التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
-البقرة

جواهر التفسير

للمفسرين في بيان ما يراد بالآية رأيان؛ منهم من ذهب إلى أنها نزلت تبشيرا للصالحين من هذه الأمة وتبيانا لأحوال أسلاف الأمم السابقة المتقيدين برسالات الله تعالى الذين لم يشب إيمانهم كفران، ولم يلحق عملهم انحراف، فقد جمعوا بين رسوخ الإِيمان وصلاح العمل، فهم معدودون في السعداء الفائزين { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }، ذلك لأن شموس رسالات الله كانت تطلع على الأرض بالهدى ودين الحق فيستنير بها السالكون الموفقون وكانت جميع هذه الرسالات متفقة في أصولها، متحدة في أهدافها، فقد كانت تدعو إلى عقيدة واحدة، وهي عقيدة التوحيد، وعدم إشراك أحد مع الله، { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]، كما كانت تغرس في النفوس روح الفضيلة والتقوى، وإنما كانت تختلف فيها كيفيات العبادات كما تختلف شرائعها وأحكامها بحسب ما يرى الله من مصلحة للعباد، فمن كان تابعا لرسالة من هذه الرسالات، معتصما بحبلها، متقيدا بحكمها، فهو على هدى من الله حتى تنسخ برسالة غيرها، فإذا مات على ذلك فهو من المبشرين بالفوز والسعادة في هذه الآية وأمثالها، أما من كان من أتباع إحدى هذه الرسالات ثم أدركته رسالة ناسخة لها لم يكن له أن يتردد في إتباع الناسخة، وأن يتشبث بالمنسوخة، لأن أحكام المنسوخة أحكام وقتية محدودة انتهى أمدها بما أتى بعدها، فمن كان من أتباع موسى مثلا وأدركته رسالة عيسى عليه السلام لم يكن له عذر في ترك اتباع عيسى وعدم الإِيمان به، بل يُعد ذلك كفرا بموسى نفسه وبما جاء به لتبشيره بالمسيح عليه السلام، وكذلك من كان من أتباع عيسى وأدركته رسالة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وجب عليه أن يستجيب لندائها، وأن يستظل بلوائها، وأن يترك ما كان عليه، وإلا كان كافرا بالرسالتين جميعا وبالرسالات السابقة كلها لما فيها من التبشير صلى الله عليه وسلم ولأخذ الله مواثيق الأمم على ألسنة أنبيائهم بأن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم، { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 81]، فالمذكورون مع الذين آمنوا في الآية على هذا القول - هم الذين كانوا متعبدين بالرسالات السابقة قبل إشراق شمس الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام؛ وعليه فالمناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه ربما ظن ظان وفكر مفكر - بعدما سمع مما سبق من الآيات من قوارع الوعيد لبني إسرائيل وما سجل عليهم فيها من سفه أحلامهم وضلال سعيهم - أنهم جميعا تشملهم تلك الأوصاف، ويحيق بهم ذلك الوعيد، فلا مفر لأحد منهم من قبضة العذاب، فأراد الله أن يدرأ هذا الوهم وأن يبين عدله فيهم وفي غيرهم، فهم لم يُمقتوا لعنصرهم وإنما مُقت من مقت منهم لضلال معتقده وسوء صنيعه، وأن شأن الله معهم كشأنه مع هذه الأمة وسائر الأمم، فليس بين الله أحد من خلقه نسب، ولا يصل الناس به ويقربهم إليه إلا الإِيمان الخالص والعمل الصالح، فمن جمع بينهما فاز برضوانه وثوابه، ومن فرّط فيهما خسر الدنيا والآخرة، على أن ممن مضى من بني اسرائيل أمة قدرت الله حق قدره فأحسنت عبادته وأقامت دينه خلد الله ثناءها في قوله: { { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 159].
