التفاسير

< >
عرض

قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٣٨
وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ
٣٩
-البقرة

جواهر التفسير

أعيد الأمر بالهبوط ليترتب عليه غير ما ترتب على الأمر الأول، فالأمر السابق ذُكر مقرونا ببيان الإِنتقال من حياة الصفاء والنعيم إلى حياة الكدر والبؤس، ولبيان أن الحياة التي ينتقلون إليها ذات أمد محدود، ونهاية متحومة يتضح ذلك من قوله تعالى فيما تقدم: { { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [البقرة: 36] وذلك أن آدم عليه السلام لم يكن يشعر هو ولا زوجه عندما كان في الجنة بما سيدور في هذه الحياة التي خلقها لأجلها بين ذريتهما من عداوات وأحقاد، وحسد وبغضاء، وكذب واحتيال، وغش وخداع، وتعالى بعضهم على بعض وما يتبع ذلك من التناحر والتفاني، فأراد الله أن يعرفهما طبيعة الحياة المنتقل إليها عندما أمرهما بالإِنتقال حتى يكونا على بصيرة من أمرهما.
الجزاء من جنس العمل
والأمر بالهبوط يترتب عليه بيان أن الناس مجزيون في الآخرة بحسب أعمالهم في الدنيا، ومن المسلمات عند الجميع أن النفس البشرية مطبوعة على حب الحياة، فإذا ما أوذن الإِنسان أن حياته على الأرض محدودة استحكم فيه القلق واستولى عليه الاضطراب إلا إذا علم ما يتبع مرحلة الفناء التي تلي الحياة، واطمأن إلى وجود حياة أخرى، وإذا لم يستبن الإِنسان من طريق الوحي فإن القلق والاضطراب لن ينفكا عنه، إذ المصير مبهم، والمستقبل مُعَمَّى لا يمكن اكتناهه بالعقل، ولا بوسائل العلوم التجريبية، وإنما الوحي وحده هو الذي يزيح ستره ويكشف سره، وقد أراد الله أن يرفع عن صدر آدم وزوجه هموم التفكير في هذا المستقبل الغامض فآذنهما بأن هذه الحياة المنصرمة تتبعها حياة سرمدية يلقي فيها كل عامل جزاءه، وفي ذلك طمأنينة لهما بأنهما لن يخسرا الخلود في النعيم إذا ما عملا صالحا وهما يرجوان من الله أن يوفقهما لصالحات العمل بعد تلك الورطة التي أوقعهما فيها الشيطان فكانت لهما درسا لا ينسيانه، كما أن في ذلك تبشيرا لهما بأن كل صالح من ذريتهما سينقلب إلى هذا المنقلب، وسيلقى هذا الجزاء الخالد، فإن كانت الجنة التي أهبطا منها هي جنة الخلد فإنهما سيعودان إليها بتوفيق الله مع عدد لا يحصى من ذريتهما، وإن كانت غيرها سيبدلان بها ما هو خير منها وأبقى.
وبجانب ذلك فإن في هذا التبشر والإِنذار حفزا لهما ولكل لبيب من ذريتهما على المسارعة إلى البر والتوقي من الفجور، فإن المنقلب إما إلى جنة عالية وإما إلى نار حامية، والبقاء في كل منهما ليس له أمد، ولا مصير بين هذين المصيرين، فالرابح لا يوازي ربحه شيء والخاسر قد خسر كل شيء، وحسبهما وحسب ذريتهما عظة وعبرة تلك الهفوة التي صدرت منهما فتجرعا غصص عاقبتها.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الهبوط الأول هو الانتقال من الجنة إلى السماء، والهبوط الثاني هو الانتقال من السماء إلى الأرض، وهو قول مرفوض لأمرين:
أولهما: ان الله تعالى قال إثر الأمر بالهبوط الأول: { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } والمستقر والمتاع إنما هما في الأرض دون السماء.
ثانيهما: أنه تعالى أمرهما هنا بالهبوط منها، والضمير في منها عائد إلى الجنة قطعا، لأن الضمائر السابقة لا تعود إلا إليها، فلا ينسجم البيان إذا ما فصل هذا الضمير عنها وأعيد الى السماء على أن السماء لم يسبق لها ذكر حتى يُعاد إليها.
