التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ
٤٠
وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ
٤١
-البقرة

جواهر التفسير

بعد الحديث عن آدم وقصة استخلافه في الأرض وما تبع ذلك من بيان منقلب طائفتي المهتدين والضالين بعد حياتهم الدنيا بحسب حالهم فيها يوجه الله سبحانه هذا الخطاب الطويل إلى بني إسرائيل مقرونا بتذكيرهم النعمة التي أنعمها عليهم، وبيان عثراتهم وسوء معاملتهم لأنبيائهم، وغلظة طبائعهم، وقسوة قلوبهم، وإعراضهم عن آيات الله، وتحريفهم ما أُنزل، وكفرهم بكثير من أحكام الكتاب الذي بأيديهم الى ما وراء ذلك مما دأبوا عليه في سلسلة تأريخهم عبر أحداث شتى، وإسرائيل هو يعقوب عليه السلام ومعناه صفي الله، وفي ندائهم بهذا الاسم تذكير لهم بأنهم أحرياء بأن يكونوا أسبق الناس إلى الإِيمان وأسرعهم إلى الإِحسان، خصوصا، وأنهم قد تسلسلت فيهم النبوات وتتابعت في أجيالهم الرسالات، وبسط الله لهم صنوف نعمه، وكانت لديهم بقية من علم الكتاب يمكنهم بما التمييز بين الهدى والضلال، وكانوا بذلك على علم بمبعث خاتم النبيين، بل كانوا على انتظاره بفارغ الصبر ليرفع عنهم كابوس الذل، ويحطم عنهم قيود الهوان، وإنما صرفهم عنه الحسد الذي مردوا عليه، والأنانية التي عُرفوا بها، فكانوا مصدر بلاء عليه وعلى أمته، وعقبة كؤودا في طريق دعوته، فكثيرا ما حاولوا صرف الناس عن الإِيمان به، وشوهوا الحقيقة للذين ينشدونها، وظلوا على اتصال بكل الفئات المحاربة للإِسلام، كما أظهر بعضهم الإِسلام بقوله لأجل الوصول إلى ما يريدونه من إشعال نار الفتنة في صفوفه وبين أبنائه، وهؤلاء هم الذين عُرفوا بالمنافقين.
وبنو إسرائيل الذين كانوا في ذلك الوقت مصدر هذا البلاء هم يهود المدينة وما حولها، وهم جزء من سائر اليهود، فطبائعهم هي طبائعهم، وسلوكهم هو سلوكهم، وقد انطوى خطابهم على الترغيب تارة، وعلى الترهيب تارة، وعلى التذكير أخرى ليكون ذلك أدعى إلى ارعوائهم وأرجى في إصلاح نفوسهم الفاسدة، وعلاج أدوائهم المتأصلة غير أن أمراضهم كانت أعصى على العلاج، وأبلغ من الدواء، فلم يؤمن منهم إلا قلة قليلة قدروا على مغالبة طبائعهم، ومقاومة نفوسهم، فكانوا للحق حجة وللاسلام قوة، وهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه ومن نهج نهجه.
وأما سائرهم فقد شرقوا عندما ظهر هذا النبي من ولد اسماعيل عليه السلام ولم يكن من ولد اسحاق، وهم كانوا يطمعون أن لا تخرج النبوة عنهم ما يرونه لأنفسهم من المزايا فأدى ذلك الى تكذيبهم بما كانا يرددونه من قبل من بشائر إظلال زمنه ودنو إشراق صبحه، وإلى تأويل نصوص التبشير به في أسفارهم من توارة وغيرها، رغم أن صفاته فيها واضحة جلية لا يماري فيها لبيب.
التناسب بين آيات القرآن وسوره
وقد يعرض هنا تساؤل عن وجود مناسبة رابطة بين ما تقدم من قصة آدم، وهذا الخطاب الموجه إلى بني إسرائيل.
