التفاسير

< >
عرض

وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ
٢٥
-البقرة

جواهر التفسير

مضت سنة الله في خطابه لعباده أن يشفع الترهيب بالترغيب، ويجمع بين الوعد والوعيد لتربية النفس الإِنسانية وإيقاظ أحاسيسها بالتشويق تارة، وبالتخويف تارة أخرى، لأن كلا الأمرين حافز إلى فعل الخير، وواق من ارتكاب ضِدِّه، والناس متباينون في طبائعهم، فمنهم من هو أسرع تأثرا بالتشويق، ومنهم من يتأثر بالتخويف، ومنهم من يدفعه التشويق إلى المسارعة إلى الخيرات، ويمنعه التخويف من ارتكاب الموبقات، وإصلاح النفس الإِنسانية هو المقصد الأساسي للقرآن، فلذلك جاء خطابه بما يتسع لأحوال الناس جميعا.
هذا وذكر إمام المعاني جار الله الزمخشري أن هذا العطف هو عطف جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين، والتبس كلامه على أبي حيان الأندلسي فحمله في تفسيره "البحر المحيط" على أن مراده به عطف الجملة على الجملة، وهذا الذي دعا أبا حيان إلى تبرير التعاطف بين الجملتين مع كون المعطوفة إنشائية، والمعطوف عليها خبرية، وبناه على رأي من لا يشترط اتحاد الجملتين في الإِنشاء أو الخبر لجواز عطف إحداهما على الأخرى، وأورد شواهده القاضية بصحته، والزمخشري لم يقصد ما فهمه أبو حيان، ولم يرد بالجملة الجملة الإِصطلاحية عند علماء العربية، وإنما أراد بها مجموعة من الكلام مشتملة على جُمَل، وقصده واضح، وقد فصل كلامه تفصيلا السيد الجرجاني بحيث لم يترك أي لبس حوله، فالمعطوف هنا جملة الكلام الخاصة بثواب المؤمنين، والمعطوف عليه جملة الكلام الخاصة بعقاب الكافرين مع غض النظر عما اشتمل عليه كل من المعطوف والمعطوف عليه مما يسمى جملة في الإِصطلاح، والتناسب بين المتعاطفين ما بينهما من التقابل، وسمى السيد هذا العطف عطف قصة على قصة، وسبق الحديث عنه في قوله عز وجل: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ.. } "الآية".
واختُلف من أين تبدأ القصة المعطوف عليها، فذهب السيد الجرجاني إلى أن بدايتها قوله: { وإن كنتم .. } وذكر الألوسي عن بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة، وأدعى لتلاؤم النظم لأن بداية الكلام وهي: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ } شاملة لفريقي المؤمنين وغيرهم، ثم خوطب غير المؤمنين بقوله { وإن كنتم } وهو خطاب يتضمن الإِنذار وعُطف عليه خطاب المؤمنين بقوله: { وبشر .. } ومعناه البشارة المقابلة لما في خطاب الطائفة الأولى من الإِنذار، ومعنى ذلك أن الله سبحانه أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس جميعا إلى عبادة الله، ثم أمره أن ينذر المعاندين ويبشِّر المؤمنين، وذهب السعد التفتازاني إلى أن بدايتها من قوله: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } لأن السياق لوصف حال الكفار وبيان منقلبهم، وهذا هو الذي يتلاءم مع ما اخترته من قبل وهو أن الخطاب في قوله: { وإن كنتم } يتوجه إلى جميع الفئات المخاطبة بقوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ }، وجوز الزمخشري أن يكون العطف على: { اتقوا } واعترض من وجهين:
أولهما: أن العطف يقتضي جواز حلول كل من المعطوف والمعطوف عليه محل الآخر، ولا يجوز حلول بَشِّر مكان اتقوا.
ثانيهما: أن الأمر لا يعطف على أمر آخر مع عدم اتحاد المأمور إلا مصحوبا بالنداء كما نص عليه النحويون.
ويدفع الأول أن المتعاطفين لا يشترط جواز تعاقبهما بحيث يحل المعطوف مكان المعطوف عليه، والدليل عليه قوله تعالى: { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }، حيث عطف الاسم البارز - وهو الموصول - على الضمير المتصل، ولا يصح تقديم الموصول وعطف الضمير عليه بالإِجماع، وقد ورد نحوه كثيرا في القرآن، وكذا في الكلام العربي الفصيح منثوره ومنظومه، كما يدل عليه قولهم: "رب رجل وأخيه لقيتُهما" مع عدم جواز تقديم أخيه على رجل بالإِجماع في هذا المثال، لما يترتب عليه من عدم وجود معاد للضمير، ودخول رب على المعرفة وهي لا تدخل إلا على النكرات، وهذا الذي ذكرته يغني عما أجاب به بعضهم من أن كلا من { اتقوا } و{ بشر } مترتبان على أمر واحد وهو ظهور معجزة القرآن، وتكذيب المعاندين بها، وتصديق المؤمنين، والتكذيب هو الذي ترتب عليه الوعيد، كما أن التصديق هو الذي ترتب عليه الوعد.
