رمضان كله وهي كرامة والكرامة يستحب إخفاؤها خوف السلب والرياء ولئلا يتشاغل عن الشكر بالنظر اليها وذكرها للناس ولئلا يحسده غيره وقد قال يعقوب عليه السلام
{ { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك } الخ وتبعا لما اختاره الله لنبيه فإنه لم يعينها له في القرآن ولم يعينها له ويأمره بإشهارها للصحابة، والظاهر أن المراد بالتاسعة والسابعة والخامسة التاسعة والسابعة والخامسة من العشر الأخر، وفي رواية في تاسعة تبقى وفي سابعة تبقى وفي خامسة تبقى.
وعن أبي عبيدة عن جابر عن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف في العشر الوسط من رمضان اعتكفنا معه حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من اعتكافه غدوتها قال
"من اعتكف معي فليعتكف في العشر الأواخر وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسبتها وقد رأيت أني أسجد في غدوتها في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر فالتمسوها في كل وتر" وروي "عن أبي سلمة عن أبي سعيد فاعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وقال إني رأيت أني أسجد في ماء وطين فمن كان اعتكف معي فليرجع" فرجعنا وما نرى في السماء قزعة أي قطعة من سحاب رقيقة فجاءتنا سحابة فأمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل وأقيمت الصلاة فرأيته صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثره في جبهته والعشر الليالي ولكن وصفت بالأوسط في رواية أبي سعيد لتأويلهن بالوقت أو الزمان أو الثلث.
وروي الوسط كما مر ورواية الأوسط أكثر والوسط بضم الواو والسين جمع وسطي وروي بضم الواو وفتح السين كالكبر جمع كبرى، وروي بإسكان السين جمعا لواسط كبازل وبزل أو تخفيف عن وسط بضمهما، وروي فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وظاهر ما مر أن الخطبة وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين فأول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنين وعشرين وهذا مغاير لرواية مالك في آخر الحديث، فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين فإنه ظاهر في أن الخطبة في صبح المتم عشرين والمطر في ليلة الحادي والعشرين، ولعل الصبيحة في قوله من صبيحنا الصبح الذي قبلها كما يضاف الذي بعدها اليها قاله ابن دحية ولم يتابع عليه، وروي فإذا كان حين يمشي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه وهو واضح في أنه يعتكف في العشر الأواسط يخرج من اعتكافه من اليوم العاشر وهو المتم عشرين وقيل إن الراوي شك هل قال ثم أنسيتها أو قال ثم نسيتها، وروي أن سبب النسيان أيقاظ أهله له فلعل الرؤيا متعددة أو مراده أنه أيقظه بعض أهله فسمع تلاحي الرجلين فقام ليحجز بينهما فنسيها للإشتغال بهما.
وروي أنه قال
"ألا أخبركم بليلة القدر قالوا بلا فسكت ساعة ثم قال لقد قلت لكم وأنا أعلمها ثم أنسيتها" فلم يذكر سبب النسيان وهذا يقوي التعدد ومن علاماتها أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها وهذه رواية وروي "أن الشمس في صبيحتها مثل الطست" وروي أنها صافية وروي حمراء ضعيفة لا حارة ولا باردة وروي أن الليل صافية بالجة كان فيها قمرا ساطعا ساكنة صاحبة لا حر فيها ولا برد ولا يرمي فيها بكوب وتخرج الشمس كالقمر ليلة البدر لا شعاع لها لا يطلع معها الشيطان كسائر الأيام قيل أول من يصعد جبريل فيبسط جناحيه فتصبح الشمس بلا شعاع ويدعو ملكا ملكا فيجتمعون اليه فيجتمع نورهم فتصبح لاشعاع لها ويبقون يومهم في الهواء يستغفرون للمؤمنين وإذا دخلوا سماء الدنيا سألهم أهلها من أين فيقولون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون ما صنع بهم فيقولون غفر لهم وشفع لهم وشفع صالخحم في طالحهم فيضجون بالحمد والتسبيح والتهليل شكرا ويسألون عن كل إنسان فيقولون مبتدع في العام الماضي تائب في هذا وبالعكس ووجدنا فلانا يعبد وفلانا يعصي فيدعون المعابد ويتركون استغفار المعاصي ويدعو لهم أهل كل سماء وتنزل ملائكة سدرة المنتهى ومعهم جبريل بأربعة ألوية ينصب لواء على قبري ولواء منها على طور سيناء ولواء على ظهر الكعبة ولواء على بيت المقدس ويدخل النور كل بيت فيه مؤمن أو مؤمنة ينزل في الليلة نور كالقلم وقيل كالحية العظيمة قيل هو نور رحمة وقيل نور لواء الحمد وقيل نور أجنحة الملائكة وقيل نور الطاعات وقيل نور أسرار العارفين وقيل نور الهيبة وقيل أنها ليلة مطر وريح وهو رواية وروي أنه لا يخرج شيطانها حتى يمضي فجرها ولا يرسل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء وتقبل توبة كل تائب فيها وتفتح فيها أبواب السماء وهي من غروب الشمس إلى طلوعها قيل تسقط فيها الأشجار إلى الأرض ثم تعود كما هي ويسجد فيها كل شيء وتعذب فيها المياه المالحة.