وذهب آخرون إلى أن الآية تبشر الذين يقلعون عن غيهم من أصحاب الديانات المنحرفة، ويتبعون الهدى الذي بُعث به محمد صلوات الله وسلامه عليه بعدما اتضحت لهم حجته وأضاء لهم نوره، وتجلى لهم إعجازه، ولا يفرطون فيما فرض الله عليهم من الإِيمان والعمل، فهم حقيقون بما وعدهم الله به من الجزاء، وعليه فذكر الذين آمنوا للتنويه بالسابقين إلى الإِيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذين كونوا من أنفسهم - مع قلة عددهم وضعف حالهم - أمة مستقلة في عقيدتها وعباداتها وأخلاقها، وللتحريض على اللحاق بهم، والاستبصار بنورهم، ومناسبة الآية بما قبلها - على هذا القول - أن الوعيد الشديد الذي صب فيما قبلها على اليهود صبا قد يلقي بهم في مضايق اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته وعفوه لو لم يتبع بما ذُكر هنا من تبشير من آمن منهم وعمل صالحا، وفي هذا دعوة لهم إلى الإِقبال على ما أدبروا عنه من الحق، وتربية لنفوسهم العاتية بالترهيب تارة وبالترغيب أخرى، وفي ذكر الذين آمنوا وغيرهم ممن ذُكر معهم إيناس لوحشتهم وتسكين لروعهم وتحقيق لما ذكرته من قبل من عدل الله بين عباده.
وإطلاق لقب الذين آمنوا على هذه الأمة من باب العلمية الغالبة وذلك لجمعها في الإِيمان بين رسالات جميع المرسلين:
{ { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [البقرة: 285]، وإلا فهو وصف يصدق عليها وعلى كل الذين آمنوا بما أنزل الله من قبل من الأمم السابقة، وإنما مثل ذلك مثل وصف الإِسلام الذي يصدق على كل من أسلم لله تعالى، وهو بهذا الاعتبار يصدق على جميع أتباع المرسلين، ولذلك وصف الله به النَّبيين الذين يحكمون بالتوراة: { { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } [المائدة: 44]، وحكى عن الحواريين قولهم: { { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 52]، وحكى مثله عن أهل الكتاب المتمسكين به وذلك قولهم: { { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [القصص: 53]، وقال في قرية لوط: { { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الذاريات: 36]، ومع ذلك فلفظ المسلمين مع إطلاقه يسبق إلى الذهن أنه ما أريد به إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الاسلام جاءها على أكمل وجوهه، وأتم نوره، وأوسع أحكامه؛ وتصدير الذين آمنوا في الذكر للحكمة التي أشرت إليها من قبل؛ وبهذا الذي ذكرته ينجلي ما تصوره أكثر المفسرين من الإِشكال في المراد بالذين آمنوا حتى اختلفوا في المراد بهم على أقوال.
منها أنهم المنافقون لأنهم آمنوا بألسنتهم وإن لم يدخل الإِيمان في قلوبهم، وهو مروي عن سفيان الثوري، واقتصر عليه صاحب الكشاف وأبو السعود، وعضده بقرينه انتظامهم في سلك الكفرة، وذكر أن التعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عُبِّر عنها بالإِيمان لا تجديهم نفعا أصلا، ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا.
وهو قول مرفوض إذ لم يُعهد وصف المنافقين في القرآن بالإِيمان بل نفى الله عنهم الإِيمان بقوله:
{ { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8]، وقوله: { { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14]، وقوله: { { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1].
ومنها أنهم الحنيفيون - وهم الذين فارقوا قومهم لما رأوهم عليه من الضلال وآمنوا بالحنيفية الحقة كزيد بن عمرو، وورقة بن نوفل، وقس بن ساعده - وبه صدر القطب -رحمه الله - في التيسير وحكى غيره بصيغة قيل، وفي ذلك دليل على أنه مختاره.
وهو مردود بأن الحنيفيين منهم من مات قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وهو على الإِيمان الذي هداه الله إليه، ومنهم من أدرك بداية نبوته عليه أفضل الصلاة والسلام فآمن به قبل أن يرسل، وهو ورقة بن نوفل رضي الله عنه، ولم يبق منهم أحد، ولم يبق داع إلى مسلكهم في الإِيمان، بعدما أنزل الله القرآن بالبينات والهدى، واتضحت للناس الحجة وانفتحت لهم أبواب الرشد مع أن ذكر الذين آمنوا في صدر الآية للتنويه بشأنهم والدعوة إلى منهجهم.
