التفاسير

< >
عرض

أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٤٤
-البقرة

جواهر التفسير

الخطاب لبني اسرائيل ذكروا نعمة الله عليهم، وطولبوا بالوفاء بعهده، وخوطبوا بما خوطبوا به من الأوامر والنواهي، وهو اعتراض بين سابقه ولاحقه لأنه توبيخ توسط أو امر، ومن دلائل كونه اعتراضا عدم اقترانه بالعاطف كما هو الغالب في الجمل الاعتراضية، وفائدته لفت أنظارهم، وشد انتباههم إلى ما هم متلبسون به من العيوب التي يجدر بمن كان مثلهم - في معرفة الحق والدعوة إليه وتلاوة الكتاب - أن يكون أنأى عنها وأحذر، وهو من دواعي تدارك الأمر بامتثال ما وُجه إليهم من الأوامر، واجتناب ما خوطبوا به من النواهي لتكفير سيئاتهم؛ وتغطية سوآتهم، وبهذا تتضح مناسبة الآية لما قبلها.
والاستفهام إنكاري يتضمن التعجيب.
ولفظة البر دالة على السعة وضعا كالبَرِّ - بالفتح - وتستعمل في توسعة الخلق والإِحسان في المعاملة، ومفهومها الشرعي يرادف التقوى بدليل قوله تعالى:
{ { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ } [البقرة: 189]، وقوله بعد ذكر خصال البر: { { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [البقرة: 177]، فتندرج تحته العقيدة الناصعة، والأعمال الصالحة، سواء كانت من شعائر الله، أو المعاملات الأسرية أو الاجتماعية، أو الأحوال النفسية كما هو واضح في قوله عز من قائل: { { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } [البقرة: 177]، وأحسن ما يقال إن البر شامل لكل ما فيه خير للإِنسان عاجلا أو آجلا.
والنسيان خلو الذهب من أمر بعد الإِلمام به، فمن لم يعرف شيئا من قبل لا يوصف بأنه ناسيه، ويطلق على الترك إطلاقا مجازيا لما فيه من إهمال المتروك كما هو الشأن في الناسي والمنسي، وعلى ذلك تحمل الآية كما يحمل قوله تعالى:
{ { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]، فهؤلاء اشتغلوا بغيرهم فأمروه بالبر وأهملوا أنفسهم إذ لم يحملوها عليه.
وسوغ ابن عاشور أن يكون النسيان هنا حقيقيا لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا الى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم، أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه، وقد يرى الإِنسان عيب غيب لأنه يشاهده، ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها، ولأن العادة تنسيه حاله، ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس.
والأنفس جمع نفس وهي ذات الشيء وحقيقته، وتطلق على الروح كما في قوله تعالى:
{ { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [الزمر: 42]، كما تطلق على الدم، ومنه قول الفقهاء: "كل ميتة ذات نفس سائلة نجسة"، وحُمل عليه قول الشاعر:

