التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ
١٩
يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
-البقرة

جواهر التفسير

هذا انتقال من تمثيل إلى آخر لتعرية أحوالهم وبيان أوصافهم، والانتقال من مثل إلى آخر مألوف في القرآن الكريم، وفي كلام بلغاء العرب منظومه ومنثوره، وهو لا يأتي إلا مع قصد التأكيد على الشيء لأجل مزيد العناية به، سواء كان لقصد تحبيبه إلى النفوس وتأليفها عليه، أو لقصد تكريهه إليها وتنفيرها منه، ومن أمثلة ما ورد منه في القرآن قوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور: 39 - 40]، ومن أمثلة ما ورد من ذلك في كلام العرب قول امرئ القيس:

أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبيٍ مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب أمال السليط بالذبال المفتل

فقوله "أو مصابيح راهب .. الخ" معطوف على التشبيه في قوله "كلمع اليدين"؛ وقول لبيد في وصف ناقته:

فلها هباب في الزمام كأنه صهباء خف مع الجنوب جهامها
أو ملمع وسقت لأحقب لاحه طرد الفحول وضربها وكدامها
أفتلك أم وحشية مسبوعة خذلت وهادية الصواري قوامها

ونحوه قول ذي الرُّمَّة:

وثب المسحج من عانات معقلة كأنه مستبان الشك أو جنب

ثم قال:

أذاك أم نمش بالوشي أكرعه مسفع الخد غاد ناشع شبب

ثم قال:

أذاك أم خاضب بالسي مرتعه أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب

ويجوز أن يكون العطف في مثل ذلك بأو وبغيرها كما علمت، وأصل أو لتساوي الأمرين في الشك، ثم استعملت في مطلق التسوية، وهي هنا دالة على جواز التمثيل بما سبقها وما وليها.
ولا إشكال في ورود مثلين، أو تعاقب عدة أمثال لحالة واحدة كما عرفت من الشواهد، وهذا ينبئك أن المقصود بضرب هذا المثل هو نفس الفريق الذي ضرب له المثل السابق، وهو فريق المنافقين، وهذا هو المأثور عن السلف كما سيأتي إن شاء الله، وعليه أكثر المفسرين، وقد تقدم أن الامام محمد عبده يرى أن تنوع المثلين لاختلاف المراد بكل منهما، وقد سبقه إلى مثل رأيه هذا الإِمام ابن كثير في تفسيره، ورأيهما وإن اختلف في بعض الوجوه فهو متقارب، وذلك أن ابن كثير يتفق مع الامام محمد عبده على أن أصحاب المثل الأول أسوأ حالا من أصحاب المثل الثاني، فعنده أن الفريق الأول أعمق في النفاق وأنأى عن الحق، أما الفريق الثاني فهم منافقون يترددون بين الحق والباطل، والهدى والضلال، فتارة يلمع لهم نور الايمان فيبصرون، وتارة يخبو فيبقون في ضلالهم يعمهون، وحمل على مثل ذلك مَثَلَيْ سورة النور في الذين كفروا، فخص أولهما بأولي الجهل المركب، وثانيهما بأصحاب الجهل البسيط.