ومنها أنهم هم الذين نطقوا بالشهادتين لأن ذلك يسمى إيمانا في الظاهر مع غض النظر عن إقرار مضمونها في القلب وتصديقهما بالعمل، واقتصر عليه القطب رضوان الله عليه في الهيميان، وهو كسابقه لأن الإِيمان اللساني وحده لا اعتداد به عند الله حتى يطلق على أصحابه وصف الذين آمنوا.
وما ذكرته من أن أتباع النبيين كلهم يصدق عليهم وصف الإِسلام والإِيمان لا ينافي أن تكون لهم ألقاب أخرى.
وبما حررته في "الذين آمنوا" ينكشف غيم إشكال آخر تصوره بعض أهل التفسير، وهو تقييد الوعد في آخر الآية بالإِيمان والعمل الصالح مع أن وصف الذين آمنوا نص في إيمانهم، ومقتض لعملهم الصلاح وهذا الإِشكال لا ينشأ على الأقوال الثلاثة التي حكيتها عن المفسرين قبل قليل في المراد بهؤلاء، وقد أدى هذا الإِشكال بمن تصوَّروه إلا الاختلاف في المراد بهذا التقييد، منهم من قال: هو خاص بغير الذين آمنوا وهم الذين هادو والنصارى والصابئون، ومنهم من قال: يراد به في الذين آمنوا الاستمرارية والدوام، وفي غيرهم الإِنشاء من جديد، وإذا أدركتم أن المراد بالذين آمنوا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تتصوروا شيئا من هذا الإِشكال، كيف وقد وصف الله تعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - وهم قاعدة أمته وعلمها - بأكمل الأوصاف ثم قال فيهم:
{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الفتح: 29]؟ واذا جاز نحو هذا في خير القرون أفلا يجوز في الأمة عموما؟ وتخصيص التقييد ببعض المذكورين دون بعض دعوى لا دليل عليها، وحمله في بعضهم على الاستمرار وفي بعضهم على الإِنشاء حمل للفظ على حقيقته ومجازه في إطلاق واحد.
والذين هادوا هم أمة موسى علي السلام، وتسميتهم بذلك مأخوذة من قوله سلام الله عليه:
{ { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } [الأعراف: 156]، اعتذارا إلى الله من عبادة قومه للعجل، وعليه فإن هاد بمعنى تاب، ووصفوا بذلك لتوبتهم من عبادتهم العجل، وقيل: من هاد بمعنى مال لأنهم كانكوا يتهادون أي يتمايلون عند تلاوتهم التوراة وهو ضعيف، وقيل سُمَّوا بذلك لدينونتهم باليهودية، ويهود تعريب ليهوذا، وهم اسم لأكبر ولد يعقوب عليه السلام فيما قيل، وسمي به السبط الذي ينحدر من سلالته، ويرى الإِمام ابن عاشور أن إطلاق هذا الإِسم على بني إسرائيل كان بعد موت سليمان عليه السلام عام (975) قبل الميلاد لأن مملكة اسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين، مملكة رحبعام بن سليمان ولم يتبعه إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين وتُلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط يهوذا، وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه أورشليم، ومملكة ملكها يوربعام بن مناط غلام سليمان، وكان شجاعا نجيبا فملكته بقية الأسباط العشرة عليهم، وجعل مقر مملكته السامرة، وتلقب بملك إسرائيل إلا انه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدو الأوثان، فلأجل ذلك انفصلوا على الجامعة الإِسرائيلة ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين ونيفا وخمسين سنة، ثم انقرض على يد ملوك الأشوريين فاستأصلوا الإِسرائيلين الذين بالسامرة وخربوها، ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيدا لهم، وأسكنو بلاد السامرة فريقا من الأشوريين، فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل ملك إلا ملك يهوذا بأورشليم يتداوله أبناء سليمان عليه السلام، فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يهود أي يهوذا، ودام ملكهم هذا إلى حد سنة (120) قبل الميلاد في زمن الامبراطور أدريان الروماني الذي أجلى اليهود الجلاء الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود، هم ومن التحق بهم من فلول بقية الأسباط.