وذهب الفخر الرازي إلى أن إعادة الأمر بالهبوط لأن آدم وحواء تابا بعدما أمرهما الله بالهبوط فوقع في قلبهما انتساخ هذا المر لأنه كان بسبب الزلة وقد محتها التوبة فأعاد الله تعالى الأمر به ليعلم أنه ليس جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها وإنما هو لأجل تحقيق ما تقدم من وعده تعالى في قوله للملائكة:
{ { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30].
ومقتضى رأيه أن الأمر بالهبوط ليس عقوبة على ارتكاب الخطيئة، وهو يتنافى مع قوله عز وجل لآدم وحواء تحذيرا من الشيطان:
{ { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ } [طه: 117] فإنه صريح في أن إخراجهما من الجنة كان بسبب تلبسهما بالخطيئة التي أوقعهما فيها الشيطان، ولا ينافي ذلك تحقق الوعد الذي وعد الله به ملائكته بنفسه هذا الهبوط فإن لله أن يرتب ما شاء من أمره على ما يشاء، وله تعالى في كل شيء حكمة.
وذهب ابن عاشور إلى أن هذه حكاية أمر ثان لآدم بالهبوط كي لا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته، ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى، وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض، وهو ما أخبر به الملائكة، وفيه إشارة أخرى وهي العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات، وأما تحقيق آثار المخالفة - وهو العقوبة التأديبية - فإن العفو عنها فساد في العالم، لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل، فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة، فإن الصبي إذا لوث موضعا وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه، فالعفو يتعلق بالعقاب، وأما تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه، ولذا لما تاب الله على آدم رضى عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا، ولكنه لم يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته، وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه.
ورأيه يتفق مع رأي الفخر كما هو واضح من كلامه غير أنه أضاف إلى ذلك الإِشارة التي ذكرها.
وذهب الزمخشري وجماعة إلى أن هذا تأكيد للأمر الأول وحمله ابن عاشور على أن تسميته تأكيدا ليست إلا لإِعادة نفس الأمر الأول بلفظه، وإلا فقد ترتبت على هذه الإِعادة فائدة لا تتم بدونها، وهي ارتباط البيان بعضه ببعض وتوضيح مراده للسامع فلو لم يُعدْ هذا اللفظ نفسه لتوهم أن الخطاب في قوله فإما يأتينكم مني هدى للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن، فهو قول واحد كُرر مرتين لربط الكلام مع استقلاله في كل مرة بفائدة، ولذلك لم يعطف "قلنا" على ما قبله لما بينهما من شبه كمال الإِتصال.
وبناء على هذا التوجيه، فالقول بالتأكيد لا يتنافى مع ما ذهبت إليه في المراد من إعادة الأمر.
المراد بالهدى بعد الهبوط
و"إما" مركبة من "إن" الشرطية و"ما" التأكيدية، والأصل في "إن" أن تكون في الشرط غير المقطوع به بخلاف "إذا"، وقد أوثرت عليها للإِيماء إلى أن إتيان الهدى ليس واجبا على الله وإنما هو مجرد فضل منه تعالى غير أن اقترانها بـ "ما" ودخول نون التوكيد على فعلها ينفيان شك السامع في عدم تحقق شرطها.
وقد سبق معنى الهدى في تفسير الفاتحة وأول هذه السورة، واختلف في المراد به هنا، روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية أنه الأنبياء والرسل والبيان، وبنى عليه ابن جرير أن الخطاب هنا لغير آدم بل هو لذريته لأنه نفسه كان من الرسل، مع أن ابن جرير نفسه ذكر ان الرسل إلى الأنبياء هم الملائكة وإلى سائر الناس هم الأنبياء، وذهب قوم إلى أن المراد بالهدى الكتب، وقال آخرون هو القرآن خاصة، وقيل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهذان القولان - وإن صححهما ابن كثير - يردهما أن الخطاب لآدم وحواء وجميع ذريتهما، وليس خاصا بهذه الأمة وحدها، وقد خلت رسل جاءت بكتب من عند الله تعبدت الأمم السالفة بما فيها من الهدى والبيان.