وقد سبق ملخص تفسير الأستاذ الامام لأحوال أصحاب المثلين، وحصره كلتا الطائفتين في اليهود، غير أننا نجده في تفسيره للمثل الثاني يجعل أصحابه فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، وحجة على الدين في جميع العصور، لأنهم يصارعون بهواهم عقولهم، ويقاومون بشهواتهم مشاعرهم ومداركهم، ويستطرد في تبيان أحوالهم بأسلوبه البليغ حتى ينتهي به المطاف إلى أنهم نبذوا كتاب الله إذ لم يدرسوه على حقيقته، بل درسوه بجدليات النحو والكلام، فطمسوا أنواره الهادية إلى الحق، وقرأوه بالتجويد والأنغام مع إهمالهم حِكَمَه وأحكامه، ولم يقصدوا من دراسته إلا جمع حطام الدنيا، والاستكثار من منافعها، ولم يُعنوا بما فيه من تفاصيل الحلال والحرام، وعدلوا عن إصلاح القلوب به، ومعالجة النفوس بهداه إلى معالجة الأبدان من الأسقام بكتابته، إلى آخر ما وصفهم به.
وأنتم ترون أن ما ذكره هنا ينافي ما حدده أولا من أن الفريقين من اليهود، فإن هذه الصفات التي ذكرها إنما تنطبق على ضُلاّل هذه الأمة؛ الذين اكتفوا من القرآن الكريم بتلاوته بالأنغام الشجية والألحان المطربة في الحفلات والمؤتمرات، ولم يعنوا بإصلاح نفوسهم به، وتنشئة أولادهم عليه، كأنما القرآن أنزل للاطراب والتسلية، لا للاصلاح والعمل والهداية، اللهم إلا أن يكون الأستاذ أراد مما أورده هنا، أن المثل وإن كان مضروبا في اليهود الذين استبدلوا الضلالة بالهدى، واستحبوا العمى على البصيرة بإهمالهم ما أنزل عليهم، وإطفائهم أنوار الفطرة في نفوسهم بعواصف الأهواء، فإنه ينطبق على من سلك مسلكهم من هذه الأمة، كأولئك الذين وصفهم بما وصفهم به.
وقد علمتم مما سبق أن الذي يقتضيه السياق، ويدل عليه اللفظ، هو أن هذه الأوصاف شاملة لمنافقي هذه الأمة، بغض النظر عن كونهم من العنصر اليهودي، أو من العرب، كما علمتم أن هذه العناية بشرح أوصافهم، وتجلية حالاتهم النفسية، وإماطة الستار عن طواياهم دليل على أنهم لم يكونوا محصورين في زمن الرسالة، وأنهم لم يكونوا مصدر خطر على هذه الأمة ودينها في ذلك العصر فحسب، بل هم مصدر بلاء وعنت وشقاق في كل عصر، فإنهم بالتواء مسالكهم واختلاف مداخلهم ومخارجهم، وتعدد وجوههم، يعسر الحذر منهم، ويقل الانتباه لمكرهم.
والصيب؛ المطر، مأخوذ من صاب يصوب إذا نزل، ومنه قول علقمة:

