التفاسير

< >
عرض

وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٢٣
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ
٢٤
-البقرة

جواهر التفسير

هذا انتقال من إثبات وحدانية الله سبحانه إلى تقرير نبوة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومجيئه بعده لأن الإِيمان بالألوهية والايمان بالنبوة لا يفترقان إذ لا يتم أحدهما إلا بالآخر، والخطاب موجه إلى الناس المأمورين بالعبادة فيما تقدم وما كان هناك من اختلاف، هل هم جميع الناس، أو المنافقون والمشركون، أو اليهود أو العرب الجاهليون، أو المشركون والمنافقون واليهود؟ فهو هنا كذلك، والصحيح ما صححته ثم من ان الخطاب شامل لجميع الناس، ولا إشكال في شموله للمؤمنين وإن لم يكونوا على شك في شيء مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يراد به تقرير إيمانهم ومضاعفة يقينهم، على أن مثل هذا الخطاب كان للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؛ في قوله تعالى: { { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [يونس: 94].
ولم يُعلق هذا الشرط بإذا المفيدة للجزم بالوقوع، بل عُلق بإن المفيدة للشك في مشروطها، مع القطع بأن المشركين والمنافقين واليهود كانوا في ريب مما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم نظرا إلى أن ريبهم كان مستضعفا، ولم ينشأ إلا عن مكابرتهم للحق وتعاميهم عن الحقيقة، وإلا فالقرآن من وضوح الحجة ونصوع البرهان بمكان لا يرقى إليه شك، ممن استنار فكره واتقد ذهنه وانجلت بصيرته، وذهب بعضهم إلى أنّ إنْ هنا بمعنى إذا، وهو لا يصح لعدم ثبوته عن أحد ممن يُعتد به.
وقد سبق تفسير الريب والمراد به هنا الشك، وبه قال أئمة التفسير من الصحابة فمن بعدهم، والتعبير بالتنزيل دون الانزال - قيل - لدلالة التفعيل على الكثرة، وقد كان من بواعث شكوك هؤلاء الشكاك في القرآن أن إنزاله لم يكن دفعة، وإنما كان نجوما بحسب الوقائع والأحداث، وهو لم يختلف - حسبما كانوا يرون - عن عادة الناس في كلامهم، فالشاعر لا يلقي بقصائده دفعة واحدة، والخطيب لا يجمع جميع خُطَبِه في مقام واحد، وإنما ينظر كل منهما إلى المناسبات التي تستوجب الحديث عنها نظما أو نثرا، ومثل ذلك شأن الكتاب والقصاص، وقد رأى أولئك الذين شككوا في صحة نزول القرآن من عند الله، أنه لو كان حقا منه تعالى لكان له شأن من هذه الناحية مغاير لأحوال الناس، وقد حكى الله عنهم ذلك في قوله:
{ { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان: 32]، وقد قيل لهم هنا: إن كنتم في شك منه بسبب ما ذكرتموه فَلْتَأْتُوا أنتم بمثل نوبة واحدة من نوبه وهي سورة من قصار سوره، أفاد ذلك الزمخشري، وتعقبه أبو حيان بأن دلالة التفعيل على الكثرة لا تخرج بالفعل عن اللزوم إلى التعدي، فالفعل اللازم إذا ضُعِّف يبقى على لزومه، والمتعدي يبقى كذلك متعديا، وإنما يُفهم من الفعلين وقوعه بالكثرة، مثال ذلك جَرَحَ وجَرّح، فإن الفعلين متعديان وإنما يمتاز المضعَّف عن المجرد بالدلالة على كثرة الوقوع، وإذا انتقل الفعل بالتضعيف عن اللزوم إلى التعدي نحو بان وبيَّن لم يدل تضعيفه على الكثرة، ومن هذا الباب نزل ونزَّل، فإن نزّل - بالتضعيف - لا يختلف عن أنزل في شيء، ويؤيد ذلك قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } حيث ضُعّف الفعل ولم يُقصد به إلا المرة، وبهذا يتبين ان التعبير بالإِنزال تارة وبالتنزيل أخرى ليس لفارق بينهما، وإنما هو من باب التفنن في الكلام، وكثيرا ما يأتي لفظ التنزيل في القرآن فيما لا يحتمل التكثير إلا بضرب من التأويل البعيد، كقوله تعالى: { { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [الإسراء: 95]، وقوله: { { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [الأنعام: 37]، هذه خلاصة رد أبي حيان على الزمخشري، وهو في منتهى القوة والوضوح.