قال: "ولعل هذا وجه اختيار لفظ { ٱلَّذِينَ هَادُواْ } في الآية دون اليهود للإِشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا، ثم صار اسم اليهود مطلقا على المتدينين بدين التوراة.
قال تعالى:
{ { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ } الآية [البقرة: 113] ويقال تهوَّد إذا اتبع شريعة التوراة، وفي الحديث: "يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" ويقال هاد، إذا دان باليهودية، قال تعالى: { { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [الأنعام: 146].
والنصارى هم أصحاب الإِنجيل الذي حُمِّلوا، واحدهم نصراني، وأصله نصران كندمان وندامى، وسكران وسكارى وذكر في الكشاف أن ياءه للمبالغة كأحمري، وقيل: أصله ناصري نسبة إلى ناصرة التي نسب إليها المسيح عليه السلام كما جاء في الإِنجيل "يسوع الناصري" فغُيِّر إلى نصراني، وقيل: هو مأخوذ من النصر لقول الحواريين:
{ { نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } [آل عمران: 52]، ونُسب إليه المسيح كما في بعض تسميات أهل الكتاب له، واستدل سيبويه على أن أصل مفرده نصران بدون ياء كندمان بمجيء مؤنثه على نصرانة في قول الشاعر:

"كما سجدت نصرانة لم تَحَنفِ"

وأنشد بعضهم:

تراه إذا ذر العشى محنفا ويضحى لديه وهو نصران شامس

والصابئون جمع صابئ من صبأ - بالهمز - إذا ظهر وطلع؛ سُموا بذلك لتميزهم عن سائر أصحاب الديانات بمعتقداتهم وعباداتهم الخاصة بهم، ولذلك كانت العرب تسمي المؤمنين بالصابئة لخروجهم عن دياناتهم؛ وانفرد نافع بقراءة الصابين بحذف الهمزة تخفيفا والأصل الهمز كما علمتم بدليل قراءة الجمهور، وقيل: أصله من صبا يصبو بمعنى مال، سُموا بذلك لميلولتهم عن الديانات إلى ما اختاروه لأنفسهم من الدين؛ والصواب الأول لاشتهار قراءة الهمز، ولأن الطريقة المتبعة تخفيف المهموز لاهمز غير المهموز.
وللمفسرين والفقهاء والمؤرخين وسائر الباحثين آراء متعددة في الصابئين، فعن مجاهد قال: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ولا دين لهم، وروي عنه أنهم بين المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، وروى ما يقرب منه عن ابن أبي نجيح، وروى عن ابن زيد أنهم أصحاب دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ونبي إلا قول: لا إله إلا الله، قال: ولم يؤمنوا برسول الله، وألحقهم بعض بالمجوس وهو مروي عن الحسن، ورُوي عن قتادة أنهم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرأون الزبور، ونحوه عن أبي جعفر الرازي، وروي عن زياد أنه أخبر عنهم أنهم يصلون إلى القبلة ويصلون خمس صلوات فأراد أن يضع عنهم الجزية، فأخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
وروى أبو الزناد عن أبيه أنهم قوم مما يلي العراق وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات.
وذهبت طائفة من العلماء إلى أنهم من أهل الكتاب، وهو الذي تقتضيه بعض آثار أهل المذهب، وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسُّدى وأبي الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه، وقالوا فيهم: إنهم يقرأون الزبور. ونص أبو حنيفة وإسحاق على جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وهو مما يؤكد كتابيتهم عندهما.
وورد في دائرة المعارف الإِسلامية - وهي من وضع المستشرقين - أن اسم الصابئة مشتق من أصل عبري ص ب ع أي غطس، وأن الصابئة تنقسم إلى قسمين:
1) المنديلم والصبوة وهي تمارس شعيرة التعميد أو الغطاس وهم صابئة العراق.
