التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ
٦٩
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
٧٠
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
-البقرة

جواهر التفسير

هذه القصة من الأحداث الواقعة في عهد موسى عليه السلام، ذكرت بعد سابقتها مع تقدمها عليها بقرون، لأن القرآن الكريم لا يراعي في ذكره الأحداث تسلسل وقوعها وإنما يأتي بها للعبرة والذكرى كما سبق، ويلحظ اختلاف هذه القصة عن سوابقها في العرض، فقد تميزت عنها ببيان وتفصيل لم يكونا للقصص المتقدمة، وهذا لأن سائر هذه القصص جاءت مفصلة في القرآن المكي فاكتفى بالإِشارة إليها هنا عرضا للتنبيه والذكرى وإقامة الحجة على بني اسرائيل المعاصرين للوحي الذين كانوا مقصودين بهذا الخطاب بينما لم يكن ذكر لهذه القصة في غير هذا الموضع، فكانت جديرة بهذا البيان.
وهي كسائر القصص المذكورة ترسم صورة في مخايل قرائها وسامعيها للنفوس الإِسرائيلية وما اعتادته من العنت والإِلحاح وعدم الاقتناع والوثوق بأقوال الرسل، وما ينشأ عنه ذلك من تبلد الأذهان وزيغ الأفكار وخبث الطوية وجفاء الطبع.
ولعل بعض الذين في قلوبهم مرض حاولوا الطعن والتشكيك في القرآن، لذكره هذه القصة مع خلو التوراة منها، وكفى ردا عليهم أن القرآن أعظم حجة وأنصع برهانا من كل كتاب، فإن الله تكفل بحفظه من كل عابث ومحرف، ولم يكن هذا الصون والرعاية للتوراة ولا لغيره من الكتب السابقة، فكم فيها من تحريف وتبديل وزيادة ونقص؟ فغير بعيد أن تكون من ضمن ما انتزعته الأيدي المحرفة من التوراة على أن الإِمامين محمد عبده وابن عاشور لم يستبعدا أن يكون في التوراة ما يشير إليها وهو ما في سفر التشريع الثاني (تثنية) الإِصحاح الحادي والعشرين أنه إذا وُجد قتيل في الأرض التي أعطاها الرب لإِسرائيل واقعا في الحقل لا يُعلم من قتله يخرج الشيوخ والقضاة ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل، فما كان منها أقرب إلى موضعه يأخذ شيوخها عجلة من البقر لم يحرث عليها، ويأتون واديا دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع فيكسرون عنق العجلة في الوادي، ثم يتقدم الكهنة من بني لاوي، ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجل صارخين بقولهم: أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر، اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل، فيغفر لهم الدم.
وبداية هذه القصة قوله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } وإنما قدم اللاحق فيها على السابق رعاية للمقام، فإن ما ذكر من قبل كان نداء على بني إسرائيل بضلال الفكر وسوء التصرف في مواجهة ما يأمرهم به موسى عن الله عز وجل وما يجريه الله على يديه من آيات بينات تنادي بأنه رسول من الله لا ينطق إلا بوحيه ولا يتصرف إلا بأمره، وفي طي ذلك تذكير بآلاء الله الداعية إلى شكره بطاعة أمره والاستجابة لرسوله، وما ذكر هنا لا يختلف عن هذا السياق فهو من ناحية خبر عن تعنتهم على نبيهم وإصرارهم على مخالفة أمره حتى فيما هم فيه أحوج ما يكونون إلى الطاعة والامتثال لدرء الفتن عنهم، ومن ناحية أخرى هو تذكير بالنعمة السابغة، وهي وجود المخلص لهم من شر أحاط بهم، فقد روي أن الحادثة المشار إليها - وهي وجود قتيل بين ظهرانيهم لا يعرفون قاتله - دفعت بأسباطهم الى الفرقة والشقاق، فكان كل سبط يدفع التهمة عن أفراده ويقذف بها في صدر سبط آخر حتى كادوا يتداخلون بالسلاح لولا أن قيض الله من أولي الفطنة منهم من ردهم إلى الاحتكام إلى موسى عليه السلام.
هذا هو رأي جمهور المفسرين في ترتيب القصة، وخالفهم فيه ابن عاشور قائلا: "لا يخفى أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منها بقوله (وإذ) مع بقاء الترتيب على أن المذام قد تعرف بحكايتها، والتنبيه عليها بنحو قوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } - وقوله -: { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }.
قال: "فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة - إلى أن قال - وكانت القصة الثانية منه عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسوله بينّها الله لهم ليزدادوا إيمانا، ولذلك خُتم بقوله: { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }، وأتبعت بقوله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ }.
وهذا التوجيه يفهم من قول القرطبي: "ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع من أمر القتل فأمروا أن يضربوه ببعضها".
والظاهر أن الأمر بذبح البقرة لم يكن إلا إثر القتل - كما قال الجمهور - لأن استنكارهم إياه بقولهم: { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } وتقصيهم في السؤال عن أوصافها كان - حسبما يتبادر - بسبب استغرابهم من مواجهة موسى عليه السلام شكواهم بهذا الأمر الذي لم تستسغه أفهامهم.