وأجيب عن الثاني بأن جواز عطف أمر على أمر مع اختلاف المأمورين حال النداء؛ لظهور المراد بكلا الأمرين بقرينة النداء، دليل على جواز ذلك عند وضوح المراد بأية قرينة أخرى، ويدل عليه قوله تعالى:
{ { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } [يوسف: 29]، فإن القرينة هنا ما دخل على الأمر الثاني من علامة التأنيث، ومثله التفاوت بين الأمرين هنا، فأولهما جاء بصيغة الجمع، وثانيهما بصيغة الإِفراد، وذلك كاف في الدلالة على ما يراد بكل منهما.
ومن التكلف الظاهر تجويز السكاكي في المفتاح كون { بشر } معطوفا على قل مقدر قبل { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ }، ومثله قول القزويني في الإِيضاح أنه معطوف على أنذر مقدر بعد { أعدت للكافرين } أي فأنذر الذين كفروا، وبشر الذين آمنوا، ولست أدري ما الداعي إلى حمل القرآن على هذه المسالك الملتوية مع وضوح الوجه الأول الذي قاله الزمخشري، وعدم تعذر الوجه الثاني وإن ذهب السيد الجرجاني إلى أن مذهب القزويني أصح المذاهب بعد الوجه الأول مما في الكشاف.
والتبشير الإِخبار عن المحبوب، فهو مضاد للإِنذار، واشترط بعضهم عدم علم المبشَّر بالنبأ السار الذي يبشر به، وهو الذي اعتمده الزمخشري، وعليه فمن حدث أحدا حديثا يَسُرُّه، والمحدَّث عارف به فهو إخبار وليس بتبشير، والصحيح أنه تبشير على كلا الحالين، لأن الله سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم هنا أن يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنات ونعيمها، مع أنه تقدم في القرآن المكي تبشيرهم بذلك، فهم ليسوا على جهل بما به يبشَّرون، وإنما يزدادون بتجديد التبشير نشاطا في السعي إلى الخير، وتوقيا من الوقوع في المهلكات.
وقد سبق الكلام في الإِيمان وبيان أن ماهيته الشرعية تشمل الأعمال الصالحة التي يقتضيها توحيد الله تعالى، وهو الذي حكى العلامة ابن تيمية - كغيره - إجماع السلف عليه، وروى أبو القاسم اللالكائي عن البخاري أنه اجتمع بنحو ألف من أئمة السلف فلم يكونوا يختلفون في ذلك، ومع هذا فإن جل المفسرين استدلوا بعطف العمل الصالح على الإِيمان على تغايرهما، لعدم جواز عطف الشيء على نفسه، وأرى أن الأقرب إلى ما تقتضيه الأدلة القرآنية والحديثية ما أفاده الإِمام ابن تيمية، وهو أن الإِيمان إذا أطلق فمدلوله العقيدة والعمل معا، وإذا عُطف عليه العمل كما في هذه الآية فيحتمل أن يكون من باب عطف الخاص على العام، وأن يكون المراد به العقيدة وحدها، كما أن المسكين والفقير إذا أفرد أحدهما كانا صنفا واحدا، وإذا عُطف أحدهما على الآخر كانا صنفين، ومثله يقال في الألفاظ التي تتحد مدلولاتها كالبر والتقوى والمعروف، وكالإِثم والعدوان والمنكر، وهذا لا ينافي أن يكون مقر الإِيمان القلب لأن صلاح الجسد متوقف على صلاح القلب، كما في حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه البخاري:
"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله" .
والأمر بتبشير المؤمنين يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لكل من يصلح للتبشير، وهذا إذا لم يُقصد بالخطاب معين، نحو قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "بشر المشائين في الظلم الى المساجد بالنور التام يوم القيامة" ، والوجهان جائزان في كل ما كان مثله في القرآن، كقوله تعالى: { { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الحجر: 49]، وقوله: { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } وقوله: { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } وقوله: { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ }.
والأعمال جمع عمل وهو ما يزاوله العامل، واختلف في شموله للترك، وبناء على الشمول يكون اجتناب المعاصي داخلا في الأعمال الصالحة، وعلى عدمه فاجتنابها يفهم قصده بذكر الأعمال الصالحة بحسب ما تقتضيه القرائن، والصحيح عدم الشمول، لأن تفسير العمل بالمزاولة ينافي أن يراد به الترك، هذا من حيث مدلول لفظ العمل اللغوي، وأما من الناحية الشرعية فالقرائن هي التي تدل عند إطلاق العمل الصالح على قصد فعل الحسنات واجتناب السيئات معا لأن تقبل الأعمال موقوف شرعا على اجتناب محبطاتها من الكبائر، بدليل قوله تعالى:
{ { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [المائدة: 27]، وقوله: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } [الحجرات: 2]، وقوله: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [البقرة: 264].
شمولية الصالحات لعمل الخير:
والصالحات جمع صالحة، والأصل أنها صفة لموصوف؛ ولكن أجريت مجرى الأسماء، فلذلك أطلقت من غير تقدير محذوف قبلها، ولعل التاء فيها لنقلها من الوصفية إلى الإِسمية، ومثلها الحسنة والسيئة، فإن كلا منهما تطلق على ذات العمل من غير تقدير موصوف وقد ورد في الكلام العربي إطلاق الصالحة على حقيقة العمل، ومنه قول الحُطَيْئَة:

كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتيني

وتصدق الصالحات على كل ما يُطلب فعله سواء كان طلبه جازما - وهو الواجب - أو غير جازم - وهو المندوب - وكذلك اجتناب المنهيات - إذا عد من عمل الصالحات - يدخل فيه ما كان النهي عنه جازما - وهو المحرّم - أو غير جازم - وهو المكروه - ودخول المندوبات والمكروهات في ذلك بطريق التبعية.