فلا تعدلي بيني وبين مُعَمَّر سقتك روايا المزن حيث تصوب

وأصله صيْوِب - بإسكان الياء وكسر الواو - ولكن أبدلت الواو ياء وأدغمت، ونحوه ميت وسيد وهين، وتفسيره بالمطر هو رأي الأكثرين، وعُزي إلى ابن مسعود وابن عباس، وآخرين من الصحابة، وأبي العالية ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، وروي عن الضحاك أنه السحاب، واستدل له بقول الشاعر:

وأسحم دان صادق الرعد صيب

وهو في هذا المثل مشبه به القرآن، روى ذلك ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، واستُدل له بقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث أصاب أرضا فكانت منها نقية .. الخ" .
والسماء ما كان أعلى الأرض، وسنتكلم إن شاء الله عنها فيما يأتي، والصيّب لا ينزل إلا من جهة السماء، فالاخبار عنه أنه من السماء؛ إما لمزيد الكشف والبيان لأجل التهويل والتعظيم، نحو قول امرئ القيس:

كجلمود صخر حطه السيل من عل

مع العلم أن الحط لا يكون إلا من أعلى، ومنه قوله تعالى: { { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [الأنفال: 32]، وإما للدلالة على غزارة الصيّب لانحداره من جميع جهات السماء، بناء على اعتبار كل أفق سماء، وأن التعريف للجنس، وهو قاض بعموم جميع مدلولاته، وهذا هو توجيه الزمخشري، وفيه نظر لأن دلالة التعريف الجنسي على العموم إنما هي في جزئيات الكلي لا في أجزاء الكل، وإما للاشعار بأنه أمر لا يملكون دفعه، وليس ملاكُهُ في أيديهم، وقد اشتهر عند العرب التعبير عما ألم بالناس ولم يكونوا يملكون دفعه بأنه نازل من السماء، وهو توجيه الإِمام محمد عبده، وبناه على أن المقصود بالصيّب في المثل الإِرشادات الإِلهية التي تسنح للأفكار عندما ينقدح ضوء الفطرة، وهو أمر وهبي واقع ما له من دافع، ولا يخلو هذا الوجه من النظر أيضا، فإن المتبادر هنا من كون الصيّب من السماء أمر حسي مشاهد؛ وليس حقيقة معنوية معقولة، والأصل أن لا يعدل عن المتبادر إلى غيره، وبهذا يتضح أن التوجيه الأول هو الذي ينبغي أن لا يعدل عنه.
والظلمات جمع ظُلمة، وقد تقدم معناها، فإن أريد بالصيّب المطر - كما هو رأي الجمهور - فالمراد بالظلمات ظلمة تتابع قطره، وظلمة تطبيق غمامه مع ظلمة الليل الساجي، وتكون "في" هنا بمعنى مع، وإن كان المراد به السحاب - كما هو رأي الضحاك - فالمراد بالظلمات ظلمة سحمته، وظلمة الليل، وظلمة غزارة قطره.
والرعد هو الصوت الذي يصدر من السحاب، والبرق هو اللمعان المضيء في الأفق، وغالبا ما يكون في السحاب، وقد هام أكثر المفسرين في تفسيرهما، وكانت أقوالهم تدور بين ما تلقوه من الأكاذيب الإِسرائيلية والأوهام الإِغريقية؛ فمنهم من قال: إن الرعد ملك يزجر السحاب بصوته، ومنهم من قال: هو ملك يُسَبِّح، والصوت المسموع هو من تسبيحه، وذهب آخرون إلى أنه اسم لصوت الملَك، وذهبوا إلى أن البرق مخراق من حديد يسوق به الملَك السحاب، ومنهم من قال: إنه سوط من نور، إلى ما وراء ذلك من الأقوال العارية عن الدليل، وقد عزاها جماعة من المفسرين إلى جماعة من الصحابة والتابعين، وذكر بعضهم - كابن جرير - أسانيد إلى من رُويت عنهم من الصحابة والتابعين، وهي أسانيد كلها معلولة، لم يثبت شيء منها، ولم يُعْزَ شيء من ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال:
"سألَت اليهودُ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: مَلَك من الملائكة بيده مخاريق من نار؛ يسوق بها السحاب حيث شاء الله. قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجْرُهُ بالسحاب إذا زجره، حتى ينتهى إلى حيث أمره. قالت: صدقت" . وهو حديث ضعيف اتفق على ضفعه أئمة الحديث، وإن تعجب فاعجب لأولئك الذين ينُصُّون على ضعف هذا الحديث، ثم يُعوِّلون عليه في تفسير الرعد والبرق في القرآن، ويبطلون به سائر الأقوال.
الأدلة على منشأ الرعد والبرق:
والأدلة العلمية تدل على أن منشأ الرعد والبرق؛ ما يكون من التَّماسِّ بين السالب والموجب من الكهرباء التي هي في السحاب بجانب كهرباء الأثير، فإن الطاقة الكهربائية منبثة في كل هذه المخلوقات، فإذا حصل هذا التَّماسُّ انقدح هذا النور اللامع ونتج عنه هذا الصوت الهادر، وإذا ما ازداد هذا التماس نزلت هذه الصواعق المهلكة والعياذ بالله، وعندما أدرك الناس هذه الحقيقة وانجلت عنها سُتُر الأوهام، أخذوا يتوقون وقع الصواعق بما يرفعونه على مبانيهم الشاهقة من عمد، يسمونها عمد الصاعقة، على أنه لو كان ما يروونه صحيحا، وثبتت نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في ذلك منافاة للحقيقة العلمية الثابتة، إذ غاية ما كانت تدل عليه هذه الروايات أن وراء هذه الظواهر الطبيعية ملائكة يسيِّرونها، ومع عدم صحة تلك الروايات، لا داعي إلى تكلف هذا التأويل، هذا مع إيماننا الجازم بأن كل شيء مسخر بأمر الله.
ولم يجمع الرعد والبرق كما جمعت الظلمات؛ إما لأن المراد بالرعد والبرق مصدر رَعَد وبَرَق، والأصل في المصادر أن لا تجمع، وإما لأجل النظر إلى هذا الأصل، وإن كان المراد به هو عينهما، وتنكير صيب ورعد وبرق لأجل النوعية، فكأنه قيل صيب غدق، ورعد قاصف، وبرق وامض.
والتمثيل بأصحاب الصيّب - وإن لم يذكروا - لاقتضاء المقام ذلك، فالضمائر لا بد لها من مرجع، وفي قوله: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم } ثلاثة ضمائر جمعية، فلذلك قدروا أو كذوي صيب، أو أصحاب صيب.
وذهب الأكثرون من المفسرين والبلغاء إلى أن الأصابع عنا مجاز عن الأنامل لعلاقة الجزئية والكلية، والداعي إلى التجوز المبالغة في وصف حالهم وما أصابهم من الهلع، حتى يكاد أحدهم أن يغرز جميع أصبعه في أذنه، ولا داعي إلى ما ذهبوا إليه، فإن جعل الأصبع في الأذن يصدق حقيقة على إدخال بعضها أو كلها، كما لو قال قائل: لمست بدن فلان، فلا يلزم منه أن يحيط اللمس بجميع بدنه، ومثله يقال في أي عضو، فإن الاخبار عنه بشيء لا يقتضي الاحاطة حتى لا يخرج جزء منه عن مدلول ذلك الخبر، ألا ترون أن الأمة أجمعت على حمل قوله تعالى:
{ { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] على القطع من الرسغ، مع أن لفظ اليد يصدق على الكف والساعد والعضد إلى المنكب.
وجملة "يجعلون أصابعهم .. الخ" قيل: إنها حاليّة لايضاح المقصود من الهيئة المشبه بها؛ لأنها كانت مجملة، ولا أدري ما هو العامل فيها عند هذا القائل، على أن المعهود في الأحوال أن تأتي للكشف عن المفردات لا الجُمل، وقد قالوا إن للجمل حكم النكرات ولا تأتي حال من نكرة إلا إذا تقدمتها نحو "لمية موحشا طلل".
وقيل إنها استئناف بياني لأنه لما ذكر الصيب ورعده وبرقه تبادر سؤال سائل، كيف كانوا يفعلون مع ذلك؟ فأجيب بها.
وقد سبق الكلام عن الصواعق وهي مأخوذة من الصعق؛ وهو الصوت الشديد، ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، كما يقال صعق إذا مات، وقوله { من الصواعق } تعليل قوله { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم }، فهو سادٌّ مَسد المفعول لأجله، وقوله: { حذر الموت } تعليل للمعلول مع علته فلا يرد عليه أنه لا يترادف تعليلان لمعلول واحد، أفاد ذلك ابن هشام وقطب الأئمة، وذلك أن التعليل الأول بمثابة القيد والمقيد غير المطلق.
والتمثيل يدل على حماقة أصحاب هذه الصورة الممثل بها واستيلاء الحيرة عليهم، فهم عندما انهمر الصيب، وطبق سحابه الأرجاء، وتوالى قصف رعده، ولمعان برقه، كانوا يلجأون إلى سداد آذانهم خشية أن يلج إلى مسامعهم هذا الصوت المزعج فيهلكهم، ظانين أن عدم وصوله إلى مسامعهم مظنة لسلامتهم مما يحذرون، مع أن الموت إنما يكون بمفارقة الأرواح الأجساد، فلا يقي منه اتقاء شيء من الأصوات بسد الآذان دونه، ولكن ذلك شأن الحماقة والجبن إذا استحكما في النفس، ولذلك أردف الله سبحانه بقوله { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَافِرِينَ } للتنبيه على أن ما يفعلونه لم يكن ليقيهم شيئا من أمر الله الذي خلق الموت والحياة.