واستدل القطب -رحمه الله - في الهيميان للقول بأنه الرسل بقوله تعالى:
{ { يَابَنِيۤ ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } [الأعراف: 35]، ولا أرى وجها للاستدلال بالآية لأنها في بني آدم بينما الخطاب هنا لأدم وحواء وإنما تدخل فيه ذريتهما بالتبعية وقد علمتم أن آدم كان نفسه رسولا.
وأولى الأقوال بالصواب هو أن الهدى كل ما تقوم به حجة الله على خلقه سواء كان عقلا أو وحيا؛ فالعقل حجة في معرفة وجود الله، ومعرفة صفاته الذاتية، كالوحدانية، والقدم والبقاء، والعلم والقدرة؛ والوحي حجة في ذلك وفي سائر المعتقدات، وفي أحكام الله المتعلقة بأفعال العباد ولا يبعد أن يكون الهدى هو الدين الذي تعبد الله به خلقه، فإن المتمسك به آخذ بحجزة هدى الله، ومستمسك بالعروة الوثقى منه، والمفرط فيه أصفر الكفين من كل خير، وانتظام حياة الفرد والمجتمع تتوقف عليه، فللنفس الإِنسانية مطالب شتى، منها روحية ومنها جسدية، ومنها قلبية ومنها عقلية، والتأليف بين هذه الجوانب، والتنسيق بين هذه المطالب لا يتم إلا بعقيدة روحية يسري أثرها على كل شيء في الإِنسان، ومصالح أفراد هذا الجنس متشابكة وشؤونهم متداخلة، فإذا لم يهيمن عليهم وازع من الدين أدى بهم الأمر إلى النزاع والشقاق، والتدافع والتنافر، ومن هنا كان الدين ضرويا للسعادة والنظام، إذ العقل وحده لا يكفي لأن يسد مسده، فإن العقول متباينة باختلاف المؤثرات النفسية والإِجتماعية على أصحابها، فالتربية والتثقيف، والبيئة والمحيط لها أثر في تكوين الفكر وتوجيه العقل، بينما الدين فوق ذلك كله لأنه تنزيل من حكيم حميد يخضع له العقل والقلب، ويستسلم له الروح والجسد.
وقد يتصور عبيد الشهوات أن في الدين حرمانا بسبب ردعه للإِنسان عن الانطلاق وراء شهواته، والواقع أن تلك هي السعادة المطلوبة والغاية المحبوبة، فإن الإِنسان أذا أطلق له العنان فاتبع هواه كان ذلك أخطر العوامل في تدمير الفرد والمجتمع، فقد تقوده شهواته الى ما فيه هلاك نفسه، وفساد مجتمعه، والله لم يحرم في دينه شيئا إلا لما علمه من مصحلة لعباده في هذا التحريم، خفية كانت أم ظاهرة، عاجلة أم آجلة، وكفى سعادة أن يفوز الإِنسان برضوان الله وما يترتب عليه من حياة الخلد والنعيم المقيم
{ { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 55] في مقابل قيد نفسه عن بعض شهواتها في فترة قصيرة لا توازي شيئا بجانب حياة الأبد، ومن هنا كان تغابن الناس الحقيقي بحسب اختلاف حظهم من التمسك بالدين فهم وإن تفاوتوا في الغنى والفقر، وفي الراحة والبؤس، وفي طول الأعمار وقصرها، وفي امتداد الأفكار وانحصارها، وفي قوة الأبدان وضعفها، وفي الجاه والسلطان إلى غير ذلك مما يعد التفاوت فيه ربحا أو خسارة، فإن ذلك لا يساوي شيئا بجانب التفاوت في التمسك بأهداب الدين، والاعتصام بحبل التقوى.
وفي إضافة الهدى إليه تعالى إيماء إلى أنه لا يأتي إلا منه، ولا يُتلقى إلا عنه، سواء كان من كتبه التي أنزلها، أو من رسله الذين بعثهم، أو من العقل الذي نوره. واتباع الهدى سبب الأمان من الخوف، والوقاية من الحزن، فالمجتمع المتمسك بهدى الله مجتمع آمن مستقر لا خوف عليه مما يتهدد المجتمعات الضالة الفاسدة من عواقب سيئة، والفرد المتبع للهدى يبعث يوم القيامة آمنا مطمئنا تتلقاه الملائكة بالبشائر، وتطمئنه بالفوز والسعادة، فلذلك قال تعالى: { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة:38].