والتعريف في الصالحات للجنس لعدم قصد صالحات معينة، اللهم إلا أن يراد بها ما سبق التنويه به من صفات المؤمنين فيما أنزل قبل من السور، كقوله تعالى في سورة المؤمنون: { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ .. } إلى { .. أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ }، وقوله في سورة المعارج { إلا المصلين .. } إلى { .. أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ }، وقوله في سورة الفرقان { وعباد الرحمن .. } إلى { .. أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ }، وبناء على أنه للجنس فالمراد بها ماهية الأعمال الصالحة، وتصدق على الواحد فصاعدا إن كان اللفظ الدال عليها مفردا، وعلى الثلاثة فأكثر إن كان جمعا كما في هذه الآية، وليس من المعقول أن يستوعب الإِنسان الواحد صالحات الأعمال على اختلافها؛ لعجز الطاقة البشرية عن استيعابها، كما أنه ليس من المعقول أن يكتفي منها بثلاثة أعمال فحسب، وإنما تختلف الواجبات باختلاف أحوال المكلفين، فمن البدهي أن تراعى الفوارق بين حالات الغنى والفقر، والسعة والضيق، والسفر والحضر كما تراعى فوارق الذكورة والأنوثة، فالتكاليف تختلف باختلاف هذه الأحوال جميعها، فالغني ينوء بما لا ينوء به الفقير منها، وكل من الرجل والمرأة مخصوص بتكاليف معينة بحسب نوعهما، فوق التكاليف العامة التي يشتركان فيها، وهكذا يقال في الحاضر والمسافر، وهلم جَرَّا، وإنما مصدر بيان هذا كله الشريعة الغراء التي نزل بها الكتاب العزيز، ووردت بها السُّنَّة المطهرة، ولا يحكم على العمل بالصلاح أو غيره إلا بمقاييسها، وهي بحمد الله جامعة لحكم كل شيء إما تفصيلا وإما إجمالا، والجزئيات غير المنصوص عليها تستفاد أحكامها بالرجوع إلى القواعد العامة، ولا دخل للعقول والعادات والأعراف في شيء من ذلك.
الشريعة ميزان الأعمال:
ولا ريب أن الفطرة السليمة تهدي إلى الخير وتدعو إلى الصالحات غير أنها لا تكفي لأن تكون مصدر الأحكام، وموئل الاحتكام، لأنها كثيرا ما تتأثر بالمؤثرات المختلفة، ومن هنا كان اتصال الإِنسان بخالقه تعالى لا يكون إلا بطريق ما شرعه من الأحكام بوحيه المنزل، ولذا لم يوكل الناس إلى عقولهم في تمييز الخير من الشر، والنفع من الضر، فقد يستحسن عقل ما يستهجنه آخر، وتستسيغ فطرة ما تأباه فطرة أخرى، وهذا لتأثير العوامل التربوية والاجتماعية والشخصية على نفوس الناس، وكثيرا ما تكون البيئة عاملا مهما من هذه العوامل، ومن ثم تختلف أحوال مجتمعات الناس في استحسان الأمور واستقباحها، ولأجل ذلك كان ميزان الأعمال الذي يفرز الصالح من غيره هو كتاب الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
ورُوِيَتْ عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ومَن بعدهم من مفسري التابعين أقوال في المراد بالصالحات، منهم من قال إنها الإِخلاص، ومنهم من ذهب إلى أنها الجمع بين العلم والنية، والصبر والإِخلاص، وذهب بعضهم إلى أنها الصلوات الخمس، وقال آخرون هي الأمانة، وذهبت طائفة إلى أنها التوبة، ولا تعد هذه آراء مختلفة، وإنما ذلك كله من أمثلة الأعمال الصالحة، وقد تكرر في هذا التفسير عدم اعتبار مثل هذا خلافا، وإنما كانت تختلف إجابات الصحابة وغيرهم باختلاف أحوال السائلين أو السامعين، فتارة يكون اللائق بالمقام الحض على الصلوات الخمس لتهاون السائل أو المستمع بها، وتارة يكون الأجدر الحث على الأمانة للتقصير فيها، وتارة تدعو الحال إلى التذكير بالإِخلاص أو بالتوبة، وتفسيرنا للصالحات بأنها ما وافق الكتاب والسُّنَّة يجمع جميع ما قالوه.
وهذا التبشير إنما هو للمؤمنين حقا الذين انعكس إيمانهم على أعمالهم، فلا يأتون شيئا ولا يذرونه إلا بحسب تعاليم الحق التي نزل بها الكتاب المبين، وفصلها الرسول الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وبيان استحقاقهم هذا الثواب لم يكن إلا من طريق الوحي، إذ لا دخل للعقول في مثل ذلك خلافا للمعتزلة القائلين بأن الوحي لا يكون إلا مؤكدا لما يدل عليه العقل، وأن مثوبة الله لعباده واجبة عليه لهم إن قاموا بما فرضه عليهم من الأعمال، والحق أن المثوبة ليست إلا محض فضل من الله، وأن طاعة العبد لربه واجبة على أي حال، ولو لم تكن تترتب عليها مثوبة، وليست موجبة على الله تعالى شيئا، فالله يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وبحسب الإِنسان هذه الآلاء التي يسبح في خضمها منذ بداية نشأته وإلى انتقاله إلى الدار الآخرة، داعيا ملحا إلى استنفاد الجهد واستفراغ الطاقة في طاعته تعالى، ولو أن نعمة من أبسط هذه النعم قوبلت بأعمال الناسك الأواب الذي وقف حياته كلها على عبادة ربه، ولم يترك شيئا مما في وسعه من الطاعات إلا فعله، ولا شيئا من المنهيات إلا جانَبَهُ لذهبت تلك النعمة بهذه الأعمال كلها، فما بالك بهذا البحر الواسع من النعم، مع أن التوفيق لصالحات الأعمال هو نفسه من أجل الآلاء وأوسع المنن بحيث لا يمكن لإِنسان أن يفي بشكره على أي حال.
