التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٦
-البقرة

جواهر التفسير

كان ما تقدم وصفا للكتاب استتبع وصف الذين استضاؤوا بمشكاته وأصغوا إلى مراشده فاتبعوا هديه، وسلكوا نهجه فجمعوا بين الاستقامة في الدنيا والفلاح يوم القيامة، وهذا الوصف في الحقيقة هو وصف للكتاب، لأنه هو الذي قادهم في النقلة من الضلال إلى الهدى، ومن الحيرة إلى البصيرة، ومن الخطر إلى السلامة، وكان جديرا بعد ذلك أن يقفي ذكرهم بذكر أضدادهم الذين أخلدوا إلى الضلال، وآثروه على الهدى، وأغمضوا أبصارهم لئلا ترى نوره وتشاهد جماله فينفذ أثر ذلك إلى بصائرهم، وسدوا آذانهم لئلا تسمع حجته فتلج إلى أفكارهم ووجدانهم، وهؤلاء فريقان:
فريق كان صريحا في منابذته للحق، مكشوفا في عداوته له.
وفريق كان ملتويا في أمره، يظهر للمؤمنين أنه على الايمان وما دعواه الايمان إلا ستار يرخيه على ما يكنه من الكفر ويضمره من الحقد.
الذين كفروا رانت الضلالة على قلوبهم:
والفريق الأول هو المراد بهذه الآية والتي تليها، وإنما قدم ذكره لاستواء ظاهره وباطنه في الكفر، وتظاهر سريرته وعلانيته على نصرة الباطل ومنابذة الحق، ولأن حالته كانت مكشوفة وضرره معلوما بخلاف الفريق الثاني فهو أقبح طوية وأسوأ حالا، وأخطر مآلا، وتعريته من لبوس الخداع يحتاج إلى بيان أوسع وعناية أبلغ، فلذلك أخر ذكره وجاءت بصدده إحدى عشرة آية متوالية.
وفصلت هذه الآية عما قبلها لما بينهما من كمال الانقطاع، فما تقدمها في ذكر الهدى والمهتدين، وهي في بيان الضلال والضالين، وصدرت بحرف التأكيد لاثارة الاهتمام بمحتواها، ولاستئصال رجاء المؤمنين في تراجع هذه الطائفة عن غيها وثوبها إلى رشدها، فالمعنيون هنا قد رانت على قلوبهم الضلالة واستولى على تفكيرهم الباطل، فتعفنت فطرهم وأظلمت عقولهم وتكدرت طبائعهم، فلم يعد للحق مساغ في نفوسهم.
واختلف المفسرون في المعنيين بالذين كفروا هنا، قيل: هم طائفة من اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبق في علم الله عدم إيمانهم. وهو الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنه -.
وقيل: هم قادة الأحزاب الذين قتلوا في معركة بدر. روى ذلك ابن جرير عن الربيع بن أنس، وهو قول طائفة من المفسرين، واستدل من قال بذلك بأن الواقع قد كشف عن هؤلاء أنهم لا تجدي فيهم الموعظة شيئا، فقد استوى فيهم الانذار وعدمه، وذلك أن الدعوة كانت تواجههم منذ انبلاج فجرها بقوارع نذرها، وبوارق حججها، وصواعق وعيدها، فلم يعيروها إلا آذانا صما، حتى حق عليهم قول الله فهلكوا شر مهلك، وشفى الله صدور المؤمنين إذ نصرهم عليهم فكان مهلكهم على أيديهم، ورجح ابن جرير أنهم أحبار اليهود الذين أصروا على محاربة الدين الحنيف، ومقاومة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم حسدا منهم، مع أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما سبق عندهم من علم الكتاب، واستدل لذلك بأن ما قبل الآية كان ثناء على مؤمني أهل الكتاب، فكان جديرا أن يقفي ذكرهم بذكر أضدادهم وكشف سوء حالهم وبيان شر منقلبهم، لأنهم جميعا ينحدرون من سلالة واحدة، وإنما فرق بينهم الايمان والكفر.
كما استدل له بما تتابع من بعد في السورة مع تقريع بني إسرائيل على كفرهم وتوبيخهم على ضلالهم، وكشف طوايا نفوسهم، وتعداد مثالبهم في تاريخهم الطويل مع النبوات والأنبياء.