معنى الخوف والحزن
والخوف انزعاج النفس لتوقع مكروه في المستقبل، والحزن تألمها لفوات محبوب أو لتوقع فواته، فهو يكون على ما وقع في الماضي، أو ما يتوقع في المستقبل، وهو مأخوذ من الحزن - أي ما غلظ من الأرض - فكأنه هم غليظ، وخصه الأكثرون بالواقع دون المتوقع، ويرده قوله تعالى حكاية عن عن يعقوب عليه السلام:
{ { إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } [يوسف: 13]، ولا داعي إلى تأويله، واختلف المفسرون فيما يراد من الخوف والحزن المنفيين هنا عن اتباع الهدى على أقوال أبلغها أبو حيان في البحر المحيط إلى اثني عشر قولا، وأكثرها متداخل، وهي كلها ترجع إلى أن أنهم لا يحزنون على فائت ولا يخشون مما يستقبلهم، وهذه الحالة إنما هي في الحياة الآخرة طبعا عندما تتلقاهم الملائكة، { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [فصلت: 30-31]، أما في الدنيا فالمؤمنون أشد خوفا لعدم أمنهم من مكر الله، ولمعرفتهم بعظم الهول وجلل الخطب، فلذا كانوا أشد مراقبة للنفس ومحاسبة لها، ويدل على ذلك ما وصفهم الله به في كتابه كقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } [المؤمنون: 57] إلى قوله: { { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون: 60]، وقد وصف الله بالخوف الأنبياء - وهم صفوته من خلقه - ومن ذلك قوله في زكريا وآله { { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } [الأنبياء: 90]، وكذا الحزن، فإن من شأن المؤمن أن يحزن في الدنيا بسبب شعوره بالتقصير في طاعة الله، وهو يرى نفسه دائما مسبوقا بالمجدين في الطاعة والمسارعة إلى الخيرات كما أنه يحزن - كما يحزن غيره - لما يعتريه من مصائب الدنيا ونوائبها.
وظاهر كلام الإِمام محمد عبده في المنار أن الخوف والحزن منفيان عن أهل الهدى في الدنيا والآخرة ونصه: "فالمهتدون بهداية الله تعالى لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، لأن اتباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة، ومن كانت هذه وجهته يسهل عليه كل ما يستقبله، ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الله يخلفه فيكون كالتعب في الكسب لا يلبث أن يزول بلذة الربح الذي يقع أو يتوقع".
وقد علمتم أن المؤمن في الدنيا لا يبارحه الخوف لأنه الواقي من الخوف في الآخرة اذ لا يجمع الله على عبد خوفين، وفي الآيات القرآنية الواصفة للمؤمنين بالخوف والآمرة به، وفي أحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ما يكفي دليلا على أن الخوف من الله - كرجائه تعالى - من أهم واجبات الدين، فبهما يستقيم أود النفس، وتنزجر عن المعاصي، وتسابق إلى الخيرات، وإذا كان النبيون أشد خوفا من الله كما ثبت في الحديث، فما بالكم بسائر المؤمنين على أن خوف كل أحد إنما هو بقدر علمه وإيمانه، فكيف يقال إن المؤمنين لا يعتريهم الخوف في الدنيا؟ وأما الحزن فهو أمر فطري جبلت عليه نفوس البشر وإن تباينت فيه بحسب اختلاف أمزجتها، وهو يعتري البر والفاجر، كيف وقد أصاب الأنبياء، وهم أكمل البشر وصفا، وأعظمهم صبرا، وأشدهم جلدا، فقد وصف الله يعقوب عليه السلام بقوله:
{ { وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف: 84]، وحكى عنه قوله: { { إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } [يوسف: 13]، وقال لصفوة الأنبياء وخاتم المرسلين: { { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ } [الأنعام: 33]، وثبت في الحديث أنه صلوات الله وسلامه عليه قال - ودمعه ينسكب وقلبه يتألم على فراق قرة عينه وفلذة كبده إبراهيم الذي وُهبه على الكبر - "وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون" فما قاله الإِمام من أن المهتدين لا يعتريهم الخوف والحزن في الدنيا ترده النصوص والمشاهدات.