وفي رواية أبي سعيد فلما كان صبيحة عشرين قفلنا متاعنا فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال
"من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه وفيها" والذي بعثه بالحق لقد هاجت السماء من اخر ذلك اليوم ولقد رأيت على جبهته وانفه الماء والطين وليس المراد برفعها رفع وجودها بدليل امره بالتماسها وزعم بعضهم انها ذاهبة بعد ما كانت وعامة العلماء والصحابة على بقائها قال ابو هريرة كذب من قال بذهابها هي في كل شهر رمضان وقيل تنتقل في ليلة من سنة وفي اخرى من اخرى.
وعن ابي بكر من قال بذهابها قال مالك والثوري واحمد واسحاق وابو ثور انها تنقل في العشر الاوخر وقيل في رمضان كله، وقال ابن مسعود وأبو حنيفة قيل في ليلة من السنة كلها وعن ابن مسعود من يقم ليالي الحول يصبها وقال ابن عمر يرحم الله أبا عبد الرحمن أما علم أنها في شهر رمضان ولكن أراد أن لا يتكل الناس وهذا الذي ذكره ابن عمر عليه الجمهور والأكثرون منهم أنها في العشر الأواخر منه وهو الصحيح وقال أبو زيد العقيلي أول ليلة منه وقيل ليلة السابع عشر وهو رواية عن ابن مسعود وزيد بن الأرقم والحسن وقال الشافعي ليلة إحدى وعشرين.
"وعن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يحاول العشر الأخر، قال عبدالله بن أنيس كنت في مجلس بني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فخرجت فقلت له يسئلك رهط بني سلمة عن ليلة القدر فقال كم الليلة فقلت اثنتان وعشرون فقال هي الليلة ثم قال أو القابلة" يعني المقبلة وهي الثالثة والعشرون وقال جماعة من الصحابة أنها الثالثة والعشرون ومال اليه الشافعي أيضا وعن بلال أنها في أول السبع من العشر الأواخر، "وقال أبو عبد الله بن أنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لي بادية أكون فيها وأصلي فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد فقال ليلة ثلاثة وعشرين" وكان يدخل في العصر ويخرج إذا صلى الفجر يجد دابته على باب المسجد فيلحق بالبادية.
وفي رواية أرأيت ليلة القدر ونسيت وأراني المسجد في صبيحتها في ماء وطين قال عبد الله فمطرنا ليلة ثلاثة وعشرين وصلى بنا وانصرف وفي جبهته وأنفه ماء وطين، وعن بلال وابن عباس والحسن هي ليلة أربعة وعشرين وعن ابن عباس التمسوها في ليلة أربع وعشرين وقيل في ليلة خمس وعشرين وعن ابن عباس أيضا وأبي أحمد ليلة سبع وعشرين وقيل لأبي أن ابن مسعود يقول هي في السنة فحلف ولا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان وهي الليلة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقيامها شمس يومها بيضاء لا شعاع لها وروى معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن
"ليلة القدر ليلة سبعة وعشرين" وقيل "ليلة تسعة وعشرين" وقيل "ليلة آخر الشهر" . وعن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم "هي في كل رمضان" ، وعنه صلى الله عليه وسلم "اطلبوها ليلة سبعة عشر وليلة واحد وعشرين وليلة ثلاثة وعشرين" وعنه "التمسوها في العشر الأخر لتسع بقين أو سبع بقين أو خمس بقين أواخر الشهر" .
وقال بعضهم ليلة أحد وعشرين وليلة ثلاثة وعشرين وخمسة وعشرين وسبعة عشرين وتسعة وعشرين وآخر الليلة قال الشافعي وأقوى الروايات إحدى وعشرون وقيل الليلة السابعة من أوله وهو رواية عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم والجمهور أنها ليلة سبعة وعشرين واستنبطه ابن عباس من عدد كلمات السورة وافق أن قوله هي سابع كلمة بعد العشرين وبالغ ابن حزم في انكاره، وعن ابن عطية هو من ملح التفاسير لا من متينها واستنبط ذلك بعضهم من أن ليلة القدر تسعة أحرف وقد أعيدت في السورة ثلاث مرات وذلك سبع وعشرون.
قال بعض الحنفية من قال لزوجته أنت طالق ليلة القدر طلقت ليلة سبعة وعشرين ومن رآها يرى كل شيء ساجدا فهذه علامتها عند بعض وقيل علامتها سطوع النور حتى يسطع في المواضع المظلمة وقيل سماع السلام والخطاب من الملائكة وقيل استجابة دعاه من وافقها وصحح أنه لا يشترط لحصولها سماع شيء ولا رؤيته ويحصل ثوابها لمن قامها ولو لم تظهر له عند جماعة وقيل بشرط الظهور ونسب للأكثر من الناس والظاهر الأول، وزعم بعضهم أنها لم تفته في عمره وأنها أبدا ليلة الأحد فإن كان أول الشهر ليلة الأحد كانت له تسع وعشرون وهلم جرا.
ولزم من ذلك أن تكون في ليلتين من العشر الوسط لضرورة أن أوتار العشر خمسة وعارضه بعض من تأخر عنه فقال إنها تكون أبدا ليلة الجمعة وذكر نحو ذلك ولا أصل لهما وخالفا إجماع الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه، وقيل في النصف الآخر منه ليلة مجموعة من الأفراد ودعوى خميس الإجماع على أنها في رمضان مردودة وقيل إن كان أول رمضان الجمعة فهي الليل التاسع والعشرون أو السبت فالحادية والعشرون أو الأحد فالسابعة والعشرون أو الاثنين فالثلاثة والعشرون أو الثلاثاء فالخامسة والعشرون أو الأربعاء فالسابعة والعشرون أو الخميس فالتاسعة والعشرون.