2) صابئة حران وهي فرقة وثنية ربما لم تكن تعرف هذه الشعيرة على الإِطلاق وإنما اصطنعوا هذا الاسم من قبيل الحيطة مبتغين أن ينعموا بالسماحة التي أظهرها القرآن لليهود والنصارى.
وذكر الإِمام ابن عاشور أن الأظهر عنده أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أو ما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق.
ونقل عن بعض علماء الإِفرنج زعمه أنهم سُموا صابئة لأن دينهم أتى به قوم من سبأ.
وفي بعض آثار أصحابنا أن الصابئين قوم أخذوا ما طاب لهم من التوراة وما طاب لهم من الإنجيل وقالوا قد أصبنا دينا، وظاهر هذا القول أن تسميتهم بالصابئين مأخوذة من قولهم هذا، وعليه ففي حروفه قلب، والأصل صائبون.
وروي عن وهب بن منبه أنه سئل عنهم فقال الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا، ويتفق مع هذا الرأي ما ذهب إليه الأستاذ سيد قطب، وهو أنهم قوم من العرب شكوا في عقيدة الجاهلية فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها فاهتدوا إلى التوحيد وقالوا إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى ملة إبراهيم، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم، فقال عنهم المشركون إنهم صبأوا - أي مالوا عن دين آبائهم - كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك، ومن ثم سُمُّوا الصابئة.
وقد كنت أجنح إلى هذا الرأي ترجيحا لأصل المدلول اللغوي للفظ صبأ غير أن وجود طائفة بهذا الاسم معروفة لدى العلماء الذين كتبوا عنهم يرجح أن المقصود به تلك الطائفة، ولست أرى اختلاف الكاتبين عنهم في اصول معتقداتهم وأوصاف عباداتهم إلا ناشئا عن اللبس الحاصل من حالهم بسبب تكتمهم وإخفائهم أصول ديانتهم لئلا تظهر على حقيقتها.
ولكتاب المقالات في الأديان والفرق مجال واسع في الحديث عن الصابئين، وتجد مقالاتهم فيها تلتقي تارة وتفترق تارة أخرى، وملخص ما قيل عنهم أنهم قوم يقدسون الروحانيين، ويتعصبون لهم، معتقدين أن للعالم صانعا حكيما مقدسا عن صفات النقص والحدثان، وأن الوصول الى جلاله مستحيل، فلذلك يتقربون إليه بالمتوسطين الذين يعتقدون أنهم مقربون عنده وهم الروحانيون الذين طُهروا تطهيرا، وفُطروا على التقديس والتسبيح، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يتورعون عن وصفهم بالربوبية والألوهية كما يعتقدون شفاعتهم عند الله وهو رب الأرباب، وبجانب ذلك يعتبرونهم متوسطين في الاختراع وتسيير أحوال الكون لاستمدادهم القوة من الحضرة الإِلهية، ومنهم يفيض ما يفيض منها على الموجودات السفلية ويعتقدون اختصاص كل من الروحانيين بهيكل معين له فلكه الخاص، ويبدو أنهم يتجهون إلى هذه الهياكل في عبادتهم لاعتقادهم حلول الروحانيين بها، وكونهم منها بمثابة الأرواح من الأجساد، ولذلك قال من قال فيهم: إنهم يعبدون الكواكب، وقال آخرون: يعبدون الملائكة: ويعدُّون طهارة النفس وتزكيتها بقدر اقترابها من الطبائع الروحانية وتجردها من آثار القوى الغضبية والشهوانية، لأنها تكون بذلك أكثر انسجاما وتآلفا مع الروحانيين الذين يتقربون إليهم، ونُسب إليهم أنهم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، وإنما المشهور عن أوائلهم أنهم يدعون عند المعلمين الأوَّلَين للصابئة هما عادمون وهرمز، وهما شيث بن آدم وإدريس عليهما السلام، ولا يعترفون بنبوة غيرهما، وكانت لهم مملكة بالعراق، فلما ظهر عليها الفرس قضوا على مملكتهم ومنعوهم من عباداتهم، ولعل هذا الذي دعا بعض العلماء إلى القول بأنهم من المجوس، وتسلط الروم على صابئة الشام، فلما تنصر قسطنطين امبراطور الروم حملهم بالسيف على التنصر، وهذا الذي جعلهم في حكم النصارى حتى عوملوا معاملتهم في الإِسلام، والنصارى تسميتهم يوحنّا نسبة إلى يوحنا المعمدان، وهو يحيى عليه السلام، وذكر ابن حزم أن دينهم الذي ينتحلونه هو اقدم أديان الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه ما أحدثوا فبعث الله إبراهيم عليه السلام، ولئن كان كذلك فهم كانوا على التوحيد إلى أن شابوه بالمعتقدات الضالة، ومن القائلين من قال: إنهم الكلدانيون الذين بُعث إبراهيم صلى الله وسلم على نبينا وعليه بدعوتهم إلى الهدى ودين الحق.