والجنات جمع جنة وهي الحديقة ذات الشجر الملتف بعضه على بعض مأخوذة من جن بمعنى ستر، لأن شجرها ساتر لأرضها ولمن كان داخله، واشتقاقات هذه الكلمة كلها دالة على الستر كالجنون والجنين والجن والجنان، فالجنون ساتر للعقل، وسائرها مستورة، وتطلق الجنة على الشجر نفسه، كقول زهير:

كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا

فإن مراده بالجنة النخل، ومن العلماء من ذهب إلى أن اسم الجنة لنفس الشجر لا للأرض ذات الشجر.
وفي تشويق الله سبحانه وتعالى إلى الدار التي أعدها للأبرار يوم القيامة، وتسميتها جنات تنويه بقيمة النباتات وعظم نفعها، ففي تلك الدار قصور شامخة لا يتصور العقل علوها، غير أن الله سبحانه لم يسمها المدينة أو نحوه من الأسماء الدالة على المباني، وإنما سماها جنة، وهذا لأن كل شيء يألف ما كان إلى جنسه أقرب، ويشتاق ما كان إلى وصفه أدنى، والإِنسان والنبات مشتركان في الحياة وإن اختلف نوع الحياتين، بعكس المباني فإنها وإن راقت للعين بزخرفها وأبهجت النفس بتشكيلها لا تجامعهما في صفة الحياة، وبجانب ذلك فإن تنوع النباتات واختلاف صنوف الشجر مما يزيد النفس سرورا والعين قرارا، فلذلك خصت دار الثواب بهذا الاسم، وهي ذات مراتب متفاوتة تفاوت أصحابها في الأعمال.
والجريان سرعة سيلان الماء ويطلق على العَدْو السريع من الإِنسان وغيره، ورأي العلامة ابن عاشور أنه موضوع للعَدْو السريع، وأن إطلاقه على سيلان الماء مجاز، والشائع خلاف ما قال.
والأنهار جمع نَهَر - بالتحريك - وهي اللغة الفصحى، وقد تُسَكَّن الهاء، ويدل على فصاحة التحريك، قوله تعالى:
{ { فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } [القمر: 54]، ويلائمه الجمع على أنهار، لأن أفعالا جمع لكل اسم ثلاثي إلا ما كان مفتوح الفاء ساكن العين، فيجمع على أفعل كأنهر، ولم تأت هذه الصيغة في القرآن، وكفى بذلك دليلا على رجحان التحريك.
وأصل النهر السعة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"ما أنهر الدم" أي وسع الجرح حتى أسال الدم، وسمي به المجرى الواسع للماء، وهو فوق الجدول ودون البحر، ومنهم من يرى أنه الماء الجاري نفسه، وعلى الأول فإسناد الجريان إليه من باب المجاز العقلي للملابسة بين الماء ومجراه، ويجوز أن يكون من باب المجاز اللغوي والعلاقة إطلاق اسم المحل على الحال، وعلى الثاني فالإِسناد حقيقي.
وقد تردد ابن عطية بين هذين القولين، فبينما هو يقول: "والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة"، إذا به يقول بعد بضعة أسطر "ونسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده تجُّوزا" كما قال: { واسأل القرية .. } فتراه بنى كلامه الأول على رأي والأخير على آخر، وقد تعجّب أبو حيان من هذا التعارض بين عبارتيه، وهو حري بأن يُتعجب منه.
وجريان الماء بين المروج الخضراء مما يضاعف بهجة النفس وقرة العين، وسرور الخاطر، فما بالك إذا كانت المروج - من حسن الشكل وبديع المنظر - بحيث لم تر مثل حسنها عين، ولا يتصور جمالها خيال، وكانت المياه تنساب على تراب المسك والكافور، وتتدفق على أحجار الدر والياقوت، فإنها دار الخلود التي يصف الله تعالى ما فيها بقوله: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، وفي الحديث القدسي:
"أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ، وذكر أن أنهار الجنة تجري مطردة في غير أخاديد، وذلك مما يضاعف بهجة النفوس بها، وسرور الخاطر برونقها.
ومما يستغرب منه توقف الإِمام محمد عبده عن تفسير حقيقتي الجنة والنار؛ هل هما بمعناهما المفهوم عند الناس، أو أن لهما حقيقة غير ما يتصور، وبنى عليه جواز أن يكون ذكر الأنهار ترشيحا للجنات التي أريد بها التشبيه، وحاصل كلامه أنه من المحتمل أن يكون المراد بالأنهار غير المعنى المتبادر، وأن لا تكون هناك جنات ولا أنهار بحسب معناها المفهوم عندنا، وأن يكون ما هناك حقيقة أخرى شبهت بالجنات والأنهار، وتعقبه السيد رشيد رضا بأنه لو لم يرد في هذا المقام إلا ذكر الجنة أو الجنات لوجب التفويض وامتنع الترجيح، أما وقد ذكر في آيات أخرى أنواع من الشجر المثمر والثمرات فقد تعين ترجيح الشق الثاني وإلا كنا هربنا فيما يتعلق بعالم الغيب من معاني الألفاظ إلى تأويلات الباطنية المعطلين للحقائق الظاهرة التي تدل عليها الألفاظ.