العبودية لله أرقى درجات التكريم:
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بلقب العبودية في مقام الدفاع عنه مؤذن بأن عبودية الانسان لله شرف له إذ هي أرقى الدرجات الروحية التي يصلها العبد بجهاده وبعناية الله، وفي هذه الإِضافة إلى الضمير العائد إليه تعالى تشريف له صلى الله عليه وسلم، وتنويه بأنه تحت رعاية الله وفي حمى عنايته.
وفي قوله: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } تحد لهم واستفزاز لنخواتهم، واستنفار لعزائمهم، أي إن كنتم صادقين بأن ما أنزل على عبدنا مما يحوم حوله الريب ويرقى إلى عليائه الشك أو أنه تَعَلَّمَهُ من غيره؛ أو افتراه بنفسه، أو أنه أساطير الأولين اكتتبها، فما عليكم إلا أن تصدقوا مقالتكم فتأتوا بجزء قصير من الكلام الذي يشبه ما جاء به أسلوبا، وبلاغة، وغزارة معنى.
والسورة معروفة وهي آيات مستقلة تشتمل على غرض أو أغراض لها فاتحة وخاتمة، ولكل سورة ترجمة في المصحف الشريف، وتقدم في مقدمة تفسير الفاتحة بيان معنى السورة لغة واصطلاحا، وذكر الاختلاف في كونها مأخوذة من السور أو من السؤْر - بالهمز - وهو ضعيف جدا لدلالته على الاحتقار - او من السورة بمعنى المنزلة، وفيما ذكرته هناك غِنىً عن تكراره، والمثل كالشبه لفظا ومعنى.
واختلف في الضمير الذي أضيف إليه "مثل" هل هو عائد إلى الموصول وهو "ما" أو هو عائد إلى عبد؟ والأول هو الذي عليه الاكثرون، ونسب إلى عُمر وابن مسعود وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم، وإلى الحسن البصري ومجاهد وقتادة من التابعين، واختاره ابن جرير والزمخشري والرازي وأبو حيان والألوسي والقطب في التيسير، ورجح بكثير من المرجحات منها أن سياق الكلام فيما نُزل عليه صلوات الله وسلامه عليه لا في شخصه ولا في نبوته، وإن ارتبطت نبوته بما أنزل عليه، ومنها مراعاة التواؤم بين صدر الكلام وعُجُزِه، وشَرْطِهِ وجزائه، ومنها موافقة ما في بقية السور، نحو قوله تعالى:
{ { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } [الطور: 33 - 34]، وقوله: { { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [هود: 13]، وقوله: { { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [يونس: 38]، وقوله: { { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الاسراء: 88]، ومنها ان عود الضمير على المنزَّل لا المنزل عليه أدل على كمال التحدي لما فيه من إرخاء العنان وتوسيع المجال للخصوم، بحيث طلب منهم جميعا على اختلاف طبقاتهم الفكرية وتباين ملكاتهم البيانية أن يأتوا بجزء يسير من مثل ما هم شاكُّون فيه، بخلاف ما إذا حُصِرَت المطالبة فيمن كان مثل النبي صلى الله عليه وسلم في الأمية، ويؤيد ذلك قوله: { وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ }، وقوله: { وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } في آيتي يونس وهود، وقوله: { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } في آية الاسراء.
والمراد بالمثلية أن تكون مثل سورة من القرآن في تلاؤُم ألفاظها وتواؤم معانيها، وتناسق حروفها، وتآخي كلماتها، وسلاسة أسلوبها، كما سبق بيان ذلك في الإِعجاز البياني؛ وقيل المراد بالمثلية أن تكون كسورة من القرآن فيما تشتمل عليه من أوامر ونواه، ووعد ووعيد، وقصص وحكم، ومواعظ وأمثال، وقيل: المراد أن تكون منطوية على مثل ما في القرآن من أخبار الغيوب التي لم تكن العرب تحيط بها علما، وقيل: كونها كالقرآن في عدم فناء عجائبه وانقضاء غرائبه، وأنه لا يمحوه الماء ولا تمله الأسماع، ولا يزداد إلا تجددا ما تجدد الجديدان. والقول الأول هو الصحيح لأن العرب بُهروا بأُسلوب القرآن الراقي، مع غض النظر عن عجائب محتوياته، وهم كانوا يكذبون بوعده ووعيده، وقصصه وأخباره، ومواعظه وأمثاله، وأوامره ونواهيه.