وأنت تدري أن استدلال ابن جرير بما ذكرنا على أن المقصودين في الآية كفار بني إسرائيل فحسب غير واضح، فإن القرآن الكريم كان يواجه بصوادع دعوته جميع المشركين على اختلاف طوائفهم، وتباين مللهم، وكلمة { الذين كفروا } تعمهم جميعا، فلا معنى لقصر مفهومها على بعض أفراد مدلولاتها بدون حجة، على أن مثل ما في الآية من الاخبار بعدم إيمان الكفار جاء في قوله تعالى من سورة (يس):
{ { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس: 10]، وقد نزلت بمكة قبل نشوب المعركة بين المؤمنين وأهل الكتاب، ولا نسلم أن ما قبل الآية من الثناء والوعد خاص بمؤمني أهل الكتاب، فقد مرّ بك ما يكفيك حجة ودليلا أن الثناء والوعد في الآيات السابقة شاملان لكل المؤمنين من غير تمييز بين من كان قبل على ملة كتابية أو على طريقة جاهلية.
كما أن تعنيف أهل الكتاب في السورة وتعداد مثالبهم ليس دليلا على أنهم وحدهم المعنيون هنا، والذي يدل عليه اللفظ ويقتضيه السياق أن المعنيين كل من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصر على كفره إلى أن مات، فهؤلاء لا تنجع فيهم الدعوة، ولا تتخلل نفوسهم الموعظة، فهم الحقيقون بهذا الوصف والجديرون بهذا الوعيد.
هذا، وتأول بعض المفسرين { الذين كفروا } بمعنى الذين قضي عليهم بالكفر والشقاء، وجعله نظيرا لقوله سبحانه:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 96]، وهو تأويل غير مقبول لأن اللفظ لا يقتضيه، والقرائن لا تساعد عليه ومهما يكن المعنيون في الآية، فإن عدم اهتدائهم بالقرآن إنما هو لأمر يعود إلى نفوسهم لا إلى القرآن، ولا يخل ذلك بوصفه بالهداية، ولا يدل على نقص دلالته على الخير فهو كما أخبر الله عنه { ذكر للعالمين }، { وهدى للناس }، وما مثل الذين عميت بصائرهم عنه، ونبت عقولهم عن قبوله، إلا كمثل الخفافيش التي تأنس إلى الظلام وتستوحش من النور والضياء، ولا يقلل ذلك من قيمة الضوء، فحال هؤلاء لا ينافي ما وُصف به القرآن.
والآية وإن كانت تفيد العموم - بناء على أن الموصول يفيد الجنسية، والجنس يقتضي الاستغراق - فإنها قد خصصت بالمشاهدة، فكثير من مشركي العرب ومن أهل الكتاب آمنوا بعد كفرهم، وأسلموا بعد عنادهم، فهي من باب العموم الذي يراد به الخصوص، كالآية التي سبق الاستشهاد بها من سورة (يس)، وكقوله سبحانه في أهل الكتاب: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ }، وإنما هذا الوصف في قوم حقت عليهم كلمة الله كما أخبر عز وجل بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ }.
الكفر قسمان:
وأصل الكفر الستر والاخفاء، ومنه تسمية الزارع كافرا، كما في قوله تعالى:
{ { أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [الحديد: 20].
ثم خص عرفا بإخفاء النعمة وجحدها، وإن من أشد كفران النعم جحد المنعم بها أو صفاته الكمالية، ومن ثم كان إنكار الخالق تعالى أو إنكار صفة من صفاته أو فعل من أفعاله، أو حكم من أحكامه كفرانا بنعمته التي أنعم بها على جاحدها، وغلب اسم الكفر على هذا الباب وهو ينقسم عندنا وعند جماعة من المحققين إلى كفرين؛ كفر شرك، ويعبر عنه بكفر الجحود، وكفر نعمة، ويطلق عليه اسم الفسوق والنفاق.
والأول: هو الذي عرف بأنه إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة، وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه، ونصبت عليه الأدلة، كوحدانية الله تعالى ووجوده، ويدخل فيه إنكار كل ما علم من الدين بالضرورة.