تسيل على حد الظبات نفوسنا وليس على غير الظبات تسيل

والأقرب أن تكون النفوس في البيت بمعنى الأرواح، وسيلانها هو خروجها.
واختلف في البر الذي كانوا يأمرون به الناس وينسون أنفسهم، وقد رُويت عن السلف في ذلك أقوال منها ما أخرجه الثعلبي والواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين أثبت على الدين الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلون، وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن اسحاق قال تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي، وروى عنه ابن جرير وأيضا أنه قال في هذه الآية أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في هذه الآية هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، وعن السُّدى أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وتقواه وينسون أنفسهم، وروى معنى ذلك عن قتادة، وقيل كانوا يأمرون بالصدقات ولا يتصدقون، وثم آراء أخرى، وهي كلها لا تخرج عن التمثيل حسب الظاهر لصدق معنى البر عليها جميعا، والأظهر أنهم كانوا يدعون إلى جميع ما تقتضيه الأوامر السابقة من ذكر نعمة الله والوفاء بعهده...الخ، وعليه فالخطاب خاص بأحبارهم وإن كان ما قبله شاملا لعامتهم لأن الخطاب العام قد يوجه إلى الجميع ثم يندرج فيه ما هو خاص بفريق منهم، وعلى هذا فالناس المأمورون هم سائرهم، ويجوز أن يكون الخطاب شاملا لجميع بني إسرائيل إذ لا يبعد من عامتهم أن يكونوا يأمرون غير بني جنسهم بشيء من البر مع إهمال أنفسهم فإنهم - وإن أوغلوا في الجهل - يدرون من صنوف البر ما لا يدريه غيرهم من أهل الجاهلية بسبب مخالطتهم للأحبار، وسماعهم منهم المواعظ والدروس، وعليه فالناس مشركوا العرب أو من عدا الآمر كما يقال قم فقد قام الناس.
وهذا التوبيخ الذي يشامله التعجيب من شأنهم إن دل على شيء فإنما يدل على ما وصلوا إليه من الاستخفاف بما أوتوه من العلم، وحُمِّلوه من الأمانة، وأورثوه من الكتاب، فقد نأوا بأنفسهم عن تعاليمه وإن دعوا إلى ذلك غيرهم كأنهم غير محاسبين بما فيه ولا مسؤولين عن تهذيب أنفسهم وتربية عقولهم ووجدانهم بهداه، وهذا الذي أدى بهم الى اتخاذ ما لديهم من علم الكتاب سلما للترقي الى المناصب، ووسيلة لكسب الحطام.
تبصير العلماء بمسالك السلام والخطر
وهذا التوبيخ وإن يكن خاصا ببني إسرائيل إذا ما اقتصر على النظر إلى ألفاظه فهو شامل من حيث المعنى لكل من مشى على نهجهم واقتفى أثرهم، فعلماء هذه الأمة غير مبرئين منه إذا لم يصونوا نفوسهم عن الأسباب التي استوجب بها بنو إسرائيل هذا التقريع، والقرآن الكريم أنزله الله ذكرا للعالمين وهدى للناس أجمعين، ففي كل ما يحكيه عن الأمم، وما يقصه من أحوالهم عظة بالغة، وعبرة نافعة لأولي الألباب إذ ليس المقصود من هذا التقريع أو نحوه مما يوجهه إلى أي طائفة من الناس هجاء تلك الطائفة، وإنما مقصوده تبصير الكل بمسالك السلامة والخطر، وطرائق الهدى والضلال.