واختُلف في هذا التذييل؛ هل هو داخل في التمثيل أو هو خارج عنه جاء معترضا لبيان أن ما استحقه المنافقون إنما كان بسبب كفرهم الذي يوارونه بخداعهم، وفي هذا تقرير لحال الذين ضُرب فيهم المثل لئلا يشتغل السامع بالمثل عن الممثل له، كما أنه يتضمن وعيدا لأصحاب هذه الحالة، وتحذيرا لهم بأن الله تعالى لا تخفى عنه طواياهم.
وإحاطة الله يمكن أن تكون إحاطة علمية كما في قوله:
{ { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [الطلاق: 12]، أو إحاطة قدرة كما في قوله: { { وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } [البروج: 20]، أو بمعنى الاهلاك كما في قوله: { { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [يوسف: 66]، فإن المقام قابل لكل معنى من هذه المعاني، والتعبير بالاحاطة من باب الاستعارة، إما على طريقة التمثيلية وإما على طريقة التبعية.
وقوله { يكاد البرق } يصح أن يكون استئنافا بيانيا لجواز التساؤل عن حالهم مع البرق بعد الاخبار عن حالهم مع الرعد، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في { يجعلون }.
والخطف؛ الأخذ بسرعة، والتعبير بكلما في جانب الاضاءة، وبإذا في جانب الإِظلام، يفيد أنهم حريصون على المشي، فلا يترددون - إذا ما أبصروا الطريق من لمعان البرق - في الإِسراع فيه، وقد تقدم أن "أضاء" يصح أن يكون لازما وأن يكون متعديا، وكذلك "أظلم" غير أن اللزوم في هذا الأخير أكثر، وإنما يترجح التعدي هنا لمقارنته "أضاء" مع قرائن الحال الدالة على أنهم كانوا ينتفعون بإضاءة الطريق فيحرصون عليها، وعليه فيقدر المفعول - وهو الطريق أو الممشى - في الموضعين، والمراد بقيامهم إمساكهم عن المشي.
واختُلف في أفراد هذه الصورة التمثيلية، هل كل فرد منها واقع إزاء نظير له في الصورة الممثلة؛ بحيث يصح أن يستقل بالتشبيه، أو هي مندمجة بالتركيب، ولا داعي إلى الالتفات إلى ما بين كل فرد وآخر من التناسب؟
أقوال في مفردات هذا التمثيل:
وعلى القول الأول فلا محيص عن البحث عما يقابل كل فرد من الهيئة المشبه بها من أفراد الهيئة المشبهة، وهو الذي عليه جمهور أهل التفسير من السلف والخلف، وقد سبق أن جماعة من الصحابة فمَن بعدهم قالوا: إن المراد بالصيب القرآن؛ بجامع أن كلا منهما سبب للمنفعة والحياة، وإليكم بعض ما قيل في المراد بهذه المفردات من التمثيل:
1- الصيب هو القرآن، وما فيه من الاشكال عليهم والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج التي تبهر عقولهم هي البرق، وتخوفهم وروعهم وحذرهم هي جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم واشتهار كفرهم وما يكرهونه من تكاليف الشرع كالجهاد والزكاة هي الصواعق، وعزا ذلك ابن عطية إلى الجمهور، وحمل عليه ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله المثل لهم.
2- أن الصيب مثل الاسلام، والظلمات مثل لما في قلوبهم من النفاق والبرق والرعد مثلان لما يخوّفون به.
3- أخرج ابن جرير وابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: الصيب هو المطر، وهو مثل للمنافق في ضوئه يتكلم بما معه من القرآن مراءاة للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره، فهو في ظلمة ما أقام على ذلك، وأما الظلمات فالضلالات، وأما البرق فالايمان.
4- البرق مثل للاسلام، والظلمات مثل للفتنة والبلاء.
5- أن الصيب هو القرآن وهدى الاسلام، والظلمات ما يعتريهم من الوحشة عند سماعه؛ كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم، والرعد قوارع القرآن وزواجره، والبرق ظهور أنوار هديه من خلال الزواجر.
