التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
١١
أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
١٢
-البقرة

جواهر التفسير

هذا هو ديدن المنافقين، ومسلك المفسدين، فإن الغرور يتغلغل في نفوسهم فيعميها عن الحق، ويبعدها عن الحقيقة، فإذا طولبوا بالصلاح، والكف عن الفساد، استخفوا بهذه المطالبة ونظروا إلى صاحبها شزرا، وأعاروه أذنا صماء زاعمين أن ما هم فيه وعليه هو عين الصلاح، وروح الإِصلاح، فكيف يطالبون بالكف عنه والتحول إلى نقيضه، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على ما وصلت إليه قلوبهم من المرض، وانتهت إليه أفكارهم من الانحراف، وبلغت إليه فطرهم من التعفن، وهو الذي أدى إلى انقلاب موازين الأمور عندهم، وانعكاس مقاييسها، فهم يرون الباطل حقا، والحق باطلا، والصلاح فسادا، والفساد صلاحا، وهكذا.
وليس ذلك مقصورا على ذلك الجيل من المنافقين الذين عاصروا نزول الوحي وشاهدوا بزوغ شمس الاسلام، فشرقوا لانتشار ضيائها، وجزعوا من عموم هداها، بل هذه هي سمة أهل النفاق، وطريقة أهل الفساد في كل عصر خصوصا عندما يستشري داؤهما في مجتمع أو شعب أو أمة، فلا تستغرب إن وصفوا المعروف بصفة المنكر أو ألبسوا المنكر حُلة المعروف، كما أشار إلى ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لا يحتاج إلى أن يقام عليه برهان لوضوحه في مختلف العصور لا سيما هذا العصر الذي فتك فيه بالانسانية عامة، وبهذه الأمة خاصة داء الجاهلية العضال، تلك الجاهلية التي جُليت للناس في ثوب مهلهل برّاق محبوك بخيوط من الزور ومصبوغ بألوان من الخداع، فغرقت في ظلمات الجهل والأوهام حتى لم تعد تبصر الحقيقة أو تفرق بين الحق والباطل، فكم من مأساة ارتكبت في هذا العصر باسم العلم أو التقدم أو الحرية، وكم تهمة وُجِّهت فيه إلى الدين وأهله، وإذا خوطب أحد من هؤلاء المتشبثين بغروره، الغارقين في ضلاله، بآيات الله البينات ولّى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا.
ومن أمثلة ذلك ما كان من أحد الطواغيت - الذين طواهم الزمن - عندما طولب بتطبيق شرع الله، فأجاب ساخرا من هذه المطالبة وممن صدرت منه: "إن زماننا هذا أوسع من أن تتسع له شريعة الله" كأنما شرع الله الذي وسع السماوات والأرض، والذي قام على موازينه الوجود، أضيق مجالا وأقل عطاء في نظره من تلك الأوهام الضالة التي أُخرجت للناس في صورة قوانين لتبث في الأرض الفساد وتشيع الظلم بين الناس.