واسم البقرة صادق على الذكر والأنثى من أفراد البقر خلافا لمن خصه بالأنثى كاختصاص الثور بالذكر.
وذكر المفسرون خلافا واسعا في هذه القصة ويجمع ما ذكروه أن القاتل كان قريبا للمقتول فطمع أن يرثه لأنه كان ثريا، ومنهم من أضاف إلى ذلك أن المقتول كانت عنده امرأة حسناء فطمع أن ينكحها من بعده، وقيل كانت له ابنة فخطبها إليه فرفض تزويجها منه.
وقولهم: { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } جوابا لموسى وهو يبلغهم أمر الله دليل على أنهم خلعوا ربقة الإِيمان من أعناقهم، إذ ما كان لأمة مؤمنة ولا جماعة مؤمنة أن تقابل نبيها بمثل هذا الجواب الجافي ولو صدر ذلك مما سبق إيمانه لكان في عداد المرتدين، وقيل: لا يُعد هذا ارتدادا منهم ولم يكونوا بهذا القول مكذبين لرسول الله موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، وإنما ذلك مما تفرزه طبيعتهم الجافية، كقول أحد المنافقين عندما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله".
والبقرة التي أُمروا بذبحها لم تكن مقيدة بما وصفت به بعد من الأوصاف، فلو قاموا إلى أي بقرة فذبحوها لبلغوا المطلوب وحصل لهم الامتثال، ولكنهم شددوا فشُدد عليهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم أو لأجزأت عنهم" أخرجه البزار من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج عنه ابن أبي حاتم وابن مردويه مرفوعا: "لو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم"، وروي ذلك مرسلا بأسانيد مختلفة، ورواه ابن جرير موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما، وفي هذا ما يدل على أن التنطع في الدين والغلو في التنقيب عما لم يشرع فيه من مكروهات الله تعالى المؤدية إلى التشديد على خلقه، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال" وفي حديث آخر "إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم لأنبيائهم واختلافهم عليهم" وكان صلى الله عليه وسلم يغضب من كثرة الأسئلة ويطلب من الناس أن يتركوه ما تركهم، وقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: "إن من أشد الناس إثماً رجلاً سأل عما لم يحرم فحرم لأجل مسألته" .
وقيل هي معينة محدودة بأوصافها وإن لم تذكر أولا، ونحن لا ننازع في تعينها في علم الله سبحانه، ولكن ذلك لا يقتضي تعينها بموجب التشريع الذي خوطبوا به أولا، فلو أنهم قاموا إلى أي بقرة فذبحوها كانوا ممتثلين ويدل على عدم التعين في الحكم الأول والثاني أن موسى عليه السلام كان يستعجلهم امتثال الأمر بقوله: { فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } رغبة منه في مبادرتهم إلى الطاعة وخوفا من أن يفضي بهم تعنتهم في المسألة إلى الإِرهاق في التكليف.
واستدل الفخر للقول بتعينها بأن الضمائر المتكررة في قوله: { إِنَّهَا بَقَرَةٌ } عائدة إلى نفس البقرة التي أمروا بذبحا لأنها جاءت ردا على سؤالهم بقولهم: "ما هي"، و"ما لونها"؛ وليس في ذلك من دليل لأنهم مأمورون بذبح بقرة في الجملة ومطالبون بأن يسارعوا إلى امتثال هذا الأمر، والأوصاف التي جاءت من بعد ما هي إلا كتخصيص للعمومات المتعبد بها بعد امكان امتثالها، وقد صرح الأصوليون بجواز تخصيص العام بعد العمل بعمومه، وهذا يعني أن التعبد أولا كان بالعموم ثم بخصوصه، ولما كانوا متعبدين بذبح بقرة من جنس البقر - ولكل فرد من هذا الجنس أوصاف يتميز بها - وأخذوا يسألون عن أوصافها ويبالغون في ذلك أعيد الضمير في الجواب الكاشف للأوصاف إلى البقرة التي أمروا بذبحها من غير لوزم بأن تكون البقرة التي خوطبوا بذبحها أولا محددة بهذه الأوصاف.
وتقدم في قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } بيان الهزء، وهو بضم أوله وإسكان الزاي والهمز، وبهذا قرأ حمزة من السبعة وخلف في مختاره من سائر العشرة واسماعيل والقزاز عن عبد الوارث والمفضل، وتتبع الزاي الهاء في الضم، وبذلك قرأ الجمهور، غير أن حفصا خفف الهمزة بإبدالها واوا، والآخرون أثبتوها.