وعلى أي حال فالمثلية مفروضة - كما قال الزمخشري - وليست واقعة، ولا معنى لما يقوله البعض من أن لفظة مثل زائدة كزيادتها في
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]، على رأي بعضهم، لأن ذلك يفضي إلى أن المراد فأتوا بسورة منه، مع أن المطلوب منهم أن يعارضوا القرآن بشيء يشبهه، كما كانوا يدعون بقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا، وإنما قلنا بفرض المثلية دون حصولها، ليتفق ما هنا مع ما في قوله تعالى من بعد: { ولن تفعلوا }، وقوله: { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ }، وفرضها مبني على اعتقاد المخاطبين، وما كانوا يمنون به أنفسهم في دحض حجة القرآن، وسوق الكلام مساق التعجيز والتحدي شاهد على عدم وجود المثل، وانتقد أبو حيان الزمخشري في جعله المثلية مفروضة، مع أن ذلك لا يتأتى إن أعيد الضمير في { مثله } على المنزل عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، لوجود عدد كبير في العرب ممن يشبهه في الأمية، وكذلك إن أعيد الضمير على المنزل، لوجود الكلام البليغ فيما تنطق به العرب، وهو بجعل المماثلة حاصلة له من بعض الوجوه.
وليس فيما قاله الزمخشري موضع للنقد: إما أولا فقد بنى مذهبه على ما اختاره سابقا من عود الضمير في مثله إلى المنزَّل، وهذا الذي اختاره أبو حيان نفسه وعزاه إلى الأكثرين، ومن المعلوم أن التفريع يجب أن لا يخرج عن منهج التأصيل.
وإما ثانيا فلأن البلاغة وحدها لا تكفي لعد سائر الكلام العربي البليغ مماثلا للقرآن، لما علمته من اختصاص القرآن بروح بيانية غيبية لا توجد في أي كلام آخر، ولولاها لم يكن لفرسان البلاغة العربية أن يقفوا مشدوهين أمام معجزته، متحيرين من ترتيب حروفه، ورصف كلماته بطريقة تجعل كل حرف وكل كلمة ينبضان بحياة لا توجد في سائر الكلام، وقد سبق شرح ذلك في الإِعجاز البياني، وهو يعني أن البلاغة المتيسرة للكلام العربي لا تكفي لأن ترفع ذلك الكلام إلى هذا المستوى الرفيع.
وبناء على القول بعود الضمير على "عبد" فالمراد بالمثلية أن يكون مثله في صفة الأمية التي من شأنها عدم اتساع الأفق العلمي والمعرفة بأحوال الأمم، وأخبار النبيين، والأمور التشريعية، والأوضاع الاجتماعية، إلى غير ذلك مما حواه القرآن الكريم، وعلى هذا مشى الإِمامان محمد عبده ومحمد رشيد في المنار، واستدل له الاستاذ الامام بدخول "من" الدالة على النشوء على لفظة "مثل"، وفرق السيد محمد رشيد بين هذه الآية وسائر آيات التحدي في الاسراء ويونس وهود؛ بأن التحدي في سورتي يونس وهود خاص ببعض أنواع الإِعجاز، وهو ما يتعلق بالأخبار، كقصص الرسل مع أقوامهم التي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قومه يحيطون بها علما من قبل، وجوّز أن يكون التحدي بعشر سور مفتريات دون سورة واحدة لإِرادة نوع خاص من أنواع الإعجاز، وهو تعديد الأساليب في الاخبار بالشيء الواحد مع عدم تفاوتها في البلاغة، كما يظهر ذلك في بعض القصص التي ترد في القرآن بعبارات مختلفة الأسلوب والنظم من مختصر ومطوّل، والتحدي بمثله لا يظهر في قصة مخترعة مفتراة، بل لا بد من التعدد الذي يظهر فيه التعبير عن المعنى الواحد، والقصة الواحدة، بأساليب مختلفة، وتراكيب متعددة، كما هو واضح في سُوَرِهِ، ومن هنا أباح لهم أن تكون هذه السورة التي طولبوا بها مفتراة كما وصفوا بذلك القرآن.