وجوابه أن العلماء مختلفون في وجود التناسب بين آيات القرآن وسوره، وفي اجداء البحث عن ذلك، لأن القرآن نزل في ظروف مختلفة، ولأغراض شتى في أزمنة متطاولة، فقد نزل في ظرف ثلاث وعشرين سنة، منه ما نزل في السلم، ومنه ما نزل في الحرب، ومنه ما نزل في الحضر ومنه ما نزل في السفر، ومنه ما نزل في حال ضعف المسلمين، ومنه ما نزل بعد قوتهم، ومنه ما كان أمرا ونهيا، ومنه ما جاء تبشيرا وانذارا، ومنه ما هو ناسخ، ومنه ما هو تقرير، ومنها ما هو قصص وأخبار، إلى غيرها من الأغراض التي نزل لأجلها، ولم يُراعَ في ترتيب سوره وآياته ترتب نزوله، ولا ترتب هذه الأغراض، فرأت طائفة تعذر وجود التناسب مع ذلك، وعدوا طلبه من باب طلب المناسبة بين الضَّب والنون، والماء والنار، والملاح والحادي، ومن أصحاب هذا الرأي الإِمام الشوكاني في فتح القدير، وقد بالغ في الإِنكار على القائلين بالتناسب بين آيات القرآن جميعها حتى عد ذلك فتحا لأبواب الشك، وتوسيعا لدائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور، وعلل ذلك بأن هذا الجاهل إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا الأمر لا بد منه وأن القرآن لا يكون بليغا معجزا إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للإِرتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفا محضا، وتعسفا بيِّنا انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة، وعد الشوكاني الاشتغال بأمثال هذه البحوث تضييعا للأوقات، وإنفاقا للساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس، وجعل مثله مثل الذي يُعنى بكلام بليغ من البلغاء فيحاول إيجاد التناسب بين خطبه التي ألقاها في مقامات مختلفة، ولأغراض متباينة، ورسائله التي أنشأها لأسباب شتى، أو إلى شعر شاعر فيجتهد في البحث عن المناسبة بين قصائده التي تكون تارة مدحا، وتارة هجاء، وحينا نسيبا، وحينا رثاء، واذا كان طالب ذلك في كلام البشر يعد راكبا للأحموقة فأجدر من طلبه في كلام الله أن يكون - في رأي الشوكاني - أشد حماقة، وأكثر غباوة على أن كلام الله أنزله بلسان عربي مبين، لم يخرج به عن مسالكهم، ولم يتجاوز أساليبهم.
وذهب آخرون إلى القول بالتناسب، وقد عُنوا عناية فائقة ببحثه حتى أن منهم من أفرد هذا الموضوع بالتأليف كالعلامة برهان الدين البقاعي الذي ألف في ذلك كتابا سماه "نظم الدرر في تناسب الآي والسور"، وقد سلك هذا المسلك غير واحد من المحققين، منهم الإِمام ابن العربي الذي ذكره أنه عُني بشرح التناسب بين آي القرآن في تفسير كبير له يجد له أهلا فطواه عن الناس، والفخر الرازي في مفاتيح الغيب، وأبو حيان في البحر المحيط، والإِمامان عبده، ومحمد رشيد رضا في المنار، والإِمام ابن عاشور في التحرير والتنوير، وقد اختلف هؤلاء هل التناسب بين آيات كل سورة، أو انه حتى بين السور نفسها بحيث تكون فاتحة كل سورة مرتبطة بخاتمة ما قبلها؟ وهذا هو الذي درج عليه البقاعي، وبه قال أبو حيان ناقلا له عن أحد شيوخه في تفسيره لأول البقرة، وهو الذي يفهم مما ذكرته عن شيخنا العلامة الإِمام أبي اسحاق اطفيش -رحمه الله - في تفسير فواتح السور؛ وممن قال بالتناسب بين آيات السورة من غير تعرض لتناسب السور نفسها الإِمام ابن عاشور في التحرير والتنوير.
وقد أضاف بعض المتأخرين - كالعلامة الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه النبأ العظيم - إلى التناسب ما هو أدق منه وهو النظام بحيث تكون كل آية ليست مرتبطة بما قبلها وما بعدها فحسب، وإنما هي وقعت في مكانها الملائم بحيث يتخلخل البيان لو أنها قدمت عليه أو أخرت عنه.
وهؤلاء جميعا بنوا آراءهم على أن ترتيب القرآن توقيفي كما يفهم من بعض الروايات، وأنه كان مرتبا قبل نزوله وإنما كان ينزل ما ينزل منه على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الوقائع والأحداث، ومثل ذلك - ولله المثل الأعلى - مثل القصيدة الواحدة المشتملة على معان شتى، وأغراض متعددة غير أنها تلاحمت ألفاظها بترابط معانيها، ويمكن الاستشهاد ببيت أو شطر منها فيما يلائمه من المقامات.