ومما شاع في أوساط كثير من أولئك الذين أصيبوا بهذا الداء الجاهلي الدفين، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخُّل غاشم في شئون الناس الخاصة، ومصادرة لحرياتهم الشخصية ضاربين عرض الحائط بقوله عز وجل:
{ { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104]، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اعتبروا المحافظة على الدين من العيوب التي يستحيي منها الفرد الكيّس، ويترفع عنها المجتمع الواعي، فلم يتورعوا أن يصفوا التمسك بالمبادئ الحقة تارة بالجمود، وتارة بالتحجر، ومرة بالرجعية، وأخرى بالتطرف، ولا أزال أذكر جواب أحد المغرورين عندما وجّه إليه أحد دعاة الخير نصيحة بالكف عن مفسدة فقال له ساخرا منه ومن نصيحته: (ما أغلى نصحك وأحلى كلامك غير أنهما لم يأتيا في زمنهما المناسب، فقد تأخرا عن وقتهما قرنا من الزمن، وعجلة الأيام لا تعود إلى الخلف)، وهو كلام يدل على أن صاحبه يعتقد بأن الدين طواه الزمن وأبلاه الدهر، فلا يصلح اليوم لما كان يصلح له بالأمس، ولكن - بحمد الله - أصيب الذين يسودهم هذا التفكير بخيبة أمل عندما أثبتت الأيام أن الدين وحده هو القوة الغيبية التي تتلاشى بين يديها جميع القوى، وأنه - رغم محاربته والتآمر عليه بشتى المكائد - لا يزال في إقبال ونمو كما شرع أول مرة، فهذه الصحوة الإِسلامية - والحمد لله - أخذت تقض على الجاهلية الحديثة مضجعها، وتثير في أعماق نفسها الخوف والرعب، وسوف يأتي اليوم الذي يسود فيه هذا الدين إن شاء الله، ويهد أركان هذه الجاهلية، ويجتث بنيانها كما فعل بسالفتها الجاهلية القديمة؛ عندما طوى ظلامها بإشراق نوره وسطوع هداه.
وكثيرا ما يتردد على ألسنة منافقي العصر الحديثِ التشدق بالاسلام، ودعوى الانتماء إليه، والاعتزاز به، ليواروا بذلك ما ينطوون عليه من الكفر والشر والفساد، غير أن طبيعتهم المنحرفة تجعلهم أحيانا تفيض ألسنتهم بما تطفح به صدورهم من الحقد الدفين والكراهية المتأصلة للاسلام والمسلمين.
وقوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ.. } "الآية"، وارد مورد تعداد مساوئ المنافقين، وهتك أستارهم والنعي عليهم، فلذلك لا أجد داعيا إلى السؤال هل هو معطوف على جملة "يكذبون" من الآية السابقة كما رجحه الزمخشري، أو معطوف على { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } كما اختاره الألوسي، أو معطوف على { يقول آمنا } كما حكاه الزمخشري، أو على { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } كما استظهره ابن عاشور؟ فإنه مع جواز عطف القصة على القصة - كما تقدم - لا يمنع أن تساق أحوال طائفة مخصوصة في نسق يتبع بعضها بعضا سواء كان الحديث عن بعضها في جملة أو أكثر، إذ المراد تجلية هذه الأحوال للسامعين ليكونوا منها على بصيرة ومن أصحابها على حذر.
ويرى بعض أهل التفسير أن إذا هنا عارية عن معنى الشرط، وإنما هي للظرفية وحدها، ويترتب على ذلك كونها للمضي وليست للاستقبال كما إذا كانت شرطية، وهو واضح لأن ذلك ديدنهم قبل الاخبار عنهم، ونحوها قوله تعالى:
{ { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ } [آل عمران: 152]، فإن دلالتها على المضي فيه واضحة.
وتقديم الظرف على { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } هو - كما يقول ابن عاشور - لايقاظ الأفكار وتنبيه العقول على ما وصلوا إليه من الفساد، وانتهوا إليه من الضلال، وفي ذلك تعجيب من حالهم، فإنه من شأن الفساد أن يكون باديا للأنظار السليمة ومتشخصا للأفكار المستقيمة، ولا تكون المكابرة بإنكاره ودعوى أنه عين الصلاح وروحه إلا ممن بلغ الفساد فيه غايته، خصوصا عندما يكون مثل هذا الجواب موجها إلى الناصح الأمين في مقام التوعية والتنبيه.