وأما في سورة يونس فقد اكتفى بالتحدي بسورة واحدة؛ في مقام الرد على قولهم افتراه لعدم التقييد بكونها مفتراة، لا لأجل التخفيف عنهم بالواحدة بعد عجزهم عن العشر، وعليه فيقتضي ذلك انطواءها على خبر الغيب والتزامها بالصدق، وفي هذه السورة التي أعادت هذا التحدي في مواجهة اليهود بالمدينة المنورة بعدما تكرر بمكة المكرمة، كان التقييد في المطالبة بالإِتيان بسورة مشتملة على ما تشتمل عليه سور القرآن من مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في أميته لأجل أن اليهود لم يكونوا يعدّون التحدث عما جاءت به الرسل من الغيوب، فكأنهم طولبوا بالإِتيان بذلك من رجل أمي كالرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.
هذه خلاصة تفرقته، ورأي الجمهور أوضح حجة وأقوى دليلا، لما علمته من ان المقصود بيان عجز الناس - ولو تضافرت جهودهم وتظاهرت قواهم - عن محاكاة القرآن، وقد سبق لك ان الاسلوب القرآني وحده كان كافيا في تبكيت العرب وإقامة الحجة عليهم بأن البيان الذي تحدوا به لم ينشأ عن ملكة بشرية، وإنما هو نداء غيبي يخرسُ صوت كل معاند، ويستأصل شبهة كل مشاقق، ويهدي أولي البصائر الى سواء السبيل، وذلك مع غض النظر عن محتواه من الغيوب وغيرها، وأخبار النبوات وإن كانت هي من ضروب إعجازه فإنها لم تكن هي المبكتة لطواغيت الجاهلية الذين لم يكونوا يؤمنون بالنبوات، ولا يصفون هذه الأخبار إلا بكونها أساطير الأولين، ولو كان التحدي في مكة المكرمة بمضمون القرآن دون لفظه لكان في ذلك مجال للكفار بأن يُلَفِّقُوا بعض الأساطير الكاذبة، ويوهموا أتباعهم بأنها نظيرة ما في القرآن، إذ لا حكم يحتكم إليه في مثل هذه الأمور عندهم، بخلاف البلاغة فإن الحكم فيها الذوق والوجدان، والكل مشتركون فيهما، وعدم التقييد في المطالبة بالاتيان بكون الآتي مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمية أبلغ في التحدي وأوغل في التبكيت لما فيه من إفساح المجال للمعارضة وإرخاء العناء للمعارضين، وليست في "من" دلالة على ما قاله الأستاذ الامام، لأنها موضوعة لابتداء الغاية غالبا، وإذا كانت السورة المطلوبة منهم مؤلفة من كلام مثيل لما في القرآن لم تخرج "من" عن هذا المعنى الذي وضعت له.
والشهداء جمع شهيد، وهو الذي يقتضيه القياس، وحمله بعضهم على أنه جمع شاهد كعالم وعلماء، وهو مأخوذ من شهد إذا حضر، كما في قوله تعالى:
{ { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } [البقرة: 282]، واستعْمِل بمعنى النصير لأن الشاهد يناصر المشهود له بشهادته، والمراد بالشهداء هنا نصراؤهم من الذين اتخذوهم آلهة من دون الله، والمراد بدعوتهم استحضارهم لأجل مناصرتهم كما هو شأنهم في اللجوء إليهم من دون الله تعالى.
وأفاد الإِمام ابن عاشور بأن في الآية إدماجا لأنها جمعت بين تعجيزهم عن المعارضة، وتوبيخهم على الشرك، وهو من أفانين البلاغة، ويحتمل أن يراد بالشهداء نصراؤهم من أهل البلاغة، وهو أبلغ في التعجيز، لما في ذلك من حضهم على استنفار جميع أصحاب الملكات البيانية، ويعْضُدُه قوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }.