وشُهرت الصابئة بالحرنانية - نسبة إلى حران على غير قياس - ولعل هذه النسبة خاصة بصابئة الشام لكون حران حاضرتهم، ويحتمل أن تكون سرت إلى غيرهم من الصابئين، وذكر ابن تيمية أن معبدا كبيرا كان لهم تحت جامع دمشق قبلته إلى القطب الشمالي، ويرى ابن تيمية أن الصابئين المعنيين في الآية هم الذين اتبعوا ملة ابراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإِنجيل ثم دانوا بالتوراة ثم بالإِنجيل قبل نسخهما وتبديلهما بخلاف المتمجسين منهم والذين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين كالفلاسفة الذين أنكروا المعاد، أو الذين أنكروه وأنكروا حدوث العالم كأرسطو.
ويومئ كلامه إلى أن فلاسفة أثينا كانوا من الصابئين وأن أسلافهم كانوا من أهل التوحيد.
وعد من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من هؤلاء بالأجر عند ربهم وعدم الخوف والحزن، وفي المراد بقوله: { مَنْ آمَنَ } قولان: قيل أُريد به من التزم بالعقيدة الصحيحة التي بعث بها النبي المُرسلُ إلى أمته والتزم بما تقتضيه من العمل، وعليه فإن هؤلاء هم الذين درجوا على نهج الرسل السابقين قبل نسخ شرائعهم، وقيل: أُريد به من آمن بالنبي الخاتم - صلوات الله وسلام عليه - عندما بُعث بالملة الخاتمة والشريعة الجامعة، مصدقاً لما أنزل قبله على النبيين - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين - وعليه فالآية نزلت داعية إلى الإِيمان به، - صلوات الله وسلامه عليه - وترك التشبث بشيء من الملل والشرائع السابقة بعدما نسخت بما جاء به - صلوات الله وسلامه عليه - وانما خُصَّ اليهود والنصارى والصابئون بالذكر من بين سائر أصحاب الملل والديانات لأنهم أجدر بالسبق إلى الإِيمان لمعرفتهم بالنبوات وما بقي عندهم من علم الكتاب الذي ينطوي على بشائر جَليّة ببزوغ شمس الرسالة المحمدية الطاوية لظلام الجهل والشك، وذِكرُ الذين آمنوا قبلهم للحكمة التي أومأت إليها من قبل، وهذا القول الأخير أرجح في نفسي مما قبله.