وقال أبو بكر الباقلاني: الكفر بالله هو الجهل بوجوده. ويرى الحنفية أن الكفر جحد ما ثبت بدليل قاطع، والذي عول عليه الشافعية أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام، وفرعوا عن ذلك أنه لا يكفر جاحد المجمع عليه على الاطلاق، وإنما اشترطوا أن يكون فيه نص بحيث يصبح من الأمور الظاهرة التي يشترك الناس في معرفتها، كوجوب الصلوات الخمس وحرمة الخمر والميسر.
وبناء على ما قالوا لا يكفر من جحد المجمع عليه إن كان غير معروف إلا عند الخواص، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف عندهم.
والذي اشتهر عندنا في المذهب أن هذا الكفر يكون بجحد ما علم من الدين بالضرورة، وهو معنى ما قالته الحنفية.
وقال القرافي: إن الكفر انتهاك خاص لحرمة الربوبية، ويكون بالجهل بالله أو بصفاته أو بالجراءة عليه.
وتُعقب بأن هذا النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله.
والذي يظهر لي أن القرافي لم يرد تعريف كفر الجحود، وإنما أراد تعريف مطلق الكفر الشامل له ولكفر النعمة كما سيأتي، وإنما ينظر في إطلاقه أن الجهل بصفات الله كفر من غير تقييد بقيام الحجة، فإن الحق أن العبد غير مطالب من أول وهلة أن يعرف جميع صفات الله حتى تقوم عليه حجتها، لما في هذه المطالبة قبل الحجة من العنت والمشقة اللذين رفعهما الله عن عباده، فضلا منه وإحسانا.
والحق أن كفر الشرك أعم من أن يكون بالقول وحده، فقد يكون به وبالفعل وبالاعتقاد.
فالقول إنكار ما علم من الدين بالضرورة مما نص عليه في الكتاب العزيز أو السنة المتواترة أو أجمعت عليه الأمة إجماعا قاطعا، فاشتهر عند الخواص والعوام.
والفعل: إتيان بعمل لا يجامع عقيدة التوحيد، كالسجود للصنم وتقديم القرابين إلى الشياطين والجن.
والاعتقاد: أن يعتقد بقلبه ما لا يتفق مع عقيدة الاسلام، كوجود شريك لله تعالى، فلذلك أرى أن يعرف هذا القسم من الكفر بأنه الاجتراء على الله بما يهدم عقيدة الاسلام من قول أو عمل أو اعتقاد، وهو يخرج بصاحبه من الملة فلا يناكح ولا يوارث ولا يدفن في مقابر المسلمين.
أما القسم الثاني - وهو كفر النعمة - فهو الاجتراء على الله بترك ما فرض، كالصلاة والصوم والزكاة، وارتكاب ما حرم، كالزنا والربا والسرقة وشرب الخمر من غير استحلال للفعل أو الترك، وهو لا يؤدي بصاحبه إلى الخروج من الملة، إذ تبقى له جميع أحكام الاسلام في الدنيا ما عدا الولاية، فتجوز مناكحته وتبقى موارثته ويدفن مع المسلمين، غير أنه يسلب الولاية - وهي المحبة في الله - وينقلب إلى ضدها وهو البراءة، وهذا القسم كالذي قبله ثابت بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى:
{ { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } [آل عمران: 97]، وقوله: { { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } [سبأ: 17]، مع ثبوت مجازاة غير المشركين بأعمالهم الباطلة بنصوص الكتاب والسنة، وقوله سبحانه حكاية عن سليمان: { { لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل: 40]، فإن الشكر المقصود هنا هو الوفاء بحق النعمة من طاعة المنعم بها الواجبة على المنعم عليه، وفي مقابلة الكفر وهو التقصير في الطاعة.
وأما السنة: فهي حافلة بكثير من النصوص الدالة على كفر مرتكب الكبائر، منها ما رواه الامام الربيع -رحمه الله - عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنهم - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من أتى الرجال شهوة دون النساء أو أتى النساء في أعجازهن فقد كفر" . ومنها ما أخرجه الربيع بهذا السند مرفوعا: "ليس بين العبد والكفر إلا تركه الصلاة" ، وراه الجماعة إلا البخاري والنسائي عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعا بلفظ "بين الرجل والكفر ترك الصلاة" ، وروى أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان عن بريدة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر" ، وصححه النسائي والعراقي.