وروي عن ابن عباس والسدي، ومقاتل والفراء؛ أن المراد بهم الذين يشهدون لهم عند الله في زعمهم، وهو كالقول الأول لأن اتخاذهم الآلهة من دون الله إنما هو لأجل تقريبهم إليه كما يقتضيه قوله تعالى حاكيا عنهم:
{ { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3]، وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بهم الذين يشهدون لهم بمماثلة ما جاءوا به للقرآن، فإنهم لو احتكموا إلى أرباب الصناعة البيانية ممن هم على مثل اعتقادهم، وجاءوا بما يزعمون أنه مثل القرآن ما كانوا ليشهدوا لهم، فإن من شأن البارعين في الصناعة الأنفة من ان يسجل عليهم تصحيح فاسدها أو تزييف صحيحها، وقد جرت العادة عند العرب إذا ما تنافرت أن تحتكم إلى عقلائها، وكان المحتكم إليهم يحرصون على تنزيه ساحتهم من نسبة الجور أو الغلط إليهم فيما يحكمون، ولذلك قال السَّمَوْأل:

إنا إذا مالت دواعي الهوى وأنصت السامع للقائل
لا نجعل الباطل حقا ولا نلظ دون الحق بالباطل
نخاف أن تسْفَهَ أحلامنا فنخمل الدهر مع الخامل

و{ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } متعلق بـ { ادعوا } أي استنصروا بشهدائكم ولا تستنصروا بالله، فإنه لن ينصركم، وهو مبني على أن المراد بالشهداء المناصرون، أما إن قيل إن المراد بهم الذين يشهدون لهم بمضارعة ما جاءوا به للقرآن، فيكون المعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بذلك ولا تدعوا الله إن كنتم تتصورون أن من أعوانكم ونصرائكم من تطاوعه لسانه فينطق بالتسوية بين القرآن وما جئتم به، وهذا يعني أن يجعلوا جانب الله تعالى كالمشهود عليه، وهو أيضا من باب توسعة ميدان المعارضة لهم بحيث سمح لهم أن يأتوا بمن شاءوا من دون الله، ممن يطمعون أن يميلوا إلى جانبهم فيرفعوا ما يلفقونه من القول إلى مقام القرآن.
ويصح أن يكون متعلقا بشهداء، وعليه فالمراد استحضروا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله زاعمين أنهم يشهدون لكم يوم القيامة، و{ دون } على هذا القول مستعملة في التجاوز، وجوّز بعضهم أن تكون بمعنى أمام أخذا من قول الشاعر:

تريك القذى من دونها وهي دُونَهُ

ومعنى ذلك ادعوا الذين يزعمون أنهم يشهدون لكم بين يدي الله، أما إن قيل إن الشهداء الذين يشهدون لهم بأن ما يأتون به كالقرآن فـ { دون } دالة على التجاوز لا غير، وجّوز بعضهم تقدير مضاف، أي من دون حزب الله ويراد بهم المؤمنون توسعة لهم أن يأتوا بمن شاءوا من الحكام الذين هم على ملتهم كما تقدم.
وقوله: { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } تذييل لما تقدم بما يثير حماسهم من تكرار التحدي وتأكيده، والمراد به إن كنتم صادقين أنه كلام بشر، أو أنه مظنة للريب، أو أن الاتيان بمثله أمر مقدور عليه، وجىء بـ "إن" دون إذا لأن صدقهم لا مكان له هنا، وقد تقدم الكلام على الصدق في معرض الحديث عن نقيضه وهو الكذب فلا داعي لتكراره.
وإيثار "إن" على إذا - في قوله: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } مع القطع بأنهم لا يفعلون - لأجل ملاينتهم وإطماعهم في القدرة على الإِتيان بالمطلوب، بعد إثارة نعراتهم بما تقدم من التعريض بهم أنهم كاذبون، وهم أحرص ما يكونون على إلقاء هذه الوصمة الشائنة، ودرء هذا العار البغيض عن أنفسهم، وقد كانوا أصحاب الحمية المتوقدة، والعصبية الثائرة، فلا يمكن مع ما سبق من تكرار التحدي وتتابع التقريع إلا أن يفكروا في استعراض ملكاتهم، والمقارنة بين ما تحدوا به من القول وما هو من مقدور ألسنتهم، فكأنه قيل لهم قدروا أنكم عاجزون عن فعل ما طولبتم به، ثم أُتبعت هذه الملاينة المطمعة بالشدة المؤيسة في قوله: { ولن تفعلوا } لئلا يبقى لهم عذر أو دعوى يتشبثون بها في تركهم المعارضة، فقد أغُروا بها بأنواع القول.