واستدل الفخر الرازي بهذه الآية على عدم خوف المؤمن بعد الموت لا في قبره، ولا عند بعثه ولا في الموقف، وعزز هذا الاستدلال بمدلول قوله تعالى:
{ { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ هَـٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [الأنبياء: 103].
وذهب الأكثرون إلى أن لا دليل في الآية على نفي الخوف يوم القيامة عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد ذلك اليوم إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا.
والظاهر ان هؤلاء نظروا إلى أن من طبع الإِنسان أن يتأثر بالهول النازل وإن كان على ثقة بأنه في مأمن منه، وأنتم تدرون أن الطبيعة البشرية في الآخرة لا تبقى بحسب ما كانت في الدنيا، ومن الدليل على ذلك ما ذكره الله من التقاول الذي يكون بين أهل الجنة وأهل النار، واطلاع أهل الجنة على ما فيه أهل النار من العذاب - والعياذ بالله - مع عدت تكدير ذلك صفو نعيمهم ولا إثارة مشاعر الألم والحزن في نفوسهم، وذلك مخالف للطبع البشري المألوف في الدنيا؛ فما المانع أن يكون الحال كذلك في الموقف؟ وما أشاروا اليه من وصف الله ورسوله لأهوال ذلك اليوم لا يخلو إما أن يكون من العمومات القابلة للتخصيص أو الروايات الأحادية التي لا تقوى على معارضة النصوص القاطعة برفع الخوف عن المؤمنين الصالحين نحو قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30]، وقوله: { { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [الأنبياء: 103].
واتباع هدى الله الذي يترتب عليه الأمن من الخوف والسلامة من الحزن إنما هو باتباع مراشده أمرا ونهيا ومعرفة سننه في خلقه، وذلك ما جاءت به رسالاته التي بعث بها رسله واحتوته الرسالة الخالدة، رسالة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام المتمثلة في كتاب الله الكريم وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فالتمسك بهما أصل النجاة من كل مخوف والسلامة من كل محزن.
عقاب المنحرفين عن هدى الله
وبعد تقرير عاقبة المتبعين لهدى الله بين مآل أضدادهم الذين انحرفوا عن مسلك الهدى واتبعوا طرائق الضلال، بقوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 39]، ويُلحظ إفراد الإِسم الموصول في معرض الحديث عن المهتدين وجمعه عندما ذكر أعداؤهم الضالون، والحكمة في ذلك الإِيماء الى قلة المهتدين بجانب الكثرة الكاثرة من الضلال، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى:
{ { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ص: 24]، وقوله: { { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13].
والكفر هنا إما أن يكون كفرا بالله أو كفرا بآياته، وعلى الأول فالمجرور متعلق "بكذبوا" وهو - على الأخير - متنازع بين "كفروا" و"كذبوا"؛ والكفر أعم من التكذيب لأنه يكون بالقلب وباللسان بينما التكذيب من عمل اللسان فالمكذب بلسانه كافر بما كذب به وان صدقه قلبه، ومن هذا الباب ما وصف الله به فرعون وقومه في قوله:
{ { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [النمل: 14]، فهم موقنون بصدق آيات الله وإنما دعاهم الظلم والعلو الى جحدها، ووصف الله بذلك كفار العرب في قوله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33]، فقد كانوا يكابرون أنفسهم في إنكار ما جاء به عليه أفضل الصلاة والسلام مع إيقانهم بصدقه، والمصدق بلسانه كافر إن لم يعتقد في قلبه صدق ما أقر لسانه بتصديقه، ومن هذا الباب كفر المنافقين الذي يدعون الإِيمان بألسنتهم وقلوبهم فارغة منه، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }، ويقولون: { { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } [المنافقون: 1]، وهم في كل ذلك كاذبون.
وقد سبق بيان معنى الكفر وانقسامه الى كفر شرك وكفر نعمة، وأن كافر النعمة لا يخرجه كفره من الملة، فلا تمتنع موارثته ومناكحته، وكذلك جميع أحكام أهل الملة ما عدا الولاية التي هي حق المستقيمين على دين الله، وأما في الآخرة فمصيره - إن لم يتب - مصير سائر الكفار والعياذ بالله.