ومن فضل الله على عباده أن جعل مثوبتهم في الدار الآخرة من جنس ما ألفوه في الدنيا من صنوف النعم وأنواع الملذات، فإن النفس البشرية إلى مألوفها أميل، وفي معروفها أرغب، والإِنسان بمروره بالدنيا يكتسب معارف جمة تتعلق بشئون الحياة، فإذا شوق إلى ما عهده فيها مما يميل إليه طبعه، وترغب فيه نفسه كان ذلك أسرع في التأثير عليه مما لو كان تشويقه إلى ما لم يعهد له مثيلا. هذا مع التفاوت الكبير والبون الشاسع بين نعيم الدنيا وملذاتها، وما أعده الله سبحانه في الدار الآخرة للمتقين من جنس هذا النعيم وصنوف تلك الملذات، فما في الدنيا لا يعد شيئا بجانب ما في الآخرة { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ }.
وجريان الأنهار من تحتها هو انسيابها تحت تلك الأشجار الباسقة الزاهية، وتدفقها تحت قصورها البهية العالية.
والظاهر أن "أل" في الأنهار للجنس، وقيل إنها للعهد، والمعهود ما سبق من وصفها في سورة القتال، وذلك قوله تعالى:
{ { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [القتال: 15]، وهو مبني على أن آية القتال نزلت بمكة، ولست أدري ما هو دليلهم على ذلك، فإن جل أئمة التفسير يقولون إن سورة القتال نزلت بالمدينة، وذلك واضح من نفس السورة، على أن أكثر الآيات المكية الواصفة للجنة وأنهارها ذكرت فيها الأنهار مُعَرَّفَة، وجوّز الزمخشري أن تكون "أل" سادّة مسد الإِضافة، فيراد بها أنهارها، وأورد عليه بأنه مذهب كوفي، وتعقب ابن عاشور هذا الإِيراد بأن الزمخشري لم يرد أن "أل" عوض عن المضاف إليه، فإنه بنفسه قد أباه في تفسير قوله تعالى: { { فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 39]، وإنما أراد أن الإِضافة واللام متعاقبتان هنا، وليس ذلك صالحا في كل موضع، ورأى ابن عاشور أن مذهب الكوفيين مقبول، وأنهم لم يريدوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف، فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود، فأدخلت عليه لام التعريف العهدي، غير أنه اختار كون الداعي إلى تعريف الأنهار التفنن لسبق تنكير جنات.
وجملة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } وصف لجنات، و{ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } وصف ثان، ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لبيان حالهم في هذه الجنات، لأن ذكر الجنات مشعر بالثمار، فيمكن للسامعين أن يتساءلوا كيف طريقة انتفاعهم بثمارها؟ فيجابوا بذلك، وجوَّز الزمخشري وعدد كبير من المفسرين أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هم كلما رزقوا منها .. الخ، أو هي، وضعَّف قطب الأئمةرحمه الله في الهيميان تقدير المبتدأ لتمام المعنى بدونه، ولأن الزمان لا يخبر به عن اسم العين، فلا يقال محمد يوم الجمعة، بخلاف اسم المعنى نحو الصوم يوم الجمعة مثلا، ومن الواضح أن لـ { كلما } حكم ظرف الزمان لأن إضافة "كل" الدالة على العموم إلى "ما" المصدرية الظرفية يقتضي استغراق الأزمان المقيدة بصلة "ما"، وذلك لا ينافي شرطية كلما، ككثير من الظروف التي تستمد الشرطية بإضافتها إلى "ما" نحو "حيثما"، وأجاز القطب أن تكون هذه الجملة حالا من جنات، وهو ضعيف جدا لما تقرر عند علماء الإِعراب من أن الجمل بعد النكرات صفات، وإنما تكون أحْوالا بعد المعارف.
وللقائلين بتقدير المبتدأ أن يقولوا إن الظرف ليس وحده هو الخبر وإنما الخبر هو الجملة بتمامها، وفيها ما يصلح وحده - لو أفرد - أن يكون خبرا وهو { قالوا }.
و"من" في الموضعين لابتداء الغاية وجوّز أن تكون للبيان فيهما، وجوّز الزمخشري أن تكون في قوله { من ثمرة } واردة على طريق قولهم رأيت منك أسدا، وهو من باب التجريد.
والظاهر أن { من ثمرة } بدل من قوله { منها } لجواز قول القائل: أكلت من حديقة فلان من تفاحها أو من رمانها، وهو بدل بعض من كل، ويجوز أن يكون بدل اشتمال و{ رزقا } مفعول ثان لرزقوا وليس مفعولا مطلقا كما قال بعض المفسرين. و{ قالوا } جواب للشرط المفهوم من { كلما } ومعنى ذلك أنهم إذا جيئوا بشيء من فاكهتها ظنوه هو عين ما رُزِقُوه من قبل؛ لما بين شكليهما من التشابه، ومرادهم ما رزقوه من قبل في الحياة الدنيا، حسبما روى ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ورواه عبد بن حميد عن علي بن زيد وقتادة ورجحه ابن جرير والزمخشري ويعني ذلك أن ثمار الجنة شبيهة بثمار الدنيا من حيث الأشكال وإن تباينت في لذاتها.