6- أن الصيب هو القرآن، وأن الظلمات هي الكفر؛ بجامع أن كلا منهما مهلك، وسبب للحيرة، والرعد هو الوعيد، والبراهين الساطعة هي البرق، وإعراضهم عن القرآن هو سداد آذانهم عن الصواعق، وتركهم دينهم هو الموت عندهم.
وثَم أقوال أخرى كثير منها قريب مما ذكرنا، وبعضها بعيد عن مدلول الآية، ليس على صحته من دليل.
والقول الثاني: هو الذي ذهب إليه الزمخشري وعزاه إلى علماء البيان، وتابعه عليه السيد الجرجاني وأبو السعود وأبو حيان، وحاصله أنه لا داعي إلى تكلف البحث عن وجه الشبه بين مفرد وآخر، لأن القصد من التمثيل تشبيه هيئة مركبة من عدة أفراد، تضامت حتى صارت شيئا واحدا بهيئة أخرى مثلها، والصورة المشبه بها إذا ما اندمجت أفرادها كانت ذات أثر نفسي بالغ، بخلاف ما إذا عزل بعضها عن بعض، فتشبيه المنافقين بالساري في ظلمات الليل، إذا انهمرت عليه السماء بودقها، وأحاط به رعدها وبرقها، وهو في صحراء لا يجد مأوى ولا واقيا، أدل على حيرتهم مما لو فكك التشبيه فشبه كل فرد بآخر، وكذلك تشبيههم في المثل الأول بمن طفئت ناره - بعد إيقادها وإضاءتها ما حوله - فتخبط في ظلمته، وهام في حيرته أبلغ في تصوير حالتهم النفسية وما يعتريهم من الاضطراب مما لو رُوعي في التمثيل التشابه بين كل فرد في الهيئة المشبهة ونظير له في الهيئة المشبه بها، وهذا يعني تناسي الأفراد رأسا في التشبيه المركب، ووصف الزمخشري هذا الرأي بأنه القول الفحل، والمذهب الجزل، وبناء عليه لا داعي إلى تقدير مضاف قبل لفظة صيب، لولا ما يقتضيه من ضرورة وجود معاد للضمائر في قوله { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم }، وما في الآية الثانية من الضمائر.
والمراد بمشيهم فيه مشيهم حيث يشرق نوره، واختُلف في قوله { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }، قيل: هو داخل في التمثيل، وعليه فمعاد ضمائره إلى أصحاب الصيب، وقيل: هو عائد إلى المنافقين الذين ضُرب لهم المثل؛ وعلى الأول فالمراد؛ ولو شاء الله لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق، وهو يدل على هول ما لقوا، فقد كان الرعد من قوة الصوت بحيث يذهب بالأسماع؛ لولا أن الله لم يشأ ذلك، وهكذا كان لمعان البرق من الشدة بحيث يذهب بالأبصار؛ لولا مشيئة الله غير ذلك، وذهب بعضهم إلى أن ذهاب السمع والأبصار كناية عن الموت، لأن من مات فقد سمعه وبصره؛ وعلى الثاني فالمقصود أن الله عز وجل لو شاء لأتى على جميع وسائل الهداية عند المنافقين حتى لا يجدي فيهم وعظ واعظ، ولا يفيدهم إرشاد مرشد، غير أنه تعالى أبقى عليهم هذه الأسباب لتكون حجة على من أصر على كفره، وطريقا إلى رشد من عدل عن غيه.
وبناء على الرأي الأول يُعد هذا الوصف ساريا من الصورة المشبه بها إلى الصورة المشبهة، ويقصد بذلك ما أشرنا إليه من أن الله تعالى أمهل لأولئك المنافقين ليتوب من تاب منهم، وليزداد المصرون ضلال وإثما، وهو يتضمن وعيدا لهم إن لم يبادروا بالاقلاع عن غيهم، والتخلص من النفاق الذي مردوا عليه، ويتأكد ذلك بقوله من بعد { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، فمن خلق السماوات والأرض، وبيده ملكوت كل شيء، لا يعجزه إتلاف حواس من شاء من خلقه بما شاء من الأسباب، بل لا يعجزه القضاء على حياة من شاء متى شاء.
وهذا التذييل يتلاءم كل الملاءمة مع ما تقدم من تهديد أهل النفاق، وكل ما سبق في وصف المنافقين من بداية قوله تعالى { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا } إلى خاتمة هذه الآية، ينطبق على المنافقين في كل عصر، وكذا ما تجدونه هنا وفيما سبق من الوعيد يشمل منافقي جميع العصور، فلا يغرّن أحد نفسه بأن هذا الوعيد خاص بطائفة مخصوصة في عصر معين، فالنفاق هو النفاق في أي عصر كان، ولا أثر لاختلاف الأزمان في اختلاف وعيده، نسأل الله تعالى العافية وحسن الخاتمة.