ومنها ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الاحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط" ، وروى مثله مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وحكى الحافظ في الفتح في شرح هذا الحديث عن القاضي أبي بكر ابن العربي أنه قال في شرحه له: مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا، وحكى ذلك عنه أيضا العلامة العيني في شرحه القيم على صحيح البخاري المسمى عمدة القاري.
واستدل مسلم في صحيحه لهذا النوع من الكفر بكثير من الأحاديث التي أخرجها؛ منها ما رواه عن ابن عمر وجرير أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال:
"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ، وما رواه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" ، وما أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ، وما أخرجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر" ، وما رواه عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدوُّ الله وليس كذلك إلا حار عليه" . ومثل هذا في السنة كثير.
وإن تعجب فعجب ممن ينكر هذا القسم من الكفر بعد ثبوته بالكتاب والسنة، ويشنع على الأباضية بأنهم يقولون به ويلقيهم - بسبب ذلك - في مصاف الخوارج الذين يكفرون أهل التوحيد تكفيرا يخرجهم من الملة.
وأنت إذا تدبرت كلام المحققين من المحدثين وغيرهم وجدتهم يصرحون بصحة ما ذهب إليه أصحابنا من تكفير مرتكب الكبائر كفر نعمة لا كفر شرك، وكفى بإمامي المحدثين - البخاري ومسلم - اللذين صرحا في صحيحيهما بهذا الكفر غير مرة.
وقد مر بك كلام الامام ابن العربي، وهو في مقدمة أئمة المالكية فقها وحديثا وتفسيرا، وتجد نحوه في كلام النووي في شرحه على صحيح مسلم، ومثله ما قاله المحققون من شراح البخاري كالحافظ ابن حجر في فتح الباري، والعيني في عمدة القاري، والقسطلاني في إرشاد الساري، وهو الحق الذي لا غبار عليه.
أما الذين يشنعون على من قال بكفر النعمة، فلا يخلو إما أن يكون تشنيعهم نتيجة سوء فهم وقلة علم، وإما أن يكون بباعث حالة نفسية تدفع إلى تشويه الحقيقة ومكابرة الحق، وكثيرا ما يرتبك هؤلاء عندما يواجهون مثل هذه النصوص، فيتكلفون لها تأويلات شتى، كالقول بأنها يراد بها المبالغة في التنفير عن تلك الأعمال، أو أنها أطلق عليها اسم الكفر لأنها من شأن الكفار غالبا، وهي تأويلات لا تتفق مع سياق النصوص، وإنما يلجئهم إليها التقليد الأعمى والتعصب البغيض.
والكفر المعني هنا هو الكفر الذي يخرج بصاحبه من الملة، سواء قلنا إن المعنيين به مشركو العرب أو كفرة أهل الكتاب أو الطائفتان جميعا كما هو الصحيح، لأنهم جميعا يصدق عليهم وصف الكفر المخرج من الملة.
وقال الامام محمد عبده: الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله، أو جحود الكتاب نفسه أو النبي الذي جاء به، وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بلاغا صحيحا، وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها؛ فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادا أو تساهلا أو استهزاء، نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن - ثم قال - ولم نسمع أن أحدا من الصحابة - رضي الله عنهم - كفر أحدا بما وراء هذا فما عداه من الأفاعيل والأقاويل المخالفة لبعض ما أسند إلى الدين ولم يصل العلم بأنه منه إلى حد الضرورة - أي لم يكن سنده قطعيا كسند الكتاب - فلا يعد منكره كافرا إلا إذا قصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى كان للمنكر سند من الدين يستند إليه فلا يكفر، وإن ضعفت شبهته في الاستناد إليه ما دام صادق النية فيما يعتقد، ولم يستهن بشيء مما ثبت بالقطع وروده عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وقد تجرأ بعض المتأخرين على تكفير من يتأول بعض الظنيات أو يخالف شيئا مما سبق الاجتهاد فيه أو ينكر بعض المسائل الخلافية، فجرأوا الناس على هذا الأمر العظيم حتى صاروا يكفرون من يخالفهم في بعض العادات وإن كانت من البدع المحظورات، ثم هم على عقائد الكافرين وأخلاق المنافقين، ويعملون أعمال المشركين، ويصفون أنفسهم بالمؤمنين الصادقين.