واختُلف في قائلي { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } هل هو الله أو رسوله أو المؤمنون؟ ولا فارق بين أن يكون قائل ذلك هو الله أو الرسول، نظرا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، أما القول الثالث - وهو أن قائله المؤمنون - فهو محمول على أن طائفة من المؤمنين كانت تكتشف خبايا المنافقين بما يكون بينهم من الاتصال بسبب قرابة أو صحبة، ولا يألون جهدا - عندما يكتشفون نفاقهم - أن يوجهوا إليهم النصح، ويحاولوا تخليصهم مما هم فيه من الضلال راجين أن تجدي فيهم الموعظة ويؤثر فيهم التذكير، وهذا القول مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وروي مثله عن مقاتل، واعتمده العلامة ابن عاشور نظرا إلى أنه لو كان قائل ذلك هو الله أو رسوله لانكشف أمرهم وانهتك سرهم ولم يعودوا في طوايا الخفاء، ولو كان هذا الخطاب موجها إليهم إجمالا كما تتنزل مواعظ القرآن، لم يستقم جوابهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } لأن مثل هذا الجواب المقرون بالتأكيد لا يصدر إلا ممن خُص بالخطاب.
واستشكل كون طائفة من المؤمنين عرفت أشخاص المنافقين أو بعضهم، واكتشفت خبايا نفاقهم، ولا تكشف مع ذلك أمرهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولسائر المؤمنين.
وأجيب عنه بجوابين:
أولهما: أن المكتشفين كانت بينهم وبين من اكتشفوهم صلة قربى تجعلهم يطمعون أن تجدي فيهم موعظتهم، ويؤثر فيهم تذكيرهم، فلذلك كانوا يؤثرون سترهم رجاء أن يتحولوا في يوم من الأيام عما هم فيه من الضلال، وإن كانوا أحيانا يشارفون اليأس من صلاحهم عندما يقرعونهم بمثل هذا الجواب الذي يستأصل كل طمع في ارعوائهم.
ثانيهما: أنه لا يبعد أن يكونوا قد كشفوا أمرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن المنافقين كانوا من الحذر على أنفسهم بحيث لا ينكشف أمرهم إلا مع الوحدان دون الجماعات، فلم تكن الحجة تقوم بهم عليهم، وهذا الجواب هو الذي يجب الاعتماد عليه - فيما أرى - لثلاثة أوجه:
أولها: أن المؤمنين لم يكونوا يرعون في جنب الحق قرابة قريب ولا صلة واصل، وما كانوا تأخذهم في الله لومة لائم، بل كانوا يؤثرون الحق على آبائهم وأبنائهم، وأحب الأحباب إليهم، كما يدل على ذلك موقف ابن رأس النفاق عبدالله بن أبيّ من أبيه حال رجوع المسلمين من غزوة بني المصطلق، فقد اعترض دخوله المدينة إلا بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورماه بألذع الكلمات انتصارا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقف أمره عند هذا الحد، بل استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله.
ثانيها: أنه سبق ذكر بعض من شهد على أهل النفاق من قرابتهم كربيب الجلاس الذي شهد عليه.
ثالثها: أن في القرآن الكريم تصريحا بأن المنافقين كانوا يتوقَّون بالأيمان، فقد قال تعالى عنهم:
{ { ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } [المجادلة: 16]، وقال: { { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ } [التوبة: 74]، وكفى بذلك شاهدا على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أخلصوا لله إيمانهم ومحضوه ولاءهم كانوا يفضحون كل من بدرت منه بادرة سوء من المنافقين أمام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وذلك الذي يلجئ المنافقين إلى تكرار الأيمان اتقاء لما عسى أن يترتب على ما نسب إليهم من الأحكام.