وعلل الزمخشري هذا التشابه بأن الإِنسان آنس بمألوفه وأميل إلى معهوده، فإذا رأى ما لم يألف ربما نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه ربما إذا رزق شيئا من جنس ما كان له به عهد، ورأى فيه مَزِيَّة ظاهرة بالتفاوت بينه وبين ما سبق له به العهد، ضاعف ذلك ابتهاجه واستثار استغرابه واستعجابه، وأدرك حقيقة النعمة فيه، وتحقق مقدار النعمة به، بخلاف ما إذا كان جنسا غير معهود له فإنه ربما يحسبه أن ذلك الجنس لا يكون إلا بذلك المقدار، فلا يدرك عظم النعمة به تمام الإِدراك، فإذا رأى أحدا رُمَّانة في الجنة تشبع السكن وقد عهد جنسها في الدنيا لا يتجاوز أكبره حد البطيخة الصغيرة، ورأى النبق في دار الجزاء كقِلاَل هَجَر، وقد عهد جنسه في الدنيا لا يتجاوز حجمه الفلكة، ونحو ذلك إذا ما رأى الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام وهو لا يقطعه مع ما عهده من مقادير أشجار الدنيا، كان ذلك أعمق لسروره وأبلغ في استغرابه مما لو لم يتقدم له بجنس ذلك عهد.
واستدل ابن جرير لصحة هذا المذهب بما يدل عليه قوله: { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا } من تكرار هذا القول منهم بتكرر رزقهم، وصدقه على أول مرة يؤتون فيها بهذا الرزق، إذ لو كان المراد بقولهم { هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } ما تقدم لهم من رزقهم بثمار الجنة لم يصدق ذلك على المرة الأولى، فإنهم فيها غير عاهدين شيئا من ثمارها، وإنما عهدهم بثمار الدنيا، وعليه فالمضاف إليه الذي قطعت عنه { قبل } هو دخول الجنة، وأما تكرر هذا القول منهم بعد المرة الأولى من دخولها؛ فقد حمله الزمخشري على فرط استغرابهم مما يرون.
وذهب فريق إلى أن المراد بقولهم { هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } قبل تلك المدة منذ دخولهم الجنة، وهو يعني تشابه ثمار الجنة، وقد أخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي كثير وعضد بقوله تعالى: { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } وقد روى معنى ذلك ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، إذ فسروه أنه متشابه في اللون والمرأى مع اختلافه في الطعم، وأيِّدَ بأن السعيد الذي يرزق من ثمار الجنة لا يلزم - بل لا يمكن عادة - أن يكون على علم في الدنيا بجميع صنوف فواكهها، مع أن الله تعالى يقول في وصْفِ الجنتين: { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ }.
ووجه ابن عاشور هذا الاتحاد في أشكال فواكه الجنة مع اختلافها في الدنيا؛ بأن الاختلاف في هذه الدار ناشئ من اختلاف الأمزجة والتراكيب بخلاف موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري ويحتمل أن ذلك لتعجيبهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر ثم قال: "وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق".
وأصحاب هذا القول يضعفون القول الأول لبعد أن يقصدوا بقولهم { هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } ثمار الدنيا كلما تكرر رزقهم وأن لا يعتادوا هذا النعيم الأخروي بحيث ينظرونه بما تقدم في الدنيا ويحملون هذا التكرار على ما بعد المرة الأولى من دخولهم الجنة، وتخصيص تلك المرة مفهوم من القرائن.
تنوع نعيم الجنة:
والظاهر أن ثمار الجنة متنوعة كما تفيده الأحاديث وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } وإنما كل جنس من الفاكهة يختلف طعمه بين مرة وأخرى، فإن اختلاف طعوم الفاكهة الواحدة أدعى إلى الاستغراب وأكثر متعة من اتحاد جميع الفواكه في الشكل مع اختلافها في المذاق، وبهذا يتبين المراد من قولهم: هذا الذي رزقنا من قبل فإنهم كلما أتوا بفاكهة وجدوها من حيث الشكل قريبة مما رزقوه من نوعها من قبل فإذا أكلوها وجدوا لها طعما آخر أما أن يرددوا في كل مرة تشبيه ما يؤتونه بما رزقوه في الدنيا فبعيد، لما تقدم من عدم إحاطة أحد بجميع فواكه الدنيا، لأن الله لم يجعل كل جزء من أرضها صالحا لنبت كل الفواكه، وإنما جعل أجزاءها مختلفة النباتات بحسب اختلاف المناخ ولأنهم إذا حسبوا - أول مرة يرزقون فيها من فاكهة الجنة - أنها مثل فاكهة الدنيا ثم أدركوا ما بينهما من تفاوت فليس من المعقول أن يعودوا فيما بعدها إلى ترداد هذا القول، فإذا أعيدت إليهم تلك الفاكهة نفسها علموا التفاوت بتجربتهم السابقة وان أوتوا غيرها علموه بالقياس على ما سبق من تجربة.