وأرى أن التناسب بين أي القرآن أمر لا ينبغي إنكاره، فهو ماثل جَليٌّ لأولي البصائر، وإنما يجب على من بحث فيه أن يقنع بما انكشف منه له، وأن يقف عما غمض عليه،
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76]، والتكلف فوق ما يسنح للفهم هو الذي لا يُحمد، وبحسبنا أن نعتقد أن القرآن أبلغ ما وصل إلى الأسماع ووعته الألباب، وأن لطائف تعبيره أكثر من أن تحويها الأفهام، فإذا ما اتضح لنا تناسب بين بعض آياته أو أكثرها ولم يتضح لنا في البعض فما علينا إلا أن نقف عند حد ما وصلت إليه أفهامنا، وأن لا نتجاوز ذلك إلى تحمل ما لم نُحمله، وادعاء ما لا نعلمه.
وإذا أدركتم ذلك اتضح لكم أن القائلين بعدم تناسب كل ما في القرآن لا يُعنون بالنظر في وجه الربط ما بين هذا الخطاب الموجه إلى بني إسرائيل والقصة التي قبله، أما القائلون بالتناسب فلم يألوا جهدا في بيان وجه ذلك، وأظهر الوجوه هو أن الله تعالى دعا الناس أولا الى عبادته في قوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }...الخ، وذكرهم نعمته عليهم ولفت أنظارهم إلى آياته في خلقهم وخلق ما حولهم، وبين لهم آية صدق نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام الذي بعثه إليهم، وقرن تبشير الذين آمنوا بوعيد الذين كفروا، وكشف عن حالة كل طائفة في تلقي ما يأتي من قبله من الأمثال، ونعى عليهم كفرهم به مع سبحهم في خضم نعمه وإشراق آياته في كل شيء، ثم أورد عليهم قصة أصل البشر وأنهاهم ببيان مصيرهم في دار الجزاء حسبما يكون منهم في دار العمل، فكان جديرا بعد ذلك خطاب بني إسرائيل - وهم طائفة من الناس الذين خوطبوا أولا - لما عندهم من علم الكتاب الذي يميزهم عن سائر الناس ويمكنهم من التفرقة بين الحق والباطل، والتمييز بين الهدى والضلال، فهم بموجب ذلك أحرى بأن يسبقوا إلى الإِيمان وأن يذعنوا للحق، ولأن الله نشر فيهم من الهدى وبسط عليهم من النعمة ما لم يكن في غيرهم، فقد تتابعت فيهم الرسالات وتعاقبت بينهم النبوات، وكل ذلك يحفز أولي الفكر الثاقب والبصائر النيرة إلى الإِيمان والطاعة.
وذهب صاحب المنار إلى أن هذا الكلام لا يزال في الكتاب، وكونه لا ريب فيه، وبيان أحوال الناس وأصنافهم في أمره، وبنى ذلك على أن التفنن في مسائل مختلفة منتظمة في سلك موضوع واحد هو من أنواع بلاغة القرآن وخصائصه المدهشة التي لم تسبق لبليغ، ولن يبلغ شأوه فيها بليغ، وخلاصة القول أنه تعالى ذكر الكتاب ووصفه أنه لا ريب فيه، ثم ذكر اختلاف الناس فيه، فابتدأ بالمستعدين للإِيمان، المنتظرين للهدى الذي يضيء نوره منه، وثنى بالمؤمنين، وثلث بالكافرين، وقفى عليهم بالمنافقين، ثم ضرب الأمثال لهذا الصنف الأخير، ثم طالب الناس كلهم بعبادته، ثم أقام البرهان على كون الكتاب منزلا من عند الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم، ثم حذر وأنذر، وبشر ووعد، ثم ذكر المثل والقدوة وهو الرسول، وذكر اختلاف الناس فيه كما ذكر اختلافهم في الكتاب، ثم حاجَّ الكافرين، وجاءهم بأنصع البراهين وهو إحياؤهم مرتين، وإماتتهم مرتين، وخلق السماوات والأرض بمنافعهن، ثم ذكر خلق الإِنسان وبين أطواره، ثم طفق يخاطب الأمم والشعوب الموجودة في البلاد التي ظهرت فيها النبوة تفصيلا، فبدأ في هذه الآيات بذكر اليهود للمزايا التي كانوا مختصين بها، والكلام لم يخرج بهذا التنويع عن انتظامه في سلكه وحسن اتساقه في سبكه، فهو دائر على قطب واحد في فلكه، وهو الكتاب، والمرسل به، وحاله مع المرسل إليهم.