وما أكثر علماء السوء وأحبار الضلال في هذه الأمة، وما أعظم بلاءهم وأشد فتنتهم على الناس، فهم يتقمصون الدين لأجل أن يأكلوا به أموال الناس، ويرتقوا على أكتافهم إلى المناصب التي يتطلعون إليها، يأمرون الناس بالخير ولا يأتمرون، وينهونهم عن الشر ولا ينتهون، يتباكون في مواعظهم ولا يبكون، كل همهم جمع حطام الدنيا ونيل ما يشتهونه من ملذاتها، والارتقاء إلى أوج مناصبها ليست في نفوسهم على حرمات الله غيرة، ولا لدينه حمية، يتجاذبون الدنيا كما تتجاذب الكلاب الجيف، ويغار بعضهم من بعض إذا نال منها نيلا كما تغار الضرة من ضرتها إذا استأثرت عليها بمودة الزوج أو عطائه، ويتقربون إلى الحكام بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، وإبطال الحق، وإحقاق الباطل، تتقلب فتاواهم بين عشية وضحاها بحسب ما يملي عليهم الهوى، ويقتضيه رضى ساداتهم الذين يؤثرون طاعتهم على طاعة الله.
وإن دعوا يوما الى الحق أو أرشدوا إلى الهدى ناقضت أعمالهم أقوالهم، وكذبت أحوالهم دعوتهم، ورأى الناس فجوة سحيقة بين ما هم فيه وما يدعون إليه، فبقوا حائرين بين اتباع القول أو الاقتداء بالعمل، فلا تلبث دعوتهم أن تتطاير هباء في الفضاء، ولا يكون لها أي أثر في نفوس ساميعها، بل كثيرا ما تكون دعوة هؤلاء الحق الى الحق أعمل المعاول في هدم صرحه لأن الفجوة بين القول والعمل تجعل الناس يستخفون بالدعوة من اساسها إذ لا تقف سخريتهم عند الداعية بل تتجاوزه إلى ما يدعو إليه فيصبح أثر دعوته عكسيا، فلربما ظن الناس أنه لم يرد بدعوته إلا شغلهم بما يأمرهم به والاستئثار بما ينهاهم عنه، كما لو نهى عن أكل الربا وكان آكله، أو حذرهم من الرشوة وعُرف عنه الارتشاء، أو حض على ملازمة الجماعة وهو لا يأتي المساجد.
أما الدعوة النافعة التي تحول الناس من الضلال الى الهدى ومن الفساد إلى الصلاح، فهي الدعوة التي يصدقها فعل الداعية، ويترجمها واقعه، ويزكيها إخلاصه، واذا لم يتفاعل الداعية مع دعوته فكيف يتفاعل معها غيره؟ وهل أمكن لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أن يخرجوا الأمم الضالة الحائرة في أرجاء الأرض مما كانت فيه وعليه من الغي والإِنحراف والفساد والظلمات، الى الرشد والاستقامة والصلاح والنور - في ذلك العصر الذي لم تكن توجد فيه وسائل إعلام ولا دور نشر - إلا بتجسيد ما كانوا يدعون إليه من الحق، ويبينونه من الهدى في واقع أنفسهم بحيث كانوا صورة حية ومثالا واقعيا للإِيمان العميق والإِسلام الخالص، وبهذا أخذ الناس يتسابقون إلى تلبية هذا النداء، واتباع هذه الحق.
لقد خبر أولئك الصحابة رضوان الله عليهم ومن كان على هديهم الدعوة فعرفوا أنها دين وعقيدة وتضحية وفداء وبذل وعطاء، ليست حرفة ولا صناعة، فبذلوا كل ما في وسعهم من جهد مال ووقت في سبيلها، وكانوا أحرص ما يكونون على دعوة أنفسهم أولا، فلم يكونوا يتساهلون فيها أو يتهاونون في محاسبتها.
وقد أدركوا قيمة الدعوة من خلال معرفتهم بقيمة ما يدعون إليه، والهدف المنشود منها، فرأوا الحياة بجانبها رخيصة، فلم يكن أحدهم يتردد في التضحية بحياته من أجلها، وقد سجل لنا التاريخ من مآثرها التابعين وتابعيهم - بله الصحابة - ما تتطأطأ أمامه الرؤوس وتخضع الرقاب، وتمتلئ به النفوس إعجابا كقصة سلمة بن سعد رضي الله عنه الذي خرج من موطنه بجنوبي الجزيرة العربية ليلتحق بمدرسة جابر وأبي عبيدة بالبصرة، وعندما عرض عليه أبو عبيدة -رحمه الله - الاتجاه نحو بلاد المغرب لنشر دعوة الحق لم يتردد في الاستجابة لذلك بل قال قولته المشهورة: "وددت لو ظهر هذا الأمر يوما واحدا بالمغرب ثم لا أبالي أن تضرب عنقي"، ولم تكن هذه القولة مجرد كلمات يثرثر بها اللسان ولكنها كانت عقيدة راسخة متمكنة في نفسه وشعورا عميقا ينبض به قلبه، وقد صدقها عمله إذ خرج بين رصد عملاء بني أمية وتحت ضغط إرهابهم الرهيب، وما كاد يطأ تراب المغرب الأدنى حتى أخذ يغشى مجتمعات أقوام لا يعرف لغتهم، ولا يتصور عاداتهم يبث بينهم دعوة الحق ويشرح لهم حقيقة الإِسلام، وأخذ يواصل سيره مضطلعا بهذه المهمة إلى أن وصل إلى المغرب الأقصى.