وقيل: مرادهم بقولهم { هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } هذا الذي وعدنا في دار الدنيا بأن نرزقه في الآخرة، وهو بعيد، وقيل: مرادهم به ما وفقوا له من الأعمال الصالحة في الدنيا فكانت سببا لهذا الجزاء في الجنة، ولا يخفى ما فيه من التعسُّف، وقد عده قطب الأئمةرحمه الله من غلو المتصوفة الذين يُحَمِّلون ألفاظ القرآن ما لا تتحمله من المعاني.
وفسر الحسن وقتادة التشابه بكونه خيار لا رذل فيه، رواه عنهما ابن جرير وعبد بن حميد، ومعنى ذلك أن ما يكون في فواكه الدنيا من التفاوت بين جيدها ورديئها لا يكون مثله في فواكه الجنة، فهي كلها جيدة لا رديء فيها، وهو ظاهر، وقيل: يراد بالتشابه تشابه أسماء فواكه الجنة وفواكه الدنيا دون مسمياتها، لما رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء" ويبعده أن الظاهر من التشابه في الآية تشابه الذوات لا الأسماء، وذهب الزمخشري إلى أن المراد به تشابه المرزوق في الدارين، وبه قال الفخر الرازي، وأبو السعود، والألوسي، وقطب الأئمة، واستشكل ذلك أبو حيان لأن الحديث عن رزق الجنة، ولأن الضمير في قوله "به" مفرد فلا يصح أن يكون عائدا إلى المرزوقَيْن، وأجاب عن ذلك الألوسي في روح المعاني، وقطب الأئمة في الهيميان بأنه من باب الكناية الإِيمائية، ويعنيان بذلك أن الحديث وإن كان خاصا برزق الجنة إلا أن اقترانه بعروض الإِشارة إلى رزق الدنيا هو الذي سوغ رجوع الضمير إليهما معا، وقولهم هذا مبني على ما تقدم، من أن المراد بما رزقوه من قبل ما أوتوه في الدنيا، وقد علمت ما فيه من الضعف، ولو سُلم أن ذلك صحيح فيستبعد جدا - كما قال أبو حيان - أن يعود الضمير إلى رزقي الدنيا والآخرة مع أن الحديث عن رزق الآخرة.
ولسائر المفسرين أقوال أخرى في هذا التشابه، منهم من قال هو في اللون فقط، ومنهم من قال هو في الشكل، ومنهم من قال في أحدهما وفي الطعم، ومنهم من قال هو فيهما معا، وهي أقوال ليس عليها من دليل، وقد علمت ما هو الراجح.
والظاهر أن جملة { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } حال من { قالوا } مفيدة لسبب هذا القول، واعتبارها حالية يستلزم إضمار قد، ونحوه كثير في القرآن، نحو
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [البقرة: 28] أي وقد كنتم، وقوله: { { ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ } [آل عمران: 168]، أي وقد قعدوا، وقيل: هي للتذييل الذي يراد به التقرير والتأكيد، كما في قوله عز وجل: { { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } [النمل: 34] بعد أن حكى عن بلقيس قولها: { { إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } [النمل: 34]، وقيل هي صفة ثالثة لجنات، ويضعفه عدم وجود الرابط بين الصفة والموصوف.
ومن حيث إن الطبيعة الإِنسانية لذتها في المسكن البهي، والمطعم الشهي، والمنكح الوضي، وقد ذكر الأول في قوله: { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } والثاني في قوله: { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } جيء بعدهما بوصف الثالث في قوله: { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ }، ويراد به أنهن منزهات من جميع الأدناس الحسية والمعنوية مما يكون في الدنيا خاصا بالنساء أو مشتركا بينهن وبين الرجال، فجميع الأقذار التي تفرزها الطبيعة في نساء الدنيا، أو فيهن وفي رجالها نزهت منها نساء الآخرة، وكذلك ما يكون من لؤم الطباع مما تعد قذارته معنوية كالغل والكيد والحسد، نزه الله تعالى منه نساء الآخرة، سواء كن من الصالحات في الدنيا كما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في تفسير الأزواج هنا، أو كن من الحور العين كما قال غيره، والظاهر أن المراد بالأزواج هنا ما يعم النوعين لكمال أنس المؤمنين بهما معا، ولتبرئة الله سبحانه الصالحات من نساء الدنيا في الجنة من كل العيوب الجسدية والنفسية، وذلك تطهير لهن مما كن متلوثات به في الدنيا.
وأما اللاتي ينشأن هناك فتنشئتهن من أول الأمر مطبوعة طبع السلامة من هذه العيوب، وجاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحوال نساء الجنة منها الصحيح ومنها الحسن، ومنها دون ذلك، وهي صريحة في أن الاتصال بين الزوجين يتم يوم القيامة على نحو ما يكون في الدنيا، وإن كان أكمل في اللذة وأبعد من الأذى.
وتوقف الإِمام محمد عبده - كعادته في الأمور الغيبية - عن تفسير الحكمة المطلوبة من الحياة الزوجية في الآخرة، نظرا إلى أن الحكمة المطلوبة من الزواج في الدنيا هي التناسل وإنماء النوع؛ مع عدم ورود أن في الآخرة تناسلا، وبناء على ذلك يرى أن لذة المصاحبة الزوجية هناك أعلى، وحكمتها أسمى يؤمن بها ولا يبحث عن حقيقتها.