واستظهر بعض المفسرين أن قائل { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } هو من نفس المنافقين، إذ لا يبعد أن يلمع لبعضهم بريق من الفطرة فيدرك أن المغبة السيئة لما هم فيه لن تعود إلا عليهم، وأن إغراق رؤسائهم في النفاق، ومحاربة الاسلام وأتباعه، وتأليب المشركين على المسلمين من خلف الأستار فتنة عمياء قد يكونون هم الذين يصطلون نارها، فلعل المشركين إن تمكنوا من المسلمين ينقلبون عليهم ويتخلصون منهم كما تخلصوا من المسلمين، غير أن رؤساءهم يرون أن خطتهم هي عين الصواب، فقد سبق للمشركين أن جاوروهم زمنا طويلا فلم ينتزعوا منهم سلطانهم الروحي ولم يهددوهم في مصالحهم المادية، بل كانوا ينظرون إليهم نظر إعظام وإكبار لتميزهم عليهم بما عندهم من علم الكتاب، وانفرادهم بينهم بمعارف النبوات حتى أنهم كانوا يدفعون إليهم أفلاذ أكبادهم لينشأوا على دينهم ويتغذوا بمعارفهم، فرعبهم إنما هو من المسلمين دون غيرهم، وهذا مبني على أن المنافقين كانوا من اليهود كما تقدم.
والفساد خروج الشيء عن الاعتدال اللائق به الذي تتوقف عليه منفعته، وإفساده إخراجه عن ذلك، وقسم بعضهم الفساد إلى قسمين، فساد طارئ وفساد أصيل، فالفساد الطارئ تحول الشيء من المنفعة إلى المضرة، والفساد الأصيل وجوده ضارا من أول الأمر، وعليه فالافساد يكون إما باستخدام ما ينفع فيما يضر، وإما إيجاد ما يكون منه ضرر من غير منفعة، واستظهر ابن عاشور أن الفساد موضوع للقدر المشترك من هذين المعنيين، فيتناولهما مع إطلاقه، وليس من الوضع المشترك بحيث يستقل كل واحد من المعنيين بدلالة اللفظ عليه فيكون إطلاقه عليهما من باب إطلاق المشترك على معنييه.
والإِفساد في الأرض يكون بتحويل المنافع إلى مضار كالغش في البضائع، وبالقضاء على منافعها، كالاحراق، وقتل من لا يستحق، وبإثارة الفتن بين أهلها لما يترتب عليها من الأحقاد التي تقطع العلاقات وتحل الوشائج، والحروب التي تهلك الحرث والنسل.
ومن أنواع الإِفساد، تحسين المنكرات، وتزيين الباطل، والتنفير عن الحق، وتقبيحه بدعايات الزور، والمنافقون قد أخذوا بحظ وافر من أنواع الفساد جميعها، ولا يبعد أن يكون حذف معمول تفسدوا لأجل تأكيد العموم المستفاد من وقوع الفعل في حيز النفي كما نبه عليه المحقق ابن عاشور، على أن ذكر مكان الافساد وهو الأرض من أدلة قصد العموم، فكأن كل جزء منها مصاب بأثر إفسادهم، وهذا لأن ما يقع في أي رقعة من هذه الأرض من المنكرات ينعكس أثره على جميعها.
واختلف أهل التفسير في المراد بالافساد هنا، قيل إنه الكفر، رواه ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو المعصية، رواه ابن جرير عن الربيع بن أنس، ونسبه الفخر الرازي إلى ابن عباس والحسن وقتادة والسُّدي، وحكى تقريره عن القفال بأن معصية الله في الأرض إنما كانت فسادا، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان، ولزم كل أحد شأنه، وحقنت الدماء، وسكنت الفتن، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه، لزم الهرج والمرج والاضطراب، ولذلك قال تعالى:
{ { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [القتال: 22]، نبههم على أنهم إن أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الافساد في الأرض، وقيل هو ما يكون من المنافقين من مداراة للكفرة والاختلاط بهم، لما في ميلولتهم إلى الكفر مع تظاهرهم بالايمان من إيهام بضعف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وما يترتب عليه من تجرؤ الكفرة على إظهار عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيقاد نار الحرب له وطمعهم في الانتصار عليه، وقيل إنهم كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه صلى الله عليه وسلم وجحد الاسلام، وإثارة الشبه حوله.