والإِيمان بالله يَصْدُق على الإِيمان بذاته وصفاته وأفعاله، ومن أفعاله التي يجب بها الإِيمان: بعثُهُ الرُّسل، وإنزاله الكتب، فيستنتج من هذا دخول أركان الإِيمان الستة التي ورد بها حديث جبريل - عليه السلام - في مدلول الإِيمان بالله وإنما تُلِّي بذكر الإِيمان باليوم الآخر مع أنه من بين هذه الأركان لأهميته، فإنه أقوى العوامل في تقويم المنحرفين وردِّ الشاردين، وذلك أنَّ الإنسان بإيمانه بالخالق العظيم تنبعث في نفسه بواعث على طاعة هذا الخالق الذي أحسن صنعه وصنع كل شيء، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ولكن مؤثرات شَتَّى - منها نفسيٌّ ومنها أجنبي - كثيراً ما تقف بهذه البواعث وتصرف النفس عن الشكر إلى الكفران، وعن الطاعة إلى العصيان، وعن الذكر إلى الغفلة، وعن الهدى إلى الضلالة، فتيار الشهوات العارم قد يقضي على كل أثرٍ للضمير في النفس، وعواصف الغرائز الهوجاء قد تطفئ كل جذوة من العقل، إلا انه اذا آمن مع ذلك بالمعاد الذي يحاسب فيه على ما قدم وأخر، وأسرّ وأعلن قوي في نفسه جانب عقله وضميره وأمكنته مقاومة شهواته وغرائزه وتذليلها حتى يقتادها في النهج السويّ، فتكون منا شيء للرحمة والخير والإِحسان، ومن هنا كان المؤمن بالله واليوم الآخر آخذاً من حبل الإِيمان بطرفيه، وهذه هي حكمة اقترانهما وتكررهما في القرآن والسنة وخصوصاً في معرض الأمر أو النهي، وفي مقام الدعوة أو التحذير.
والعمل الصالح أثر من آثار الإِيمان لا يمكن انفكاكه عنه كما لا ينفكُّ الظلُّ عن الجسم لأن الإِيمان بالله واليوم الآخر يقتضيان الانقياد لله في حكمه والإِذعان له في أمره، كيف والآمر الناهي هو الله الخالق الكريم الذي منه المبدأ وإليه الرُّجعى، والذي يجزي كل أحدٍ بما عمل: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }.
والعمل الصالح ما وافق أمر الله ونهيه فيدخل فيه اجتناب المنهيات لأن الخير لا يجتمع مع ضده، والاكتفاء بإجماله في الآية لمعرفة الفئات المذكورة فيها بتفاصيله بما عندهم من علم الكتاب. وإن من الأعمال الصالحة ما لم تختلف فيه الكتب المنزّلة، كإفراد الله بالعبادة، واجتناب كل ما أدّى إلى الإِشراك به أو أدنى منه، وعون الضعفاء وإغاثة الملهوفين ونصرة المظلومين، ومعاملة الناس بالحسنى.
والأجر: الجزاء، وسُمِّيَ جزاؤهم أجراً لأنهم أُمروا فامثتلوا وحُمِّلوا فتحمَّلوا، فكانت أعمالهم كأعمال الأجير الذي يطمع في صاحب العمل أن يُوفِّيه أجره، وكونه { عِندَ رَبِّهِمْ } مما يضاعف طمأنينتهم فإنه في مستودع آمن، وقرارٍ مكين، إذ لا يصل إليه مختلس ولا غادر وإنما يوفِّيهم إياه ربُّهم كما وعدهم به.
وقد مضى تفسير الخوف والحزن.
وذكر جماعة من أهل التفسير لنزول الآية سبباً، وهو أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - حدث النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أصحابه فقال:
"كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان هم من أهل النار" فشق ذلك على سلمان فنزلت الآية، وهذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لمعارضته ما ثبت عنه بالنصوص القاطعة أنه لا ينطق عن الهوى ولم يكن ليقول على الله ما لا يعلم، إذ هو مبلغ في أخباره عن الله، فلا يمكن أن يقول عن أحد هو من أهل النار، وليس كذلك، والرواية محكية من طريق السُّدِّيّ وهو معروف بنقل الغرائب التي لا تصح عقلا ولا نقلا، هذا بجانب سقوط أكثر من راوٍ في سندها، ولئن صحَّ كون سؤال سلمان سببا لنزولها فقد نزلت قبل أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، وهذا الذي تفيده رواية ابن أبي حاتم عن سلمان ونحوه عن مجاهد عند الواحدي.
وروى أبو داود في الناسخ والمنسوخ وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما يدل على أنه يرى الآية منسوخة بقوله تعالى:
{ { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران: 85]. ولئن صح ذلك عنه، فهو محمول على نسخ التبعد بشرائع الأنبياء السابقين بالشريعة المحمدية الخاتمة، ولا ينافي ذلك ما دلت عليه هذه الآية على أي واحدٍ من التفسيرين السابقين لأنها خبر ولا نسخ في الأخبار.