والحق أن الحكمة في ذلك معروفة، وهي لذة الاتصال بين الجنسين كما صرحت به الأحاديث النبوية، وأومت إليه الآيات القرآنية، والإِنسان يوم القيامة لا يتحول عن إنسانيته، وقد وفر الله لعباده المؤمنين في دار كرامته جميع ما تتوق إليه أنفسهم في الدنيا من متع الحياة ونعيمها، فما يؤتونه في الدنيا إنما هو بقدر هذه الحياة المحدودة، وبقدر طبيعتها المقيدة التي تختلف تمام الاختلاف عن طبيعة الحياة الأخروية المطلقة، فالفارق بين لذات الدارين كالفارق بين البقاء فيهما.
الخلود أبدي في الحياة الأخروية:
وبما أن النعمة وإن كملت، واللذة وإن تناهت - إن لم يأمن صاحبهما زوالهما كان ذلك من أشد المنغصات عليه - جيء هنا بما يستأصل هذا الخوف وهو إثبات خلودهم في الجنة ونعيمها، فالحياة الأخروية لا انقطاع لها، ولا يكدر أمنها خوف، ولا يهدد شبابها هرم، ولا صحتها سقم، ولا غناها فقر، ولا نعيمها بؤس، والخلد يطلق على المكث الدائم الذي لا ينقطع، وهو معنى قوله تعالى:
{ { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34]، وهو المراد في هذه الآية ونظائرها من آيات الوعد والوعيد، روى ابن جرير وابن اسحاق، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي خالدون أبدا، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني لا يموتون، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، كل هو خالد فيما هو فيه" ، ومثله عن أبي هريرة عند البخاري، وعن معا ذ عند الطبراني والحاكم وصححه، وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها، ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد" .
ويطلق الخلد على المكث الطويل من غير دوام، وهو وارد في كلام العرب نثره وشعره، واختلف فيم هو الأصل؟
فذهب الزمخشري، وابن عطية، والقرطبي، والشوكاني إلى أن الخلد موضوع للدوام الأبدي، واستعماله في غيره مجاز، وذهب الفخر الرازي وأبو حيان، وأبو السعود، وقطب الأئمة إلى أنه موضوع للمكث الطويل مع غض النظر عن دوامه أو انقطاعه، وعليه فهو من باب المشترك الذي يتعين ما يراد به بالقرينة الدالة عليه، وجعل هؤلاء دوام الثواب والعقاب بالدلائل الأخرى من الكتاب والسنة غير لفظة الخلود، نحو قوله تعالى في الذين آمنوا وعملوا الصالحات:
{ { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [البينة: 8]، وقوله: { { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [الجن: 23] حيث قرن الخلود بالتأبيد في الموضعين، ومثل ذلك ما يستفاد من الأحاديث الصحيحة الصريحة في خلود أهل الدارين فيهما، ومهما يكن الأصل في معنى الخلد فإن خلود الأبرار في الجنة والفجار في النار خلود أبدي للإِجماع على بقاء الدارين، والأدلة القاضية على أن حياة سكانهما حياة أبدية، وخالفت في هذا طائفتان:
أولاهما الجهمية، مستندين في ذلك إلى شبهتين:
الأولى أن دوام المخلوقين مناف لاتصاف الله بالآخرية، فإن من أسماء الله الأول والآخر، ومعنى أوليته سبقه على كل موجود، وهكذا يلزم أن يكون معنى آخريته بقاؤه بعد كل موجود.
الثانية: أن أنفاس أهل الدارين إما أن تكون معلومة له تعالى وذلك يعني أنها محصورة، وحصرها لا يتفق مع دوامهم، وإما أن تكون غير معلومة وهو لا يتفق مع وصفه أنه بكل شيء عليم.
وأجيب عن الأولى بأن دوام حياة المخلوقين في الدار الآخرة لا ينافي آخريته تعالى، لاختلاف دوامهم عن دوامه، فإن دوامه ذاتي، ودوامهم بإدامته إياهم، فلذلك كان حقيقا بصفة الآخرية دونهم؛ وعن الثانية أن استمرار أنفاسهم لا ينافي إحاطة علمه سبحانه بها، فإن علمه علم ذاتي ليس كعلم المخلوقين ولا يصح أن يقاس عليه.
ثانيتهما: أصحاب النظرة المادية القائلون بتعذر بقاء الأجسام، لأنها مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية، فهي معرضة للاستحالات المؤدية إلى الإِنحلال.
وأجيب: بأن كونه تعالى قديرا على كل شيء ينفي هذا الإِشكال من أصله، إذ ليس ببعيد أن يعيد الأبدان بطبيعة أخرى لا تتحلل معها، أو أن يجعلها كلما تحلل منها شيء عُوِّضَت عنه ببديل عنه.
ومن أيقن أن الله قدير على كل شيء تضاءلت هذه الشبهة أمام ناظريه حتى تتلاشى، فإن الله الذي ركب الأجسام في هذه الدنيا من الأجزاء المتضادة قادر على تركيبها يوم القيامة غير متضادة، ولا يقاس ما في عالم الغيب على ما في عالم الشهود، ولا البقاء المطلق على البقاء المحدود، فإن الله يطبع كل شيء بما يتلاءم مع ما أراده له، وللدار الآخرة طبائع تكوينية تختلف تمام الاختلاف عن الطبائع المشاهدة المألوفة وما يدرينا لعل المتضاد في الدنيا يكون غير متضاد يوم القيامة.