وذكر المحقق ابن عاشور أن إيقاعهم الفساد ينقسم إلى مراتب:
أولها: إفسادهم أنفسهم بإصرارهم على تلك الأمراض النفسية الناشئة عن النفاق التي سلف ذكرها، وما يتولد منها من مفاسد، ويترتب عليها من مذام.
ثانيها: إفسادهم أولادهم وحواشيهم، لأنهم يقتدون بهم في مساوئهم، وإفسادهم الناس ببث تلك الصفات الذميمة بينهم ودعوتهم إليها، وهذا ما حكى الله عن نوح - عليه السلام - أنه قال:
{ { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 27].
ثالثها: إفسادهم مجتمعهم بأفعالهم التي يستشري داؤها في أوساط الناس، كإلقاء النميمة، وإثارة العداوة، وتسعير الفتن، وتأليب الأحزاب على المسلمين، وإحداث العقبات في طريق المصلحين.
والافساد يعم ذلك كله، كما يعم كل ما ينشأ عنه من مضرة في الدين أو الدنيا، كانتشار الجهل، وحصول الانحراف الفكري أو السلوكي، وقتل الأنفس، وغصب الأموال وإتلافها، وانتهاك الأعراض، وهو مما يترتب على أعمال المنافقين من إثارة الأحقاد، وتأليب الأحزاب، وإلقاء الشبه، وإغراء العداوات والبغضاء بين الناس.
واختُلف في المراد بالأرض هنا، فقيل أرض المدينة، وعليه فـ (أل) للعهد الذهني، للعلم بأن القرآن كان يتحدث عن المنافقين الموجودين في عصر النبوة، وكانوا منبثين في أنحاء المدينة المنورة وما حولها، وقيل بل المراد بالأرض الكرة الأرضية وما فيها من الناس والحيوانات والنبات والجماد والنواميس والأنظمة، لانعكاس أثر الفساد على ذلك كله، فإن الأرض جزء من مملكة الله الواسعة تربطها بسائر الأجزاء نواميس وأنظمة، وسنن وطبائع، وفي خروج الانسان عن منهج الله إخلال بهذه الرابطة، ونقض لعرى هذه الوحدة.
وأنت إذا تدبرت ما أسلفناه من أن الحديث عن المنافقين في القرآن لا ينحصر في تلك الطائفة التي كانت في عهد النبوة، وأنه يتجه إلى كل من شاكلهم في أي عصر، أدركت رجحان الرأي الأخير، على أنه مما ينبغي ألا يُغفل عنه أن في ذكر الأرض تنبيها لأولئك المفسدين المخاطبين بأن عاقبة فسادهم تنقلب عليهم بالمضرة، وتعود عليهم بالخسران، فالأرض مهادهم في حياتهم، عليها يستقرون، ومثواهم بعد مماتهم إليها يرجعون، ومصدر كثير من نعم الله عليهم، وقد أُعدت بما جهزت به من مختلف الطبائع لأن تكون صالحة للاستقرار، ومتلائمة مع سنن الكون ونواميس الوجود، ففساد المفسدين فيها ينعكس أثره السلبي عليها، ولذلك تكرر تحذير الانسان من الافساد في الأرض، وتوبيخ المفسدين فيها في آي القرآن، نحو قوله عز وجل:
{ { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } [الأعراف: 56]، وجاء في القرآن ما يدل على أن الاستقامة على منهج الله من أسباب استمرار الخير، وحصول المنافع، وتتابع النعمة، فالله تعالى يقول: { { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } [الجن: 16]، ويحكي عن نوح - عليه السلام - قوله لقومه: { { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } [نوح: 10 - 12]، وكثيرا ما تكرر في القرآن تذكير الانسان بنعمة الله عليه بخلق الأرض وما فيها لأجله، وبتهيئة أسباب عيشه وراحته فيها، ومنه قوله تعالى: { { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [النازعات: 30 - 33]، وقوله: { { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [عبس: 24 - 32]، وفي طي هذا التذكير تحذير من كفران هذه النعم واستخدامها في غير ما خُلقت لأجله.
وقولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } رد على نسبة الافساد إليهم، بما يفيد أنهم أبعد ما يكونون عن الحوْم حول الفساد أو الإِفساد، حيث نسبوا في هذا الرد إلى أنفسهم الإِصلاح الذي هو نقيض الإِفساد، وأتوا بالجملة الاسمية في مقابل الفعلية التي خوطبوا بها، لتأكيد استمرارهم على منهج الإِصلاح، وهذا لأن شأن الجملة الاسمية إفادة الثبوت والدوام، وأكدوا مرادهم بإنما المفيدة للقصر، كل ذلك لدرء ما وُجّه إليهم من تهمة الإِفساد، والتنصل مما رُموا به بسبب ما ينكشف منهم من بوادر السوء، ويفيض على ألسنتهم أحيانا من عبارات تكنّ الحقد والكراهية، وهو معنى ما رواه ابن جرير في تفسير الآية عن مجاهد أن مرادهم بهذه الإِجابة أنهم على الهدى مصلحون، وثم أقوال أخرى للمفسرين:
منها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن مرادهم بهذا القول إنما نريد الإِصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب، ومعنى ذلك أنهم يريدون إرضاء الطائفتين، والتقريب بين معتقداتهما، وقيل إن الجواب يتضمن الاعتراض بما اتُّهموا به من موالاة الكفار وممالأتهم، ولكنهم نفوا عن ذلك صفة الفساد زاعمين أنهم بما يأتون مصلحون، لأنهم يرعون به قرابة ذوي القربى من الكفار المعاندين.
ويتبادر أن أصحاب هذا القول والذي قبله يستندون فيهما إلى ما يوحي به قوله عز وجل:
{ { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } [النساء: 62]، ولعل أكثر المفسرين أميل إلى القول الأول، ويعتضد رأيهم بقوله سبحانه: { { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [فاطر: 8]، وقوله: { { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف: 103 - 104].
وفي تصدير جوابهم بأداة القصر تأكيد لما يزعمونه من الإِصلاح، فإنهم أرادوا معاكسة متهميهم بالإِفساد بهذا القصر القلبي، بحيث يوهمونهم أن الإِصلاح متمحض فيهم، وأن شائبة من الإِفساد لم تحم حولهم، فإن الذين اتهموهم إما أن يريدوا بقولهم لهم { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } لا يكن عملهم إفسادا من غير إصلاح، وإما أن يريدوا به لا تخلطوا بين الصالح والفاسد من الأعمال، فإن الفاسد يؤثر على الصالح فيفقده منفعته، فكان جوابهم يفيد أن أعمالهم كلها مقصورة على الاصلاح، وهو ناتج عن ضلال فكرهم، وفساد فطرهم، وقد رد الله عليهم بقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } لاستئصال ما تشبثوا به من دعوى فارغة بأنهم لم يتعدوا حدود الاصلاح.
وقد صُدر هذا الرد بأداة الاستفتاح المفيدة للتأكيد، ووليت ذلك "إن" المختصة به، وجيء بالمسند معرفا لإِفادة قصره على المسند إليه، ووُسط بينهما ضمير الفصل المؤكد لهذه الإِفادة، ليكون ذلك أبلغ في نقض دعواهم وكبح غرورهم وفضح سرائرهم، فظاهر الرد يقضي أن الافساد منحصر فيهم، وأنه صفتهم الوحيدة التي يتميزون بها، وذلك لا ينافي أن يكون في الأرض من لا يحصى عددا من المفسدين غيرهم، كالمشركين المجاهرين بشركهم، لأن القصر في الرد هو قصر قلب كما سبق بيانه في تفسير جوابهم، وهو من ضروب تأكيد الكلام.