وفي خطابهم ببني اسرائيل - مع إمكان خطابهم بغيره من الأسماء والألقاب - ما علمتم من بعث عزائم الخير في نفوسهم لو كانوا لذلك أهلا لأن من شأن الإِنسان الرغبة في أن يحذو حِذو أبيه فيما كان عليه من مجد وخير، ففي مواطن القتال يُثار حماس المقاتلين بتذكيرهم ببطولات آبائهم الماضين، وفي مقام البذل والعطاء يذكر أصحاب الكرم بأيادي آبائهم الأسخياء فينادون منسوبين إليهم، وهكذا في مقام الدعوة إلى الخير والنداء إلى البر يحسن تذكير الأخلاف بالأسلاف، ومن وسيلة ذلك نسبتهم إليهم في ندائهم.
والمراد بالنعمة التي أنعم الله بها عليهم جنس النعم، فتدخل فيها أصناف الأيادي التي بسطها الله لهم، ونعمه تعالى أكثر من أن تحصى، منها ما هو مشترك بين بني اسرائيل وغيرهم من الناس، ومنها ما هو خاص بهم، ومنها ما هو خاص بغيرهم، والجنسية مستفادة من الإِضافة لأنها تأتي لما تأتي له "أل" من المعاني.
والنعم المشتركة ما بينهم وسائر الناس هي خلقهم وخلق أصولهم، وخلق الأرض ومنافعها لهم، وتسخير ما في السماوات لأجلهم، وإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم لتتبين لهم مسالك الرشد، وليحذروا طرائق الضلال، إلى غيرها من سائر النعم التي لم يخص الله بها طائفة دون أخرى من الناس، وأما النعم الخاصة ببني إسرائيل فهي إنجاؤهم من فرعون وآله بعدما كانوا يسثومونهم سوء العذاب، ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وفلق البحر لهم لينجوا من شر عدوهم فرعون، وإهلاكه وقومه بإغراقهم في البحر، وكثرة الأنبياء فيهم، وتظليل الغمام لهم، وإنزال المن والسلوى عليهم إلى غيرها من النعم التي ذُكرت في هذه السورة وفي غيرها.
وفي تذكير بني اسرائيل بنعمة الله التي أنعمها عليهم - مع كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير حق، وإشاعتهم الفساد في الأرض - دليل على صحة قول المعتزلة ومن وافقهم كالباقلاني والرازي من الأشاعرة على أن نعمة الله غير محصورة في المؤمنين، وهذا الرأي الذي اعتمدته في تفسير الفاتحة الشريفة مع ذكر أدلته وأدلة الرأي الآخر، وحسبكم شاهدا على صحته هذا الامتنان وقوله تعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً } [إبراهيم: 28] وقوله: { { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } [النحل: 112]، وتذكير الله للأمم العاتية كقوم نوح وعاد وثمود بما آتاهم من نعمه.
ولما كانت النعمة داعية إلى وفاء المنعم عليه لمن أنعم بها قرن الله تعالى بين تذكيرهم بالنعمة ومطالبتهم بأن يفوا بعهده، وبنو إسرائيل مشتركون مع سائر الناس في العهد العام الذي يدل عليه قوله تعالى:
{ { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 38-39].
ولهم عهود خاصة ذكرها الله تعالى في العديد من آي الكتاب، منها قوله:
{ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 63]، وقوله: { { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [البقرة: 83-84]، وقوله: { { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [المائدة: 12].
وذكر بعضهم أن العهود ثلاثة عهد أخذه الله على جميع بني آدم، وهو العهد الفطري المراد بقوله:
{ { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172]، وعهد أخذه على الأنبياء وأممهم لهم فيه تبع وهو الذي دل عليه قوله: { { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } [آل عمران: 81]، وعهد آخذه الله على العلماء، وهو الذي دل عليه قوله: { { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران: 187]، وبنو إسرائيل داخلون في هذه العهود الثلاثة، فهم من بني آدم الذين أُخذ عليهم العهد الفطري، ويدخلون في عهد النبيين لأن الأمم تبع لأنبيائها فيه، وهم من ضمن الذين أوتوا الكتاب، وقد كان بينهم كثير من الأحبار الذي لا مناص لهم عن تبيينه إلا بمخالفة أمر الله وقطع عهده.