وفي قوله: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } اختصار، لأنه بمعنى فإن لم تأتوا بسورة من مثله، وكذا في قوله: { ولن تفعلوا } لأن مؤداه ولن تأتوا بسورة من مثله، و"لن" لا تأتي إلا مع قصد تأكيد النفي أو تأبيده أو لأجلهما معا، وهي هنا مفيدة للتأكيد والتأبيد كما في قوله تعالى:
{ { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً } [الحج: 73] لتعذر أن يأتي أحد بمثل القرآن أو بمثل سورة منه في أي عصر كان.
وجملة { ولن تفعلوا } معترضة بين الشرط وجوابه، وهي تفيد خبرا غيبيا صدقه الواقع، فقد تعاقبت عند العرب منذ نزول هذه الآية مدارس بيانية متنوعة، وكان من بين تلامذتها كثير ممن أوغل في الإِلحاد، وبالغ في محاربة القرآن، غير أنهم لم تحدثهم أنفسهم أن يخوضوا تجربة فيحاولوا إنشاء سورة واحدة من مثل قصار سوره لتثبيت عقيدتهم وتأييد نزعتهم، بل قصرت عزائمهم جميعا عن الطموح إلى ذلك، على أن الوقت الذي نزل فيه القرآن كان زاخرا بأرباب ملكات البيان، فقد بلغت فيه اللغة العربية أوج ارتفاعها، وانتهى طوفان الكلام عند العرب إلى أقصى حده، وكانت عداوة الحق وكره الرسالة الجديدة، والتكذيب بها قد جمعت بين فئاتهم، والتقى عليها كتابيهم ووثنيهم، وقد تعاقدوا بالخناصر، وتشادوا بالعهود على محاربة الله ورسوله، إلا من رحم ربك ممن شرح الله صدره للاسلام، وقليل ما هم في بداية الأمر وكانت آيات التحدي تقرع مسامعهم جميعا، ومع ذلك رضوا لأنفُسهم الذلة والخنوع من آثار هزيمتهم في هذا المجال، لأنهم شعروا من أعماق نفوسهم أنهم لو نزلوا حلبة المعارضة لما جاءوا بشيء ما عدا السخ افات التي يربأون بأنفسهم عنها، وسجل التاريخ عليهم هزيمة نكراء لا يعرفون لها نظيرا، ويتضح بهذا أن هذه الجملة الإعتراضية - بجانب إعجاز بيانها - تحتوي على إعجاز خبري أقره التأريخ، وسلم له الحميم والعدو.
وجملة: "فإن لم تفعلوا .. إلى آخره"؛ مفرعة على الشرط وجوابه على الصحيح، وليست فذلكة لما تقدم كما قال الألوسي، فإن المراد فإن عجزتم عن الاتيان بسورة مماثلة لما فيه القرآن، أو حاولتم المعارضة، ولم يمكن لشهدائكم أن يسجلوا لكم بأنكم بلغتم بما أتيتم به شأو القرآن، فأيقنوا أن ما جاءكم حق نازل من عند الله، وأنكم اجترأتم عليه بتكذيب رسوله المؤيد بهذه المعجزة الخالدة، فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم من الكفار المكذبين.
