التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
٥٣
-البقرة

جواهر التفسير

في هذه الآية تذكير لبني إسرائيل بنعمة سابغة تُعد أكبر نعمة بسطها الله لهم وأنعم بها عليهم لما فيها من صلاح الدين والدنيا وقوام أمر الفرد والمجتمع، وهي نعمة إنزال التوراة عليهم لتكون لهم هدى ونورا، تنتظم شمل جماعتهم، ويحتكمون اليها في منازعاتهم، ويستمدون منها الرشد والصلاح فيما يتعلق بالمعاش والمعاد، وحقيق أن تكون التوراة أكبر النعم التي أوتيها بنو إسرائيل، إذ لا يعرف في الكتب السماوية مما نزل قبلها أو بعدها ما هو أجمع منها حكما، وأوسع منها علما، وأعم منها نورا، إلا القرآن الذي أنزل الله هدى وذكرا للعالمين، فهيمن على كل ما أُنزل قبله، والامتنان بإنزال الكتاب على موسى لهداية قومه ذُكر هنا في معرض تعداد النعم المختلفة التي أسبغها الله عليهم لأنه حلقة من حلقات سلسلتها الطويلة، ولم يختلف المفسرون في كون المقصود بالكتاب التوراة الهادية الى أمر الله، والتي تعاقب عدد من النبيين على تجديد إبلاغ رسالتها، والحكم بمضمونها، كما قال تعالى: { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ }، وهي التي جعلتها بنو إسرائيل أعظم مفاخرهم التي يتطاولون بها على سائر الشعوب والأمم، وإنما اختلف أهل التفسير في المراد بالفرقان على مذاهب أنهاها أبو حيان في "البحر" إلى اثني عشر مذهبا، منها: أنه نفس التوراة وإنما أعيد ذكرها باسم آخر اعتبارا لمنشأ التسميتين، فهي كتاب باعتبارها مجموعة مكتوبة، وفرقان باعتبارها فارقة - أي مميزة - بين الحق والباطل، وهو قول الزجاج، واختاره الزمخشري، وبدأ بذكره ابن عطية، وعليه فالعطف للتغاير الحاصل بين مدلول الاسمين وإن كان مسماهما واحدا، واستدل لهذا القول بقول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

ورُدَّ بأن البيت فيه عطف صفات على صفة واحدة، وهي القرم مع وحدة الموصوف وهو الملك، فلا يجوز تخريج الآية عليه لما بينهما من الفارق، وأقرب من هذا البيت إلى الاستدلال لهذا القول قول الشاعر:

فألفى قولها كذبا ومينا...

غير أنه يمتنع تخريج الآية عليه كذلك، لأن القرآن الكريم بلغ من فصاحة القول وبلاغة الكلام ما لم يبلغه شعر ولا نثر، فمن المستحيل أن يعطف فيه لفظ على آخر من غير اشتمال هذا العطف على فائدة لا تحصل دونه، والكذب والمين معناهما واحد، فجمعهما في البيت لا يعدو أن يكون حشوا لا يجوز إلصاقه بالتنزيل، وللشعراء مذاهب يتوسعون فيها بما لا يجوز نحوه في المنثور البليغ محافظة منهم على روى الشعر ووزنه، ومثل ذلك لا يجوز تخريج الأسلوب القرآني عليه.
ومنها أنه هو النصر لأن الله سمى يوم بدر "يوم الفرقان"، وفي معناه قول من قال إنه الفرج، واستدل لذلك بقوله تعالى:
{ { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [الأنفال: 29].
ومنها أنه فرق البحر واعترض بأنه سبق ذكره فلا داعي لإِعادته ورد هذا الاعتراض بأن ذكره السابق كان في معرض الامتنان على بني اسرائيل بإنجائهم من فرعون وآله، وهو هنا في معرض الحديث عن الآيات التي أوتيها موسى عليه السلام.
ومنها أنه الآيات الخارقة التي كانت لموسى من العصى واليد وغيرهما لأنها فرقت بين الحق والباطل.
ومنها أنه القرآن لأن الله سماه الفرقان، وعليه فإما أن يكون المراد بإيتائه موسى إيتاءه ذكر نزوله على محمد صلى الله عليه وسلم حتى آمن به، وهو الذي حكاه ابن الأنباري، وإما أن يخرج الكلام على تقدير محذوف أي ومحمدا الفرقان، وهو محكي عن الفراء وقطرب وثعلب، وضعف هذا القول بكلا فرعيه أظهر من أن يحتاج إلى بيان، فإن من أوتي ذكر شيء لا يعد مؤتى ذلك الشيء بعينه، وإلا لكان كل شقي وسعيد أوتوا الجنة لأنهم قد أوتوا ذكرها فيما أنزله الله من وحيه، وفيما تتناقله الألسن عن النبيين، وتخريج الفرع الثاني من هذا القول على قول الشاعر:

................. وزججن الحواجب والعيونا

غير مسلّم لأن جواز ذلك مشروط بوجود ما يدل على المراد من القرائن، كما في البيت إذ العيون لا تزجج بل تكحل ففهم منه أن فيه لفظا منويا تقديره (وكحلن العيونا) وليست في الآية قرينة يفهم منها هذا المعنى على أن لفظ الفرقان غير محصور في القرآن كما تبين، وقد قال عز من قائل: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ }.
والظاهر أن المراد بالفرقان ما احتواه الكتاب نفسه من أحكام ومراشد مفرقة بين الحلال والحرام، وبين الحق والباطل، وهذا الذي اعتمده قطب الأئمة في الهيميان، والإِمام محمد عبده في المنار، وجعله القطب -رحمه الله - من باب أعجبني زيد وحسنه، فإن الحسن مما اشتمل عليه زيد المعطوف عليه، وكذا الكتاب مشتمل على الفرقان المميز ويستأنس لهذا القول بما ذيلت به الآية وهو قوله: { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }، فإن ما في تضاعيف الكتاب من أحكام وحكم، ووعد ووعيد، وحجج وبراهين هو السبب للهداية المشار اليها، ومثل هذا مثل قوله تعالى في القرآن:
{ { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2]، فإن احتواء القرآن على الحجج الناصعة، والأحكام البينة، والمعجزة الباهرة هو باب هدايته للمتقين، وكتب الله جميعا أنزلت لهذا الغرض، فهي ينابيع الهدى ومشارق الأنوار، ومصادر الأحكام، وسفن نجاة الناس من مخاطر تيارات الحياة المضطربة.