وقد رويت عن السلف روايات شتى في تفسير عهد الله وعهدهم، والظاهر أنها من باب التمثيل لجنس العهدين، ولا تعد أقوالا مختلفة، وإن ذكرها أبو حيان على أنها أقوال وأوصلها إلى أربعة وعشرين قولا، منها ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن عهده ما أمرهم به، وعهدهم ما وعدهم به، وروي عنه أن عهده ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة إلى غيرها من الأقوال التي لا يُعد خلافها أو خلاف أكثرها إلا لفظيا فقط، والصحيح أن عهده تعالى عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه، وعهدهم هو إدخالهم الجنة إن وفوا بذلك، وهذا هو الذي صححه القرطبي وعزاه إلى جمهور العلماء، وهو مشتمل على أكثر الأقوال المروية. ويدل عليه قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [المائدة: 12].
وقد سبق تفسير العهد، وإضافته تصح أن تكون لآخذه ومعطيه، ويحتمل أن تكون كذلك في كلا العهدين في الآية.
وتقديم المعمول على العامل ثم اعادة ضمير المعمول في قوله: { وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } لأجل تأكيد حصر الرهبة في الله وحده بحيث لا يكون غيره مرهوبا عندهم، وذلك من مقتضيات صدق الإِيمان، واستشعار عظمة الخالق تعالى، وأمرهم برهبته سبحانه بعد أمرهم بذكر نعمته والإِيفاء بعهده لأن النفوس مجبولة على التفريط ما لم تراقب بوازع من الإِيمان، ومخافته تعالى هي أجدى ما يزعها عما فيه مضرتها، فهي سور العمل الصالح ووقاية الإِنسان من التردي في المهالك.
مطالبة بني إسرائيل بالإِيمان بالقرآن
ثم أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم، ويراد به القرآن كما يراد بما معهم التوراة والإِنجيل وغيرهما من صحف أنبياء بني إسرائيل، ومن المعروف أنهم شوهوها جميعا بما أضافوه إليها من الأكاذيب وألصقوه بها من التأويلات الفاسدة غير أنهم كانوا لا يزالون يحتفظون بشيء من نصوصها غير محرف ولا مبدل وإن اختلط بالأكاذيب المفتراه التي أدخلوها فيها، ومن ذلك ما دل على توحيد الله عز وجل وعلى التبشير ببعثة خاتم النبيين وعلى مكارم الأخلاق، وقد جاء القرآن الكريم مصدقا لذلك مع تفنيده لكثير من مزاعمهم وتبيينه كثيرا مما أخفوه من محتويات كتبهم، وبشائر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بينة في تلك الصحف رغم ما تراكم عليها من غبار الأباطيل الذي أخذ يستر كثيرا مما فيها من الحقائق بتضاعفه عبر العصور، وسوف أذكر إن شاء الله جانبا من نصوص هذه البشائر في الموضع المناسب من التفسير.
وبعد مطالبتهم بالإِيمان بما أنزل حذرهم من الكفر بقوله: { وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } وذلك لتأكيد هذه المطالبة، فإن مما تقرر عند أكثر الأصوليين أن الأمر المطلق لا يدل على الفور لا على التراخي، وقد يتعلل متعلل إذا ما أمر بأمر لم يقيد بالفورية ولا بزمن معين بأنه سيأتي بالمأمور به ولو بعد حين، فاستؤصلت شبهة الاعتذار عندهم بالنص على نهيهم عن ضد ما أمروا به، والنهي يقتضي الفورية، وعموم الأزمان والأحوال إذ لو أتى المنهى في أي وقت بما نهى عنه لعد ذلك خروجا عن طاعة الناهي وتحديا له، ويبحث هنا في أمرين:
أولهما: أنهم نُهوا أن يكونوا أول كافر به ولم يُنهوا عن مطلق الكفر به، وقد يُظن من ذلك أنهم إذا كانوا مسبوقين بالكفر من قبل غيرهم فهم فيه معذورون.
ثانيهما: أنهم لم يكونوا أول كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فقد سبقهم إلى ذلك كفار العرب من قريش وغيرهم.