وعزا القرطبي إلى جماعة من المفسرين أن في الآية تقديما وتأخيرا، وأن الأصل وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، ولن تفعلوا فإن لم تفعلوا فاتقوا النار، وفرع عليه عدم تمام الوقف على صادقين، وهو قول مرفوض، لما علمته من أن جملة { ولن تفعلوا } جاءت معترضة في موضع حسن فيه مثل هذا الاعتراض، والتجرؤ على القول بأن في القرآن تقديم ما حقه التأخير أو العكس اجتراء عظيم على من أنزله بحسب هذا الترتيب، لأن تقديم ما حقه التأخير لا يصدر إلا ممن يُعْييه ترتيب الكلمات أو الجمل بحسب ما تقتضيه معانيها، وهو عجز لا تصح نسبته إلى الله، ومن نسبه إليه فقد كفر والعياذ بالله، وما أشبه هذا الذي عزاه القرطبي إلى جماعة من المفسرين - في الغرابة والبُعد - بما ذكره ابن عطية والقرطبي أيضا أن بعضهم ذهب إلى أن الضمير في قوله { من مثله } عائد إلى ما نُزل من قبل من كتب الله، وفساد هذا الرأي ظاهر بداهة لمخالفته ما يتبادر من معنى الآية ومعاني نظائرها، ولأن التحدي إنما هو بالقرآن وليس بما تقدمه من الكتب.
والمراد باتقائهم النار اتقاؤهم الأسباب الموصلة إليها، وأهمها ركوب متن العناد، والإِخلاد إلى الكفر والشقاق كرها للحق وتعاميا عن الحقيقة مع سطوع حجتهما وإشراق براهينهما، وهو من التعبير بالمسبب عن السبب.
والوقود ما تشتعل به النار من زيت أو حطب أو ما أشبهها، وهو بفتح الواو في قراءة العشرة وقرأ الحسن بن أبي الحسن، ومجاهد، وطلحة بن مصرف، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر الهمداني بضم الواو، وهي محمولة على أنه مصدر للمبالغة كما قال الشاعر:

فإنما هي إقبال وإدبار

وذلك بأن يُجعل ذلك عين اتقادها، ولا معنى لتقدير بعضهم مضافا - وهو ذوو - قبل وقود لأنه مما ينفر عنه الطبع السليم، ويأباه الذوق المستقيم، فضلا عن كون هذا المحذوف ليس إليه من داع فالمعنى واضح حسب التأويل الذي سبق، على أن المضموم من هذه اللفظة يأتي بمعنى المفتوح، والعكس كما ذكره بعض من يعوَّل عليهم من أئمة العربية.
والمراد بالناس الكفار المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه، وهو مبني على أنها نار مخصوصة بالكفار، وثم نيران أخرى لغيرهم من أصحاب الكبائر، ويدل عليه تذييل الآية بقوله: { أعدت للكافرين }، وذهب جماعة إلى أن إعدادها للكفار لا ينافي اشتراك سائر أهل الكبائر معهم في دخولها.
والمراد بالحجارة التماثيل المنحوتة التي عبدوها من دون الله وعلقوا على عبادتها أمل نجاتهم، فإنهم يعذبون بها يوم القيامة لمضاعفة حسرتهم على تأليهها، وبيان حقارتها عند الله عندما تنقلب أداة ضر، بعدما عدوها وسيلة نفع، وسببا للسحق بعدما كانوا يطمعون أن تكون لهم سبيلا إلى الزلفى، وهناك يكتشفون ضلال عقولهم وخيبة سعيهم إذ عدلوا عن عبادة الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن إلى عبادة أحجار نحتوها بأيديهم، وصوروها بحسب رغبتهم، لا تسمع، ولا تبصر، ولا تحسب، ولا تفكر، ولا تأتي بخير، ولا تدفع ضيرا، ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى:
{ { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98]، وقيل هي حجارة الكبريت لتميزها بين الأحجار بسرعة الاشتعال، وشدة الحرارة، وكثرة الدخان، ونتن الرائحة والالتصاق بالأبدان، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه ابن جرير، واخرج هو وعبدالرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه مثله عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وعول عليه جماعة من أهل التفسير بناء على ما تقدم من أن بعضهم يرى أن قول الصحابي في التفسير له حكم الرفع، وهذان الصحابيان الجليلان معدودان في مقدمة الصحابة في فن التفسير، رواية ودراية، وقد سبق أن كثيرا من العلماء يرون مثل هذا القول لا يعدو أن يكون موقوفا على الصحابي المنسوب إليه، ومن ثم عول أصحاب الرأي الأول على ما دلت عليه آية الأنبياء من معنى، وتعضده النصوص الدالة على أن المجرم يعذب يوم القيامة بآلة إجرامه، كقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة: 34 - 35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا .." ، ويمكن الجمع بين الرأيين بان تلك الحجارة نفسها تتحول إلى حجارة ذات طبع كبريتي، وذكر الناس والحجارة لا ينافي أن يكون لهذه النار وقود غيرهما، فالشياطين ومردة الجن تشتعل بهم كما تشتعل بكفار البشر والعياذ بالله.