وحصر الافساد في هؤلاء لأنهم بمسلكهم الملتوي وسلوكهم المتلون أخطر ما يكونون بين الناس، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأن تتفشى العداوة بين الناس، وأن تتقطع الصلات بين الأقربين، وأن تتحول أسباب الخير، والرحمة، والمودة، إلى أضدادها، وإنما يحول بينهم وبين إدراك خطأ ما هم فيه وضرر ما هم عليه؛ تبلد أذهانهم وانطماس بصائرهم حتى صاروا لا يشعرون فظنوا الشر خيرا، وسموا الإِفساد إصلاحا.
ونفي الشعور عنهم يعم نفي شعورهم بسوء حالهم في الدنيا، وشر مآلهم في الآخرة، فإنهم لو رُزقوا شيئا من نور العقل لأدركوا أن ما يزعمونه إصلاحا ويعتقدونه صلاحا، هو مفتاح كل شر على أنفسهم، ولأدركوا أن عاقبة مكرهم ستحيق بهم { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ }، ولو فكروا قليلا فيما بعد هذه الحياة لبادروا إلى الإِقلاع عن حالتهم والرجوع عن غيهم.
والظاهر أن الشعور المنفي هنا هو شعور مقيد، وهو إدراك خطأ ما يأتونه من الأعمال التي يعاكسون بها دعوة المصلحين، أو إدراكهم شر ما ينتظرهم من العذاب في الآخرة ومن المهانة في الدنيا كما أشرنا إليه من قبل، وقيل هو مطلق الشعور؛ للإِيغال في ذمهم والمبالغة في تسفيههم، فقد أُنزلوا منزلة البهائم العجماء التي لا تميز بين الخير والشر، ولا تفرق بين النافع والضار، وعليه ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين حتى لا يبالوا بما يلقونه من عنت هؤلاء المنافقين، ومن نظرائهم في كل عصر، وذلك أن مسلك أهل النفاق لا يكاد يختلف بين زمان وآخر، وما يلقاه منهم المؤمنون الصالحون صورة متكررة مما صدر من أسلافهم الذين كانوا مصدر عنت وبلاء في عهد النبوة، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته ورفعة قدره ع ند الله قد لاقى الذي لاقاه منهم، فلا عجب إن لقي أتباعه صلى الله عليه وسلم في العصور المتتابعة من سفه الضالين وعنت المنافقين ما يكاد يزهق النفوس ويطير العقول؛ لولا صلتها بالله وثقتها بوعده.
وروى ابن جرير عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن المذكورين في الآية لم يأتوا بعد، وحمله ابن جرير على أن أكثر المتصفين بهذه الصفات إنما يأتون بعد عهد النبوة، ما عدا طائفة منهم كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، وهي قليلة إذا ما قيست بمن يأتي من بعدها ممن هو على شاكلتها، وفي هذا ما يؤيد ما ذكرته من قبل من تكرر صورة النفاق والمنافقين في كل عصر، خصوصا عندما يشعرون بدنو قوة الاسلام ويتوجسون خيفة من سلطانه، فإنهم لا مفر لهم في هذه الحالة من أن يلبسوا لبوسه، ويمشوا في ركاب أهله، وليس مرادهم من ذلك إلا انتهاز الفرصة المواتية ليطعنوه من الخلف، مع ما ينالونه بهذا المسلك من أغراض دنيوية ومنافع عاجلة
{ { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 32 - 33].
هذا ويرى بعض المفسرين عدم اشتراط وقوع ما ذُكر من القول والجواب في الآية، فقد جوّز أن يكون من باب التصوير لحالهم، فكان شأنهم شأن من إذا طولب بالكف عن الفساد ونُصح بلزوم مسلك الصلاح ازدرى بناصحه، وزعم أن ما يأتيه هو عين الصلاح، وهذا كما لو أردت أن تكشف سجية أحد فقلت لمن تحدثه عنه إن قلت له كذا أجابك بكذا، ويبعد هذا القول مكان "إذا" المفيدة لتحقق الوقوع.