إن هذا المنهج هو منهج رجال الدعوة وحملة الرسالة الذين لا يجعلون من دعوتهم فخا يصطادون به المال، ولا سلما يرقون عليه إلى المناصب.
أما الدعاة الذين لا يهمهم من الدعوة إلى ما يكسبونه من المال وينالونه من الجاه، فهم أحرى بالمثل الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه عنه الخطيب والطبراني من طريق جندب ابن عبدالله رضي الله عنه
"مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" وضرب قطب الأئمة -رحمه الله - في هيميان الزاد لهؤلاء أمثالا عدة منها أنهم كمن يشفق على غيره أن يسقط في هوة أو يقع في نار ويغفل عن نفسه وهو مشرف على ذلك. ومثلهم صاحب المنار برجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام، وكلما لقى في طريقه شخصا نصح له أن لا يمشي معه وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه، وساغب يدعو الناس إلى المائدة الشهية ويبيت على الجوع والطوى، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم.
وإذا كان الباعث على دعوة الغير إلى الخير النصح له والإِشفاق عليه فإن نفس الإِنسان أولى بالنصح والإِشفاق، فمن لم يبر نفسه لن يَبِّر غيره، وكما جاء النعي على هذه الحالة في خطاب بني إسرائيل جاء في خطاب المؤمنين، فقد قال تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 2-3]، وفي قوله شعيب لقومه: { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ } [هود: 88] دليل على أن النصح القولي وإن بلغ غايته إذا لم يصدقه العمل ليس من الإِصلاح في شيء.
هذا وقد جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد البالغ على هذه الحالة الممقوتة ما فيه عظة لأولي الألباب من ذلك ما أخرجه أحمد والشيخان من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار، فيقولون يا فلان مالك؟ ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه" وأخرج أحمد، وابن أبي شيبه، وابن المنذر، وعبد بن حميد والبزار، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي، وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت لية أُسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار - قال - قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" وروي أنه يطَّلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم بم دخلتم النار وإنما دخلنا بتعليمكم؟ فيجيبونهم: إنا كنا نأمركم ولا نفعل.
وأخرج ابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاءه فقال: يا ابن عباس إن أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل: { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني قوله تعالى: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث قول العبد الصالح شعيب: "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه" أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك. وهو يعني أن يجاهد العبد نفسه أولا فيقّوم اعوجاجها ويصفي كدرها، ثم ينثني إلى غيره، وإلا كان كما قال الشاعر:

وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع

وما أروع قول أبي الأسود الدؤلي:

يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم
وأراك تلقح بالرشاد عقولنا أبدا وأنت من الرشاد عقيم
ابدأ بنفسك وانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهنالك يسمع ما تقول ويُهتدى بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

وروى عن أحد الزهاد أنه قعد مقعد التذكير فأحجم عن الكلام، فقال له أحد المنصتين إليه ترى أن تقول في سكوتك شيئا؟ فأنشد:

وغير تقى يأمر بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض

فما كاد من حوله يسمعون هذا البيت حتى ارتفعت أصواتهم بالبكاء لتأثير موعظته على نفوسهم.
وهذا التوبيخ لا يعني أن الفاجر غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهما فرضان لا يسقطهما الفجور، وقد وهم من زعم أن الفاجر ليس له أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، فإن فجوره لا يسقط عنه واجبا، ولا يمنعه من احسان، وقد أجاد سعيد بن جبير في قوله: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن المنكر.
ومحل الاستنكار والتوبيخ في الآية هو نسيان أنفسهم مما يأمرون به غيرهم، وليس أمرهم الناس بالبر وإنما مثلها قول القائل: أتعرف الله وتعصيه؟ أو أتصوم ولا تصلي؟ فإن الإِنكار واقع على المعصية، وترك الصلاة دون معرفة الله والصوم. وقد أجاد ابن عاشور في قوله:
"ليس المقصود نهي ولا تحريم، ويدل لذلك أنه قال في تذييلها { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ولم يقل أفلا تتقون أو نحوه".
وإنما كانت هذه الحالة فظيعة - وان كان إهمال الإِنسان نفسه من عمل البر مذموما ولو لم يأمر به غيره - لأن أمر غيره به دليل انتباهه له ومعرفته بجدواه، ويلام العالم ما لا يلام الجاهل ويعنف الذاكر ما لا يعنف الغافل، وبهذا يتضح لك أن الواو في "وتنسون أنفسكم" للحال، كما يتضح لك بُعد تجويز ابن عاشور أن تكون عاطفة وأن يكون معطوفها - وهو "تنسون أنفسكم" - هو المقصود من التوبيخ والتعجيب، والمعطوف عليه - وهو { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ } - تمهيدا لها على معنى أن محل الفظاعة الموجبة للنهي هي مجموع الأمرين.
وإذا كان محط الإِنكار والتعجيب قوله: { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } فإن في قوله: { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } إضافة توبيخ الى توبيخ لأن الجدير بمن تلا كتاب الله فميز بنوره بين الحق والباطل، والرشد والضلال، أن يكون أسرع إلى الإِستفادة بما فيه من خير، والاستنارة بما يحويه من الهدى، وذلك باتباع أوامره، والكف عن زواجره، والوقوف عند الحدود التي رسمها.
والتلاوة القراءة مأخوذة من تلا يتلو تلوا بمعنى تبع، وذلك أن التالي للكتاب يتبع آخره إثر أوله حتى يأتي على حروفه وكلماته فيستجمع ما فيه من المعاني، والمراد بالكتاب هنا التوراة التي حُملوها فلم يحملوها، أي لم يأتمروا بأمرها، فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا، ومن عدم إتمارهم بما فيها إعراضهم عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم مع ما يتلونه في الكتاب من نعوته وأخباره.
وفي هذا التوبيخ تنبيه إلى أن التلاوة اللسانية إن لم يصحبها التأثير النفسي الذي يصدر عنه العمل بموجب ما يتلى ليست من ورائها جدوى إذ كل ما أنزله الله من كتاب إنما أنزله ليكون هدى للناس يقتادهم إلى صراط الله العزيز الحميد، فقرّاء القرآن من هذه الأمة الذين يقتصرون في تلاوتهم على تحسين الأنغام وتجويد الحروف - مع نسيانهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وإرشاداته - مندرجون فيمن يصدق عليهم هذا التقريع والإِنكار.
وقوله: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } تقريع آخر لأن من شأن العقل تبصرة صاحبه بما ينفع وما يضر، وما يحمد وما يذم، والعاقل يشفق على نفسه من كل ما يرديها فلا ينساها مما يأمر به غيرها من الصلاح والرشاد.
وأصل العقل الحبس، ومنه عقال البعير لأنه يعقله - أي يحبسه - عن الإِنطلاق، وسمي به هذا النور الروحاني الذي أودعه الله في الإِنسان فرفع به قدره، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا لأنه يعقل صاحبه عما فيه مضرته الحسية والمعنوية، ولولاه لكان الإِنسان - لطغيان شهواته وتأجج غرائزه - أسوأ من السباع الفتاكة، وإنما جعله الله قيدا لما في الإِنسان من طبائع مردية وقوى ذات خطر على صاحبها وعلى جنسه، فإذا ما استخدم العقل تحولت هذه الطبائع والقوى من الضر إلى النفع، ومن التدمير إلى التعمير، والنفس الإِنسانية ذات مطامح شتى، فهي تطمح بطبعها الى وفرة المال، وقوة السطان والعلو على الغير، فلولا كفكفة العقل لها لسعت في الأرض فسادا، وأهلكت الحرث والنسل لأجل إشباع رغبتها وتوفير مطالبها، فإن العاقل عندما يحس بما يترتب على إيثار هوى النفس من مخاطر شخصية واجتماعية، وعواقب سيئة دنيوية وأخروية يركن إلى السلامة، ويميل إلى الموادعة.
وقد كان لهؤلاء المخاطبين من العقل ما يمكنهم به زجر أنفسهم عن الهوى، وردعها عن الفساد، غير أن عقولهم لم تقترن بتوفيق الله فآثروا ما يظنونه مصلحة ويتوهمونه منفعة على أوامر الله تعالى مع قيام حجة الحق عليهم بما أودعوه من عقل وأوتوه من كتاب، ولو لم تكن لهم عقول لما كان لتكليفهم معنى، ولا للإِنكار عليهم موضع فإن خطاب الله مرفوع عن غير العقلاء.
أما ما حكاه الله عن أهل النار من قولهم:
{ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الملك: 10] فهو محمول على العقل الهادي إلى الحق، ويدل عليه اقترانه بالسمع في النفي مع أنهم كانوا ذوي سمع في الدنيا.