وأجيب عنهما بالعديد من الأجوبة، منها: أن المراد بقوله: { وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } تأكيد حثهم على السبق إلى الإِيمان فإن الإِيمان والكفر نقيضان، فإذا لم يكونوا كافرين كانوا مؤمنين، وقد دلت قرائن السياق على أن مطلق الكفر قبيح ولا يصح اقراره خصوصا عند من توفرت لديه دواعي الإِيمان كبني إسرائيل، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب وكانوا يعرفون نعوت النبي الموعود به ويتطلعون إلى بعثته بكل لهفة وشوق، فهم أحق - لما اختصوا به - أن يكونوا سابقين إلى الإِيمان به فور ما يصل اليهم علمه، وهذا من باب ما يسمى بالكناية التلويحية، وذلك لانطواء التركيب على غرضين، النهي عن الكفر والدعوة إلى الإِيمان، إذ الجملة المعطوفة مقررة لمضمون الجملة المعطوفة عليها وهو طلب الإِيمان بجانب مدلوها الصريح وهو النهي عن الكفر.
ومنها أنه يراد به التعريض بكفار قريش وغيرهم ممن بادر الدعوة بالتكذيب، ومعنى ذلك نهيهم أن يكونوا في عدادهم، وسوغ ابن عاشور أن يكون هذا هو مراد الزمخشري في تسويغه كون المعنى "ولا تكونوا مثل أو كافر به". ومنها أنه أريد به النهي عن مبادرتهم بالتكذيب والكفر، لأن الأولية من لوازها السبق إلى الشيء كما في قوله تعالى:
{ { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } [الزخرف: 81] وعليه فالأولية ليست على حقيقتها، ونهيهم عن المبادرة إلى الكفر به يستدعي تأملهم فيه لأنهم لو تأملوه لأدركوا حقه بما سبق عندهم من علم الكتاب.
ومنها أن الأولية على حقيقتها وإنما نهوا أن يكونوا أول من يكفر من أهل الكتاب أو بعد الهجرة، لأن السورة أول ما نزل في المدينة.
وأقوى هذه الأجوبة أولها، ولا بأس بثالثها، لما عهد في الكلام البليغ من استعمال هذا الاسلوب للغرض المشار إليه فيه، والضمير في "به" عائد إلى الموصول في قوله: { مَآ أَنزَلْتُ }، وأجيز عوده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الموصول في قوله: { لِّمَا مَعَكُمْ }، والوجه الأول هو الصحيح لعدم سبق ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الكلام سيق لأجل ما أنزل إليه وهو القرآن لأجل ما معهم، وإن كان كفرهم بهذا المنزل يعد كفرا بما معهم لأنه مصدق له، فمحافظتهم على التصديق بما معهم تقتضي الإِيمان بما أُنزل إليه صلوات الله وسلامه عليه.
وقد سبق ذكر الإِشتراء وإنما يعرض سؤالان في قوله: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }:-
أولهما: أن الأصل في البيع والشراء دخول الباء على الثمن دون المثمن، لأن المثمن هو الغاية والثمن وسيلة إليه، ومن شأن الباء أن تدخل على الآلة، كقول القائل ذبحت بالسكين، وكتبت بالقلم، واشتريت بالدراهم والدنانير.
ثانيهما: تسمية ما يأخذونه في مقابل الآيات ثمنا مع كونه المقصود الحقيقي عندهم، فيناسبه أن يكون مثمنا.
والجواب عن الأول أن ادخال الباء على الآيات لأنهم - لحماقتهم - عدوا الآيات أهون العوضين، فاتخذوها وسيلة لما يطمحون إليه من مكاسب الدنيا، سواء كانت أموالا يقتنونها أو مناصب يتبوأونها، وعن الثاني أن تسمية ما يأخذونه في مقابل الآيات ثمنا للتعريض بهم أنهم مغبونو الصفقة فقد بذلوا النفيس وأخذوا الرخيص، فالمال والجاه ومناصب الدنيا كل منها متاع فان وعارية مستردة، ويشترك فيها الناس أبرارا كانوا أو فجارا، أما آيات الله فهي الكنز الذي لا يفنى والثروة التي لا تبلى إذا ما حوفظ عليها بالإِيمان والعمل، ولذلك وُصف الثمن بالقلة ولا يستدل بذلك على جواز أخذ الثمن الكثير في مقابل آيات الله، أو بجانب نعيم الآخرة، فقد قال أصدق القائلين:
{ { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } [التوبة: 38]، فلو كانت الدنيا تبرا والآخرة ترابا لما كانت الدنيا - مع فنائها - شيئا يذكر بجانب الآخرة، التي لا انصرام لها، فكيف والدنيا نفسها أهون من التراب والآخرة أغلى من التبر.