وهذا كلام في منتهى النفاسة، فإن التجرؤ على إخراج أحد من الموحدين من حظيرة الملة أمر لا يستهان به، فهو تترتب عليه عواقب سيئة في الدنيا والآخرة، لأنه سبب انفكاك العُرى وانحلال الروابط وتقطع الصلات بين الأمة.
ومن ثم نجد أصحابنا - رحمهم الله - لا يكفرون كفر شرك من يصطدم بالنصوص القاطعة إن كان متشبثا بشيء من التأويل، وإن كان في ذاته أو هي من نسج العنكبوت، وإنما يصفون مثله بالنفاق وكفر النعمة.
أما المسائل الاجتهادية فللرأي فيها مجال رحب عندهم، فلا يعنف من قال برأي ما لم يصطدم بنص قاطع ولا يفسق من عمل به.
هذا، وقسم الأستاذ الامام الكافرين إلى أقسام، فقال: منهم من يعرف الحق وينكره عنادا، وهؤلاء هم الأقلون ولا ثبات لهم ولا قوام، وكان منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلبثوا أن انقرضوا - قال - كنت قلت بهذا المعنى كلمة جديرة بأن تحفظ، وهي: أن جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم، كلاهما قليل في الناس.
ومنهم من لا يعرف الحق ولا يريد ولا يحب أن يعرفه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:
{ { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنفال: 22 - 23]. فهؤلاء كلما صاح بهم صائح الحق فزعوا ونفروا وأعرضوا واستكبروا، ففي أنفسهم شعور بالحق، ولكنهم يجدون فيه زلزلة كلما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم. وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحق، ويخافون أن لو استعملوها أن ينقصهم شيء مما يظنونه خيرا ويتوهمونه معقودا بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم.
ومنهم من مرضت نفسه واعتل وجدانه، فلا يذوق للحق لذة، ولا يجد نفسه فيه رغبة، بل انصرف عنه إلى هموم أخر ملكت قلبه وأسرت فؤاده، كالهموم التي غلبت أغلب الناس اليوم على عقولهم ودينهم، وهي ما استغرقت كل ما توفر لديهم من عقل وإدراك، واستنفدت كل ما يملكون من حول وقوة في سبيل كسب مال أو توفير لذة جسمانية أو قضاء شهوة وهمية، فعمي عليهم كل سبيل سوى سُبل ما استهلكوا فيه، فإذا عرض عليهم الحق أو ناداهم إليه مناد رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي، ولا يميزون بين ما يدعو إليه وبين ما هم عليه، فيكون حظ الحق منهم الاستهزاء والاستهانة بأمره، فإذا وعدهم أو أوعدهم النذير قالوا لا نصدق ولا نكذب حتى ننتهي إلى ذلك المصير، وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كل زمان ومكان، خصوصا في الأمم التي يفشو فيها الجهل وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة، وتنضب من أنفسهم ينابيع الفضائل، فيصبحون كالبهائم السائمة لا هم لهم إلا فيما يملأ بطونهم أو يداعب أوهامهم، ويصح جمع هذين القسمين تحت قسم واحد، وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين. والقسم الأول هو قسم المعاندين المكابرين.
هذا كلامه، وهو مع نفاسته ينبغي أن ينظر فيه، فإن الشواهد قائمة على كثرة أفراد القسم الأول. فاليهود الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم قال الله فيهم:
{ { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 146].
وقد ذكرهم الله في كثير من الآيات بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون ما أنزل الله فيما بأيديهم من الكتاب من آيات كاشفة للحق لأجل منفعة مادية زائلة، أو من أجل حسدهم أهل الحق أو بباعث العنت والاستكبار، وقد كانوا يستفتحون بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من العرب الأميين فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، ومن فحص أحوال اليهود، وجدهم من أعرف الناس برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقها، وإنما آثروا ما توهموه مصلحة لهم على الايمان فباؤوا بالخسران وهووا في دركات الهوان.