وهذه النار إن كانت خاصة بالكفار المشركين فلسائر أهل الكبائر نيران أخرى يعذبُون بها، وإن كانت عامة لهم ولغيرهم فقوله: { أعدت للكافرين } ما هو إلا لمزيد التنفير من الكفر والتحذير من الدنو منه، وأي كفر أعظم من كفر الذي يتعامى عن آيات الله، ويتصامم عن دعوته مع ظهور حجتها وإشراق نورها، وإن أعظم حجة على صدق هذا القرآن المنزل من عند الله هذا العجز البشري طوال القرون الخالية عن الإِتيان بشيء من مثله، لا سيما في ذلك العصر عندما كان المسلمون قلة مضطهدين، ولم تكن لدى الكفار حيلة لإِسكات هذا الصوت إلا اللجوء إلى العنف والارهاب دون معارضته بصوت من مثله.
ولرُب قائل يقول: لا يبعد أن يكونوا قاموا بالمعارضة وأتوا بمثل القرآن في روعة بيانه وجمال أسلوبه، وإنما نفوذ المسلمين في العرب هو الذي قضى على ما جاءوا به، وقد سجل التأريخ محاولة مسيلمة وغيره للقيام بهذه المعارضة؛ والجواب عن ذلك أن هذا التحدي لم يكن بعدما كانت أزمة الأمور في جزيرة العرب بأيدي المسلمين، وإنما بدأ بمكة المكرمة والجاهلية في أوج قوتها وعنفوان جبروتها، وكان العرب على اتصال ببعض ممالك الفرس والروم، فلو أنهم جاءوا بشيء مما طولبوا به لطاروا بذلك فرحا ونشروا خبره في الآفاق وسجله التاريخ، وبقي محفوظا لدى الأمم التي كانت تكيد للاسلام وتناوئ القرآن، ولكن شيئا من ذلك لم يكن، أما ما جاء به مسيلمة ونظراؤه فقد كان من السخف بحيث يربأ اللبيب بنفسه عن نسبته إليه، وإذا كانت المعارضة قد تعذرت على قريش وهي ذؤابة العرب، ومنبع البيان، وأساتذة البلاغة، فأحرى بغيرهم أن تتعذر عليه.
وإعداد الشيء تهيئته، والنار مهيأة للكفار بما أُعد فيها من صنوف العذاب، وبنفس الإِضرام الذي هو أكبر سبب لتعذيبهم، واستدل بالآية على أن النار قد خُلقت وهُيئت لاستقبال أهلها وكذا الجنة وهو قول جمهور الأمة، وذهب أكثر المعتزلة وبعض أصحابنا كأبي المؤثر وأبي سهل الفارسي وابن أبي نبهان إلى أنهما لم تُخلقا إلى الآن وإنما تخلقان يوم القيامة، وعزا ابن عطية هذا القول إلى المنذر بن سعيد البلوطي الأندلسي، وعَدَّهُ سقوطا منه، والمسألة ليست من مسائل الدين القطعية لاحتمال أن يكون قوله: { أُعِدَّت للكافرين }، ومثله في الجنة { أعدت للمتقين } محمولا على الإِخبار عن المستقبل بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه، نحو قوله تعالى:
{ { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } [يس: 51] وآيات أخرى.
وإنما يترجح القول بأن الجنة والنار قد خلقتا بالأحاديث الصحيحة الناصة على ذلك، وإنما جعلتها مرجحة ولم أجعلها قاطعة لأنها لم تبلغ مبلغ التواتر اليقيني الذي يفيد العلم القطعي لأن قصة آدم عليه السلام وإسكانه الجنة ثم إخراجه عنها؛ لا تفيد إلا الترجيح فقط للخلاف الموجود بين علماء الأمة، هل تلك الجنة هي جنة الخلد أو غيرها؟
وجملة أعدت للكافرين مستأنفة لبيان شأن هذه النار.