علماء الأمة أحق بالاتباع
وليس هذا النهي خاصا ببني اسرائيل وإن كان الخطاب موجها إليهم، فعلماء هذه الأمة مطالبون كذلك بأن لا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، بل هم أحق بهذه المطالبة لأنهم شهداء على الناس، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم شهيد عليهم، وقد أكرموا بإنزال الكتاب المعجز الخالد المهيمن على ما قبله من كتاب على نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، فكل منهم ضليع بأمانة هذا الكتاب ومسؤول عن القيام بأدائه رسالته والمحافظة عليه، وأن يكون ذلك خالصا لوجه الله سبحانه، وهو يعني أنهم مطالبون بأن يكونوا مخلصين في العلم والعمل معا، ولا يجتمع ذلك مع اتخاذ الكتاب وما فيه وسيلة لغرض شخصي ومنفعة عاجلة، وقد شدد العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، بل شددوا كذلك في أخذها على تعليم العلم، وعدوا ذلك من اشتراء الثمن القليل بآيات الله، وقد كانت هذه هي طريقة السلف غير أن من جاء بعدهم من الأخلاف رأوا أن هذا التشديد يفضي الى تعطيل تعليم القرآن وتعليم العلم لاستلزامهما تفرغ من يقوم بهما من الأعمال، فلذلك ترخصوا في أخذ الأجرة عليهما بالمعروف. والتشديد أولى في أخذ الأجور على العبادات كالأذان والإِمامة لا سيما الامامة في الفروض، وقد كان السلف حريصين على أن تكون أعمالهم خالصة لوجه الله لا يشوبها قصد منفعة مادية ولا معنوية، وإنما تطلع الناس إلى الدنيا وكثرة اشتغالهم بها وتهاونهم بأمر الدين أفضت بهم إلى عدم المبالاة فتهافتوا على الأجور على العبادات حتى قل من يداوم على الأذان أو الإِمامة من غير أن يكون له على ذلك أجر، وأفضى الحال ببعضهم إلى رفض الإِمامة أو الأذان إذا علم بانقطاع المدد أو لم يكن مستوثقا من استمراره، وهذا إن دل على شيء فإنما دلالته على ضعف الوازع الديني، وانحسار مدّ الإِيمان، فعلى الناس أن يراجعوا نفوسهم ويدركوا أن الدين ليس يصح اتخاذه وسيلة للدنيا، فهو أجلّ من ذلك، بل يجب أن تكون الدنيا سخرة لأجله.
الأمر بالتقوى
واختتمت هذه الآية بأمرهم بالتقوى في قوله: { وَإِيَّايَ فَٱتَّقُونِ } كما اختتمت التي قبلها بقوله: { وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } وليس في ذلك تكرار لأن التقوى وإن استلزمت الرهبة فهي مستلزمة معها تجنب ما يؤدي إلى الأمر المرهوب والإِتيان بما يقي منه إذ الرهبة انفعال نفسي قد لا يصحبه عمل ولا يقترن به ترك بينما التقوى هي اجتناب لمساخط المرهوب بفعل مأموره وترك منهيه، وكل واحد من الفاصلتين أنسب بما تقدمها، ففي الآية السابقة ذُكروا بنعمة الله وطولبوا بأن يفوا بعهده ليفي بعهدهم، وفي هذا ما يدعوا إلى رهبتهم من قطع النعمة عنهم وعدم الوفاء بعهدهم اذا لم يفوا بعهده؛ وأما في هذه الآية فقد طولبوا بالإِيمان وحذروا من الكفر ونهو أن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وذلك يستلزم فعلا وتركا، فكان فصلها بالأمر بالتقوى أنسب.
وقيل إن الخطاب في تلك الآية لعامتهم فلذلك فصلت بالأمر بالرهبة لأنها تكون في العوام كما تكون في الخواص، والخطاب في هذه الآية لخاصتهم وهم العلماء، فلذلك فصلت بالأمر بالتقوى، لأن التقوى لا تكون إلا مع العلم بما يُتقى، وقيل: قُدم الأمر بالرهبة لأنها وسيلة للتقوى، فمخافة الله في النفس طريق إلى اتقائه بإتيان أمره واجتناب نهيه.