أما مشركو العرب فإنهم وإن كانوا على جاهلية جهلاء وأمية متأصلة فيهم، فقد كانوا يتصفون برقة الشعور ودقة النظر، وقد أوتوا من ملكة البيان ما كانوا به متفوقين على غيرهم، فلم يكن يعزب عن أذهانهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانوا عميا عن إشراق حجته ونصوع دليله.
كيف وقد كان عليه أفضل الصلاة والسلام مشهورا بينهم بالصدق والأمانة لا يختلف في ذلك اثنان منهم، وكان القرآن يصبحهم ويمسيهم بقذائف إعجازه ويدعوهم إلى التحدي والمعارضة بأسلوب يبعث عزائم الخاملين منهم، وقد وقفوا مشدوهين أمام سطوع حججه، وظهور براهينه، ولم تحدثهم نفوسهم العاتية بأن ينزلوا إلى ميدان المعارضة فيحاولوا أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من سُوَره، وهم الذين لا يصطلى بنارهم في البيان، ولا يجرى في مضمارهم في منثور القول ومنظومه.
على أن كل ما كان يدعو إليه صلى الله عليه وسلم من عقيدة وأعمال وأخلاق، هو نفسه شاهد على صدقه، لأنه نابع من الفطرة الانسانية وملب لضرورات البشر، فلم يكن الباعث على كفرهم إلا العناد والمكابرة، كما ثبت ذلك في أقوال بعض كبرائهم.
أقوال في إعراب "سواء":
{ وسواء }؛ اسم مصدر بمعنى الاستواء، يخبر به عن المفرد وغيره من غير أن تدخل عليه علامة للتثنية أو الجمع، قال تعالى:
{ { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } [الروم: 28]. ويوصف به المفرد وغيره كذلك، فمثال وصف المفرد قوله تعالى: { { تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم } [آل عمران: 64]. ومثال وصف الجمع قوله سبحانه: { { فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [فصلت: 10]، على قراءة من جر سواء.
وكما أن المصدر يحل محل اسم الفاعل لقصد المبالغة، نحو محمد عدل، بمعنى عادل، إذا أردت أن العدل يتمثل في شخصه ويتجسد في حكمه، فكذلك اسمه، ولذلك صح الاخبار بسواء عن المبتدأ.
واختلف علماء العربية والتفسير في إعراب سواء هنا، منهم من أعربه خبرا لإِن ورفع به الفاعل المفهوم من { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ }، كأنه قيل إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه، ومنهم من أعربه خبر مبتدأ محذوف، تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله: { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ }.
ومنهم من أعربه خبرا مقدما لمبتدأ مؤخر، أي سواء عليهم إنذارك وعدمه، وهو المشهور على الألسنة، وأورد عليه أمور:
أولها: أن الفعل يسند ولا يسند إليه.
ثانيها: أن الاستفهام له صدر الكلام، وهذا الاعراب يبطل ذلك.
ثالثها: أن الهمزة وأم موضوعان لأحد أمرين، ولفظ سواء لا يدل على مفرد، لأنه بمعنى الاستواء وهو يقتضي الاشتراك، ولذلك يقال استوى وجوده وعدمه، ولا يقال أو عدمه.
رابعها: أن تقديمه مع تقديره خبرا يؤدي إلى التباس المبتدأ بالفاعل فلا يصح.
وأجيب عن الأول بأنه من جنس الكلام الذي يهجر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، ومثله شائع عند العرب، كقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فإن إجراءه على ظاهره يستلزم عطف الاسم المنصوب على الفعل، بل المفرد على جملة لا محل لها
وعن الثاني والثالث: بأن الهمزة وأم قد جردا هنا عن معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولأجل استوائهما في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بهما حتى قيل إنهما تُجُوِّز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبةٍ ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر، وحاصل هذا الجواب أنهما يدلان على الاشتراك فقط ولا ملاحظة فيهما للاستفهام.
وأجيب عن الرابع: بأن الالتباس إنما يحصل في الخبر الفعلي نحو زيد قام، وإذا لم يمتنع تقديمه وهو صفة صريحة فعدم امتناعه هنا أولي.