والآيات جمع آية وهي علامة ظاهرة على شيء خفي يعرف بها ويدرك بإدراكها سواء كانا حِسِّيين، كمعلم الطريق، ومنارة السفينة، أو عقليين كالدلالة المؤلفة من مقدمات ونتيجتها، واختلف في مأخذها، فقيل من أي التفسيرية لأنها تبين أيا من أي، وقيل من التأيي وهو النظر والتؤدة، ومنه قول لبيد:

وتأييت عليه ثانيا يتقيني بتليد ذي خصل

وقيل من تأييته أو تأييته بمعنى قصدت آيته أي شخصه، ومنه قول الشاعر:

الحصن أولى لو تأييته من حثيك الترب على الراكب

وفي وزن آية أقوال، قيل هو فَعَلَةٍ - بالتحريك - وإنما أبدلت الياء ألفا لانفتاحها وتحرك ما قبلها، وقيل على وزن فَعِلَهْ - بكسر العين - وقيل على وزن فَعُلَهْ كسمرة وعلى هذين القولين فَعِلَّهُ إبدالها ألفا هي نفس العلة السابقة، وقيل غير ذلك، ولا يخلو شيء في الوجود من آيات الله، فكل ذرة فيه منطوية على ما لا يحصى من الآيات الدالة على قدرة خالقها وعلمه وحكمته، وبجانب ذلك فقد مضت سنته تعالى في رسالاته أن يعززها بآيات دالة على صدق الرسول وصحة الرسالة لئلا تبقى للمرسل اليهم حجة بعدها، ومن أمثلة ذلك آياته تعالى التي قرن بها رسالة موسى عليه السلام، وقد وصفها بقوله: { { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [الزخرف: 48]، وأعظم هذه الآيات دليلا وأظهرها حجة القرآن الكريم الذي أنزله الله على قلب خاتم النبيين ليكون آية على صدق رسالته تتحدى جميع المعارضين على اختلاف ملكاتهم البيانية ومواهبهم الفكرية إلى أن يطوي الله صفحة هذا الوجود، وأطلقت الآيات على الأقسام التي تتألف منها سور القرآن لدلالة ألفاظها على محتوياتها من العقائد والأحكام والآداب والمواعظ والحكم، ويجوز أن يكون تسميتها آيات لدلالة أوائلها وأواخرها على بدايتها ونهايتها، وتحديد هذه الآيات توفيقي لا مجال للإِجتهاد فيه.
وإذا علمتم أن كل ما يفتح عليه الإِنسان عينيه، بل كل ما يدركه بأي حاسة كانت هو من آيات الله أدركتم أن أولى ما تفسر به الآيات هنا هو كل ما كان شاهدا على معرفته تعالى ودليلا على وحدانيته، وتبيينا لأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، فتدخل في ذلك المخلوقات المحسوسة والمعقولة، وما أوحاه الله إلى أنبيائه من تعليم لخلقه، وتبيين لما خفي عنهم علمه، ولا وجه لحصر هذه الآيات في القرآن لأنه تخصيص بغير مخصص، ولأن الخطاب لم يكن لهذه الأمة وحدها.
والعدول عن الضمير الى الاسم الظاهر - في قوله: { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ } مع جواز أن يكون بدله فمن اتبعه لتقدم اسم الهدى - إنما هو لأجل التفخيم والإِهتمام ليزداد المعنى رسوخا في أذهان المخاطبين، ولأجل استقلال هذه الجملة بنفسها بحيث لا تشتمل على ضمير يعود على ما ذكر فيما قبلها حتى يمكن اعتبارها مثلا سائرأ ونصيحة مشهورة ترددها الألسن فتتذكرها النفوس وتتأثر بها على حد قوله تعالى:
{ { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } [الإسراء: 81].
والمراد بكون الذين كفروا وكذبوا بآيات الله أصحاب النار أنهم يلزمونها كما يلزم الصاحب صاحبه غير أن الصحبة قد تكون دائمة وقد تكون مؤقتة، وقد نُفي الإِحتمال الثاني بقوله: { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فلا مطمع لهم في الإِنفكاك عنها والخروج منها.