التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٨
فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
٥٩
-البقرة

جواهر التفسير

هذا تذكير بنعمة كفروها فعادت عليهم محنة وبلاء بعدما كانت يسرا وعطاء، وهكذا تنقلب النعمة إذا لم تشكر، وقد أجملت هذه القصة في هاتين الآيتين كما أجملت في أيتي (161، 162) من سورة الأعراف لأنها كانت معلومة للمخاطبين، فلم يكن داع لشرحها لأن المقصود مجرد تذكيرهم بها، وفي هذا الإِجمال ما يكفي لأن يكون عبرة للمعتبرين.
ولم يتحد التعبير عنها هنا وفي سورة الأعراف، بل تجد تفاوتا في الموضعين في الترتيب، واختلافا في الألفاظ، وذلك لما سأبينه إن شاء الله هناك.
والقرية هي الأرض العامرة بالسكان المستقرة بأهلها، مأخوذة من قريت الماء بمعنى جمعته في الحوض، وسميت بذلك لجمعها بيوتا وأسواقا ومعابد ومصانع، وغيرها، من المباني التي تعد من معالم الحضارة، وضرورات المدنية، وفي هذا ما يدل على أن اسم القرية غير خاص بالمجامع الصغيرة للناس، بل يطلق عليها وعلى المدن ذات العمران الواسع، وما تعورف عليه من التفرقة بين المدينة والقرية بأن الأولى هي المجمع الواسع الذي يضم عددا أكبر من السكان ودورا أوسع في العمران، والثانية ما كان على العكس من ذلك هو اصطلاح ناشئ لا تحمل عليه عبارات القرآن، بل استعمال القرآن يدل على خلاف ذلك، فإن الله سبحانه عندما يذكر أهل القرى يريد بهم أولئك الجبارين الذين استعلوا على الخلق، وأنفوا من الحق، وكذبوا الرسل، وعاثوا في الأرض فسادا، وأذلوا الناس بالقهر، وقد وصفهم عموما بأنهم كانت لهم حضارات راقية، وقوى مكينة واسعة، فاسمعوا إن شئتم إلى قوله:
{ { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } [الأنعام: 6]، وقوله: { { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } [الروم: 9]؛ وتجدون فيما وصف الله به عادا وثمود وقوم فرعون وغيرهم ما يدلكم على أنهم كانت لهم مدن واسعة مغرية بسعة عمرانها وكثرة سكانها، ومع ذلك فقد سماهم الله أهل القرى في مواضع من كتابه كالذي تجدونه في سورة هود بعد أن قص الله نبأ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وأصحاب مدين وقوم لوط وفرعون وآله حيث قال: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } [هود: 100]، وقال: { { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [هود: 102]، وحكى الله عن أبناء يعقوب قولهم: { { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } [يوسف: 82]، مع العلم بأنهم كانوا في بلدة، جمعت فيها خزائن الأرض، والتقت فيها القوافل، وتزاحمت بها الأقدام، وهذا مالا يكون عادة إلا في المدن الكبرى التي اصطلحوا على تسميتها عواصم وحكى عن المشركين قولهم: { { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] ومرادهم مكة والطائف، وكلتا البلدتين كانتا من البلدان العربية المتسعة العمران.
واختلف في هذه القرية، فقيل: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة والسدي والربيع أخرجه عنهم ابن جرير، واستُدل له بقول الله تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام:
{ { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 21]، وتُعِّقب بأنهم لم يدخلوا الأرض المقدسة في أيام موسى عليه السلام لأن موسى مات في التيه وقد افتتحوها بعدما خرجوا منه بقيادة خليفته يوشع بن نون عليهما السلام، ورُد بأن قائل "ادخلوا القرية" مبهم فلا يلزم أن يكون موسى، ولا مانع أن يكون يوشع.
وهذا الرد مردود بما في سورة المائدة، فإن الآية قبل قوله:
{ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ... } الخ [المائدة: 21] صريحة بأن قائل ذلك موسى عليه السلام، وذلك قوله سبحانه: { { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ... } الخ [المائدة: 20]، وكذا المحكي عنهم من جوابهم له وهو قولهم: { { يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ... } الخ [المائدة: 22]، فلا يستقيم تفسير القرية بالأرض المقدسة إلا مع القول بأن موسى هو قائل ذلك لهم، اللهم إلا أن يقال إن القصة المحكية هنا وفي سورة الأعراف غير المحكية في سورة المائدة وذلك أن ما في سورة المائدة كان قبل معاقبتهم بالتيه بل كانت تلك المعاندة منهم هي سبب وقوعهم فيه كما هو واضح من قوله تعالى ردا على شكوى موسى: { { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } [المائدة: 26]، أما هذه القصة فهي قصة دخولهم الأرض المقدسة بعد مقاتلهم للجبارين في عهد يوشع عليه السلام، وذلك بعد خروجهم من التيه، وكان هذا الأمر على لسان يوشع، وهذا هو الذي يتعين في الجمع بين شتات هذه المحكيات.