واستظهر ابن عاشور أن المبتدأ بعد سواء مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ }، ومثل لذلك بقول القائل: علمت أزيد قائم، فإن تقديره علمت جواب هذا السؤال، وهذا الاعراب مبين للمعني المراد غير أنه لا يتفق مع أصول الفن. وأجيز جعل سواء مبتدأ واقعا لفاعل سد مسد الخبر، لأن سواء بمعنى مستوٍ فهو كاسم الفاعل، فلذلك أعطى حكمه في رفع الفاعل الساد مسد خبر المبتدأ.
ومهما يكن الاعراب فإن الآية تفيد عدم جدوى الانذار في هؤلاء الناس، فلذلك تساوى مع عدمه.
مهمة الداعي الاصلاح:
وإنما واجب الرسول صلى الله عليه وسلم القيام بما أمر به من الانذار والتبليغ، وليس في مقدوره ولا في مقدور أحد من الناس تمكين الهداية من القلوب، وإنما هو من مقدور الله وحده، وفائدة تبليغ هؤلاء - مع القطع بعدم تقبلهم - إقامة حجة الله عليهم لئلا يقولوا:
{ { رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } [طه: 134]. وفي ذلك إيماء إلى أن مهمة الداعي محاولة استصلاح الناس وإن أيس من نجاح هذه المحاولة، كما سيأتي إن شاء الله موضحا في موضعه.
وتعدية سواء بعلى للدلالة على التمكن، فقد سبق أن على تفيد الاستعلاء، وهو يقتضي تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ويراد به هنا استواء الانذار وعدمه عند هؤلاء المعنيين.
وقوله { لا يؤمنون } يفيد تقرير ما تقدم، وهو إما تأكيد له، وإما خبر بعد خبر، ولا يصح أن يكون خبر إن، وجملة { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } اعتراضية وإن جوّزه صاحب الكشاف لأن فائدة الاخبار بيان استواء الانذار وعدمه لا إفادة عدم إيمانهم فحسب.
لا يكلف الله إلا بما في وسع المكلفين:
هذا وقد تشبث بهذه الآية كثير من القائلين بجواز التكليف بالمحال ووقوعه، ووجه استدلالهم أن الله سبحانه أخبر عن هؤلاء الكفار بعدم إيمانهم، واستواء الانذار وعدمه عليهم، وهم مع ذلك مخاطبون بالايمان مكلفون به مع عدم جواز تبديل شيء من كلمات الله تعالى، وهو يعني أنهم مطالبون بأن يؤمنوا أنهم لا يؤمنون لاندراج ذلك فيما طولبوا بالايمان به من الكتاب. هذا ملخص ما يقولونه، ولهم في الاستدلال لذلك مسالك متشعبة ووجوه مختلفة، وكأني بهؤلاء يتصاممون عن قوله تعالى { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }، وقوله: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا }.
والآيات الدالة على أن عدم إيمان الكفار ناتج عن عنادهم وإخلادهم إلى الضلالة، وإصرارهم على الباطل، كقوله تعالى:
{ { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } [الكهف: 55]، وقوله: { { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ } [النساء: 39].
والقول الحق في ذلك أن إخبار الله عز وجل بعدم إيمانهم إنما هو إخبار عما علمه من حالهم، فلا يسقط ذلك تكليفهم بالايمان، ولا يدل على أنهم طولبوا بما هم عاجزون عنه، فإنهم كانوا قادرين على التسليم، وإنما باعدهم عنه ما رسخ في نفوسهم من كراهة الحق، وعداوة أهله.
ويرى العلامة ابن عاشور أن الاختلاف في هذه المسألة ناشئ عن الالتباس الحاصل من مفهوم المحال، فهو يطلق على ما هو محال عقلا، كجمع النقيضين، ومحال عادة، كصعود السماء، وما فيه حرج وإعنات كذبح المرء ولده، ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه، وما عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر، كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج، وكل ذلك مندرج فيما لا يطاق كما في قوله سبحانه: { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }، فإن المراد بذلك ما يشق على النفس مشقة عظيمة، وأطلق لفظ المحال على كل واحد من هذه الأقسام حقيقة ومطابقة في بعضها، والتزاما في البعض ومجازا في البعض.
وأطلق عليها عدم المقدور كذلك، كما أطلق الجواز على الامكان وعلى الامكان للحكمة، وعلى الوقوع، فكان ذلك منشأ الاختلاف الذي ملأ الفضاء حتى جاء من فتح إغلاق الاشكال بمفاتيح التحرير، فتبين أن الجواز الامكاني ثابت لأن يفعل ما يشاء لو شاء، وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتفٍ عند الطائفتين وإن اختلفتا في تفسير الحكمة، لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع، وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازا ووقوعا، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك، وثبت ما هو أخص وهو رفع الحرج الخارجي عن الحد المتعارف تفضلا من الله تعالى لقوله:
{ { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]، وقوله: { { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [المزمل: 20]، أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في الأحكام. انتهى المراد من كلامه بتصرف.
ولا يماري عاقل في أن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأن جميع أفعاله عدل لا يوصف شيء منها بالظلم والجور، ولكنه سبحانه أخبرنا بعدم تكليفه إلا بما في وسع المكلفين، فليس لنا أن نتجاوز عن ذلك فنصفه بما يخالفه.
ومن المعلوم أن الله هدى كل أحد السبيل وفتح لكل من شاء أبواب الرشاد، فانحراف الانسان إلى مسالك الغواية ليس بسبب حيلولة القدر بينه وبين الرشد، وإنما هو باستحباب نفسه، كما أخبر الله عن ثمود بقوله:
{ { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت: 17]، والله يعلم ما اشتملت عليه طوايا الأنفس وحنايا الضمائر، فلا غرو في إخباره عمن أخبر عنه بعدم الايمان مع دعوته إليه، إذ الخبر إنما هو عما علمه الله من هوى نفسه وميلولة رغبته.
وبهذا يندفع الاعتراض الذي تصوره الامام ابن عاشور في دعوة أمثال هؤلاء إلى الحق مع العلم بعدم استجابتهم، ولا داعي إلى ما أجاب به من أن الرسول صلى الله عليه لم يقصد أحدا بعينه من هؤلاء الذين ماتوا مصرين على الكفر فيخصه بالدعوة إلى الايمان كما صنع مع عمر بن الخطاب حين جاءه، إذ قال له: أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول: لا إله إلا الله؟ وكما صنع مع غيره ممن أسلم.
وكلامه هذا دعوى لم تنهض بها حجة، ومن أين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع أحدا بعينه ممن لم يسلموا إلى الاسلام، مع قوله تعالى:
{ { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ.. } [يس: 6] إلى قوله: { { ..لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس: 7].
ودعوته صلى الله عليه وسلم لم تختلف عن دعوات النبيين من قبله في حيثية الاتجاه بها إلى جميع من أرسل إليهم، سواء من وفق لقبولها منهم ومن لم يوفق، وقد أرسل الله موسى وهارون - عليهما السلام - برسالة الحق إلى فرعون الكافر العنيد، الذي سبق في علم الله أنه سيموت على كفره وضلاله، وأمرهما أن يقولا له قولا لينا، وبين هذا القول اللين قوله تعالى:
{ { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ } [النازعات: 18 - 19].
وهكذا كانت رسالات جميع المرسلين إلى أقوامهم كما هو واضح لمن تدبر القرآن، وليت شعري ما هو الفارق بين دعوة الأعيان ودعوة المجموعة، على أن الدعوة هي تكليف إلهي للرسل يجب عليهم القيام بها مع غض النظر عما يكون من عاقبة أمرها.
ولأجل ذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحط عن صدره أثقال الهموم التي كان ينوء بها بسبب ما كان يلقاه من قومه من صدود، وقال له تعالى:
{ { إِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } [الرعد: 40].
هذا وقد شدد الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده النكير على القائلين بالتكليف بالمحال، وذكر أن الصحابة - رضي الله عنهم - ما كان ذلك يخطر على بال أحد منهم، ثم قال: إن الاتفاق واقع بين الأئمة، بل بين الأمة على أن التكليف بالمحال غير واقع وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، كما صرح به الكتاب وتضافرت عليه الأحاديث النبوية.
وقس كلامه هذا إلى ما قاله الفخر الرازي من أن القول بجوازه هو قول أهل السنة، والقول بعدم جوازه هو قول المعتزلة.