وقيل هي أريحاء، وهي قريبة من بيت المقدس، روى ذلك ابن جرير عن ابن زيد، وبه صدر القطب -رحمه الله - في هيميانه وتيسيره، وذهب بعضهم إلى أن هذا الأمر نفسه كان على لسان موسى، وأنه عين ما ذكر في سورة المائدة وأن مخالفتهم له هي المقصودة بالتبديل، وقيل: إن المراد بالقرية الشام كله، وهو قول ابن كيسان، وقال الضحاك هي الرملة، والأردن، وفلسطين، وتدمر.
وذهب الامام ابن عاشور إلى أن القرية هي مدينة حبرون، وأن المأمورين بدخولها اثنا عشر رجلا بعثهم موسى عليه السلام عيونا إلى أرض كنعان ليكتشفوا خبرها وذلك أن بني اسرائيل عندما طوحت بهم الرحلة إلى برية فاران نزلوا بمدينة قادش فأصبحوا على حدود أرض كنعان التي هي الأرض المقدسة التي وعدها الله بني اسرائيل، وذلك في أثناء السنة الثانية بعد خروجهم من مصر، فأرسل موسى هؤلاء الاثني عشر اختارهم من جميع الأسباط من كل سبط رجل وكان فيهم يوشع بن نون وكالب بن بَفُنّة فصعدوا وأتوا إلى مدينة حبرون، فوجدوا الأرض ذات خيرات، وقطعوا من عنبها ورمانها وتينها، ورجعوا لقومهم بعد أربعين يوما وأخبروا موسى وهارون وجميع بني اسرائيل وأروهم ثمر الأرض، وأخبروهم أنها حقا تفيض لبنا وعسلا غير أن أهلها ذوو عزة ومدنها حصينة جدا، فأمر موسى كالبا فأنصت بني اسرائيل إلى موسى، وقال: إننا نصعد ونمتلكها، وكذلك يوشع، أما العشرة الآخرون فأشاعوا في بني اسرائيل مذمة الأرض، وأنها تأكل سكانها، وأن سكانها جبابرة، فخافت بنو اسرائيل من سكان الأرض وجبنوا عن القتال، فقام فيهم يوشع وكالب قائلين لا تخافوا من العدو فإنهم لقمة لنا والله معنا، فلم يصغ القوم لهم، وأوحى الله لموسى أن بني اسرائيل أساءوا الظن بربهم وأنه مهلكهم، فاستشفع لهم موسى فعفا الله عنهم. ولكنه حرمهم من الدخول إلى الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون فلا يدخلها أحد من الحاضرين يومئذ إلا يوشعا وكالب، وأرسل الله على الجواسيس العشرة المثبطين وباء أهلكهم.
وذكر أن هذا التفسير الصحيح المنطبق على التأريخ الصحيح، وطبَّق ابن عاشور نصوص القرآن الواردة في هذه القصة على هذا الذي ذكره منقولا من مصادر أهل الكتاب.
وقوله تعالى: { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } دال على أن هذه القرية جعلها الله لهم مآبا ومنقلبا، فلذلك أباح لهم الأكل منها حيث شاءوا وإذا ما قارنتم ذلك بقوله تعالى في الأرض المقدسة:
{ { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 21] اتضح لكم أن هذا القرية هي نفس الأرض المقدسة، ولأجل ملاحظة هذا المعنى قال من قال إنها جميع بلاد الشام ذلك لأن بني اسرائيل استخلفهم الله فيها فكانت موطن عزهم وتخت مملكتهم.
وتوقف الإِمام محمد عبده عن تعيين هذه القرية، وقال: "نسكت عن تعيين القرية كما سكت القرآن، فقد أُمر بنو إسرائيل بدخول بلاد كثيرة، وكانوا يؤمرون بدخولها خاشعين لله، خاضعين لأمره مستشعرين عظمته وجلاله، ونعمه وأفضاله".
وقد اتضح لكم مما ذكرته أن الأمر بالأكل للإِباحة، وإن كان معطوفا على الأمر الواجب، وهو الأمر بالدخول، لأن الجامع بينهما مطلق الطلب.
واختلف في الباب الذي أمروا بدخوله؛ فقيل هو باب القرية، وقيل هو باب من أبواب بيت المقدس، رُوى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، ووُرى عنه أنه قال: يعرف اليوم بباب حطة، وقد تعاقب المفسرون زمنا بعد زمن على نقل ذلك عنه والاعتماد عليه، فكانوا يقولون إنه يعرف اليوم بباب حطة، وممن قال ذلك الألوسي في تفسيره، وهو من علماء القرن الثالث عشر، وهذا من التقليد الأعمى، فإن من شأن الأحوال أن تتحول، فلا بد - مع مضي العصور - أن تتغير الأبواب وتختلف الأعراف، وقيل هو باب القبة التي كان يتجه إليها موسى وهارون عليهما السلام في صلاتهما، وقيل: ليس المراد بالباب حقيقته المعروفة وإنما يراد به مدخل إلى القرية، وقد وصفه بعضهم بأنه مدخل بين جبلين.
أُمروا أن يدخلوا سجدا تواضعا لله وشكرا له على ما أنعم به من نعمة الاستخلاف في الأرض، واختلف في المراد بالسجود؛ قيل: هو طأطأة الرأس وحني الظهر تواضعا له سبحانه، وسمي سجودا لما فيه من الخضوع للمقام الأعلى، (وأصل السجود) الانحناء لمن سُجد له مُعظّما بذلك، فكل منحنٍ لشيء تعظيما له فهو ساجد، ومنه قول الشاعر:

بجمع تظل البلق في حجراته ترى الأكم فيه سجداً للحوافر

يعني بقوله سجدا خاشعة خاضعة، ومن ذلك قول أعشى ابن قيس بن ثعلبة:

يراوح من صلوات المليـ ـك طورا سجودا وطورا جؤارا

وهو معنى ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في (سجدا) رُكَّعا، وحمل بعضهم السجود على ظاهره، واعترض بأن السجود سكون، والدخول حركة فيتعذر أن يجتمعا، وقال الزمخشري أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله وتواضعا؛ واعترضه أبو حيان بأن ما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب، بل أمروا بالدخول في حال السجود، فالسجود ليس مأمورا به، بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية، فتناقضتا إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييديا اسناديا لأنه من حيث التقييد لا يُكتفى كلاما، ومن حيث الإسناد يُكتفى، فظهر التناقض، ورده الشوكاني بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد، فمن قال اخرج مسرعا فهو آمر بالخروج على هذه الهيئة، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفا للأمر، ولا ينافي هذا كون الأحوال نسبا تقييدية، فإن اتصافها بكونها قيودا مأمورا بها هو شيء زائد على مجرد التقييد.
وللإِمام ابن عاشور في هذا الأمر بالسجود تفسير يتلاءم مع ما ذكرته من قبل عنه في تفسير الأمر بدخول القرية، وحاصل ما قاله أن المقصود بالسجود مطلق الانحناء لإِظهار العجز والضعف كي لا يفظن لهم أهل القرية، وهو مما تقتضيه مهمة التجسس التي بُعثوا من أجلها، واستبعد أن يكون السجود المأمور به سجود شكر، لأنهم كانوا عيونا ولم يكونوا فاتحين، واستظهر مما جاء في الحديث الصحيح أنهم بدلوا وصية موسى فدخلوا يزحفون على أستاههم أنهم أرادوا إظهار الزمانة فأفرطوا في التصنع بحيث يكاد أمرهم يفتضح لأن بعض التصنع لا يستطاع استمراره.
والحطة مصدر دال على الهيئة من حط يحط بمعنى أسقط، واختلف في المراد بها؛ قيل: إنها بمعنى حط الأوزار، وعليه فيقدر مبتدأ محذوف، أي مسألتنا حطة، وهو تعبير عن طلبهم الله أن يحط أوزارهم، ولما كان هذا المصدر بصيغة فعلة - بكسر الفاء - الدالة على الهيئة، حُمل على طلب نوع عظيم من الحط، وهو حط كبار الأوزار، ويعني ذلك اعترافهم بارتكابهم الكبائر مع سؤالهم غفرانها، وقيل: يُقَدّر أمرنا حطة، وهو محمول على أنهم مأمورون بأن يعبروا عما هم مأمورون به وواجب عليهم امتثاله من حط الرحال في تلك القرية تعبيرا عن الامتثال.
والقول الأول أشهر، أخرجه ابن جرير عن الحسن وقتادة، وأخرج معناه عن ابن عباس وابن زيد والربيع وعطاء بألفاظ مختلف منها أن الحطة عبارة عن الاستغفار وذلك ليجمعوا بين خشوع القلب وخضوع الجوارح، والاستغفار باللسان، وجنح الى هذا الرأي الفخر الرازي، وقال: إنه أحسن الوجوه وأقربها الى التحقيق، وعليه اعتمد ابن جرير، ولا داعي إلى اعتبار العبارات المختلفة المحكية عن السلف، والمؤثَّرة في الكتب - مع اتفاقها في هذا المعنى - آراء متبانية فإن الخلف في ذلك لفظي فحسب، وتعضد هذا الرأي قراءة من نصب حطة ولو كانت شاذة كما يدل عليه قول الشاعر:

فاز بالحطة التي جعل الله بها ذنب عبده مغفورا

ولا يُعد مخالفا لهذا الرأي ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن عكرمة أنهم أمروا أن يقولوا: لا إله إلا الله، لأن قولهم ذلك إثر ما تتابع من معاصيهم وتكرر من عنادهم لجوء إلى الله وإعلان للتوبة وطلب لمغفرة الخطايا إن قالوها من أعماق نفوسهم دائنين بما تقتضيه من الانقياد المطلق لواجب الوجود الذي أسبغ نعمه عليهم وعلى كل موجود سبحانه وتعالى.
وقال الإِمام محمد عبده: "المراد بالحطة الدعاء بأن تحط عنهم خطايا التقصير وكفر النعم".
وبناء على ما سبق نقله عن الإِمام ابن عاشور في تفسير القصة ذهب إلى أن كلمة حطة ما أن تكون كلمة معروفة في ذلك المكان للدلالة على العجز أو أنها من أقوال المتسولين والشحاذين كي لا يحسب لهم أهل القرية حسابا ولا يأخذوا حذرا منهم فيكون القول الذي أُمروا به قولا يخاطبون به أهل القرية، وضعف ابن عاشور القولين الأولين لاستبعاده الدعاء بمصدر مرفوع، وهو مع التأمل غير بعيد في بعض الأحوال لورود مثله في الطلب، كقول الشاعر:

شكا إليّ جملي طول السُّرى صبر جميل فكلانا مُبتلى

والعدول عن النصب إلى الرفع لما يفيده من الثبوت والدوام.
وُعدوا على امتثال ما أُمروا به غفران الخطايا - وهي جمع خطيئة - وهو فوز كبير، ونعمة جُلى، ومطلب لكل عاقل، فبحسب الإِنسان نعمة بالغة تكفير خطاياه الموبقة، وتنجيته من عواقبها المهلكة، ومع ذلك وعدوا زيادة في الأجر على الإِحسان إن أحسنوا، وهو محتمل بأن يكون أجرا دنيويا بزيادة الفتوح والتمكين في أنحاء الأرض، أو أخرويا بزيادة الدرجات في الدار الآخرة، أو كلا الأمرين، وهو الظاهر، غير أنهم لشر منزعهم، وفساد طباعهم، وانحراف فطرهم بِدأبهم على التمرد والعصيان أضاعوا هذه الفرصة، وزهدوا في ما وُعدوا به، فانقلب الوعد وعيدا، وتحولت النعمة إلى نقمة، ذلك بأنهم كفروا نعمة ربهم، وهكذا تكون عاقبة الكنود الجحود، فقد بدل أولئك قولا غير الذي قيل لهم، وذلك أنهم دخلوا زاحفين على أستاههم وهم يقولون: حبة في شعرة، أخرج ذلك الشيخان وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا أنهم دخلوا يقولون: حنطة في شعيرة.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنهم قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة، وعن ابن عباس أنهم قالوا: حنطة، والروايات في ذلك متعددة، والجمع بينها محتمل بأن يكونوا قالوا كل ذلك سخرية واستخفافا، وقد أخذ بهذه الروايات جمهور المفسرين، وخالفهم أبومسلم الأصفهاني من المتقدمين، فحمل التبديل على مطلب المخالفة سواء دخلوا على غير الوجه المطلوب أو لم يدخلوا رأسا، لأن في كل ذلك تبديلا لما أُمروا به، فهو تبديل لقول الله، واستشهد لتفسيره هذا بقوله تعالى:
{ { سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [الفتح: 15] فإن التبديل المقصود هنا لا يُقصد به وضع كلمة مكان أخرى، وما هو إلا مجرد مخالفتهم لحكم الله، وانتقد الألوسي قول أبي مسلم وقال: "ظاهر الآية والأحاديث تكذبه".
ووافق أبا مسلم من مفسري المتأخرين الإِمامان محمد عبده ومحمد رشيد رضا في سورتي البقرة والأعراف، وقد عد الإِمام محمد عبده الروايات المنقولة من الإِسرائيليات التي لا يجوز أن يُحشى بها تفسير كلام الله، ووجه السيد محمد رشيد كلامه بما حاصله أن حديث أبي هريرة وإن رُوى في الصحيحين لم يثبت رفعه لاحتمال أن يكون أبو هريرة سمعه من كعب الأحبار لعدم تصريحه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، على أن راويه عن أبي هريرة همام بن منبه أخو وهب وهما صاحبا الغرائب في الإِسرائيليات.
وهذا ليس بشيء، فإن أبا هريرة رضي الله عنه صرح - كما في رواية البخاري في التفسير وأحاديث الأنبياء - بإسناد هذا القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يبق مجال للشك الذي ذكره صاحب المنار.
والرجز العذاب وبه فسره قتادة أخرجه عنه ابن جرير، وأخرج عن أبي العالية أنه الغضب، وعن ابن زيد أنه الطاعون، ولا تعارض بين هذه الأقوال، فالطاعون من أنواع العذاب الذي يصيب الله به الأمم، وعندما يكون عقوبة على معصية فهو مقرون بغضب الله، وقد ثبت عن أسامة بن زيد، وسعد بن مالك، وخزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عُذب به أناس من قبلكم" ولا ينافي ذلك ما ثبت علميا أنه ينشأ عن تلوث البيئة، فإن الله سبحانه هو الذي يهيئ لكل أمر أسبابه، فإذا أراد عقوبة قوم بما قدمت أيديهم هيأ لها أسبابها عادية كانت أو غير عادية، وتعيين الرجز أنه من السماء إنما هو لما اعتيد عند الناس من جعل السماء مصدرا للنوازل، وتوقف الإِمام محمد عبده عن تعيين الرجز وقد سبقه إلى ذلك الإِمام ابن جرير في تفسيره.
وإسناد التبديل إلى الذين ظلموا للإِفادة بأنه ظلم، وكذلك قوله: { فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } - مع إمكان الاستغناء بالضمير لو قيل فأنزلنا عليهم - للافادة بأن ظلمهم سبب لإِنزال الرجز، لأن الحكم على المشتق يؤذن بعليته، والإِسم الموصول وصلته في حكم المشتق، وأجاز الإِمام محمد عبده أن يكون ذكر الذين ظلموا في الموضعين للإِفادة بأن التبديل وإنزال الرجز خاصان بطائفة منهم دون سائرهم.
وينبغي أن تضاف هذه النكتة الخاصة بهذا الموضع إلى القاعدة العامة التي ذكرتها من قبل، ويؤكد عليه ظلمهم في إنزال الرجز عليهم التصريح بما يفيد مفاد ذلك في قوله: { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }، لأن الظلم والفسق مترادفان شرعا وإن اختلفا لغة.