وهو هنا مصدر بمعنى المفعول أي مهزوءا بنا، وذلك للمبالغة كأنهم اعتبروا أمره لهم بذبح البقرة كجعلهم نفس الهزء لكثرة الاستهزاء بهم حسبما اعتقدوا، وأجيز أن يكون على حذف مضاف اي مكان هزء أو ذوي هزء، وإجابتهم هذه لنبيهم على ما أبلغهم إياه من أمر الله دليل على سوء معتقدهم في أنبيائهم حيث أجازوا عليهم الكذب على الله في مقام التبليغ عنه، وهو اعتقاد لا يجامع الإِيمان إذ هو كفر صراح، وإن اعتذر لهم من اعتذر بأن ذلك جرى على ما اعتادوه من فضاضة القول الناشئ عن جفاء الطبع، وأن سببه ما رأوه بأنظارهم القاصرة من التباين بين طلبهم من موسى تعيين القاتل ورده عليهم بأن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة، أو أنهم حسبوا هذا الرد دعابة منه عليه السلام لهم، أو أن في الكلام محذوفا تقديره الله أمرك أن تتخذنا هزوا، أو أنهم قصدوا بالاستفهام الاسترشاد لا الإِنكار والعناد.
وهذه المعاذير لا تغني فتيلا، ولا داعي إلى أن أشغل الوقت ببيان زيفها.
وجوابه لهم بقوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } يقتضي أن الاستهزاء ليس من شأن العقلاء العالمين وإنما هو من شأن السفهاء الجاهلين فكيف يصدر من نبي مرسل في مقام الدعوة إلى الحق وتبليغ أمر الله، وهو وإن أسند الى الله في قوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } فليس هو على حقيقته وإنما أريد مجازاتهم على استهزائهم كما سبق، واستعاذته عليه السلام من كونه من الجاهلين في هذا المقام مشعرة بأن الجهل لا ينحصر في عدم المعرفة بالشيء أصلا وهو من شأنه أن يعرف، وفي اعتقاده بخلاف ما هو عليه بل يطلق الجهل على الإِتيان بالشيء بخلاف ما كان ينبغي إتيانه، لأنه مما لا يصدر عادة إلا من الجاهلين به وصدوره من العارفين به يلحقهم بمصاف الجاهلين، إذ لا تعد الخبرة بالإِتقان مع عدمه شيئا.
ومراده عليه السلام بالجاهلين هنا الجاهلون بأمر الله الذين يهرفون بما لا يعرفون، فيأتون بالهزل في مقام الجد ويلبسون الحق بالباطل، أو الجاهلون بجواب ما سأل عنه بنو إسرائيل من شأن القتيل الذي لم يعلم قاتله، ذلك لأنهم لم تمتد أنظارهم القاصرة إلى بعد خطابه، ولم تصل أفهامهم إلى حقيقة مراده.
وبعد هذا الجواب الجاد انتبهوا إلى أن الأمر بعيد عن الهزل وأدق من أن تدركه مشاعرهم الغليظة، فاستسلموا مع شيء من العناد يتمثل في هذا التقصي في طلب كشف أوصاف البقرة التي أمروا بذبحها، { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ }، وليس الاستفهام بما هنا عن الماهية، وإنما هو عن أوصافها ذلك لأن ما يستفهم بها عن الصفة كما يستفهم بها عن الماهية، فلو تحدث متحدث عن حاتم فسأله سائل: ما حاتم؟ كان جوابه: كريم، وكذا لو سأل أحد عن الأحنف وهو يعلم أنه من جنس البشر بقوله: ما الأحنف؟ فجوابه: حليم، ولكل شيء أوصاف متعددة يجوز السؤال عن كل منها بـ "ما"، وقد علم الله الوصف الذي هم قاصدوه بهذا الاستفهام الذي منشؤه حيرتهم، من كون معرفة قاتل ميتهم تكون بإماتة حي من جنس البقر، إذ لا علاقة بين الأمرين حسبما يبدو قبل الإِطلاع على سر أمر الله، وتتضاعف هذه الحيرة إن كانوا سمعوا من موسى عليه السلام أن بذلك يتم احياء الميت المقتول بضربه بجزء من البقرة المذبوحة، فإن تصور حياة ميت بضربه بجزء من ميت آخر لا يكون مع الالتفات إلى طبيعة تأثير الأسباب في مسبباتها، وإنما يحصل ممن آمن إيمانا مطلقا برب الوجود الذي يهيئ ما شاء من الأسباب لما يشاء من المسببات من غير تقيد بسنة مألوفة ونواميس معروفة، وقد كان استفهامهم عن السن فأجيبوا بقوله: { إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }.
والفارض ما تعدى سن القوة والفتوة إلى سن الضعف والشيخوخة، وقد يطلق على القديم ولو كان أمرا معنويا كقول الشاعر:

ورب ذي ضغن عليَّ فارض له قروء كقروء الحائض

وأصله الفرض بمعنى القطع لأن المسنة قطعت غالبا العمر المعتاد؛ والبكر الفتيُّ، ويطلق على الذكر والأنثى وهو مأخوذ من البكرة بمعنى الغدو لأن البكر في أول مراحل العمر ودخول "لا" على الوصفين لنفيهما وإثبات وصف آخر بينهما، وهو المصرح به بقوله: { عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } أي نَصف متوسطة بين الفتوة والهرم، ويطلق العوان على النصف من النساء والحيوان، ومنه المثل "العوان لا تعلم الخِمرة"، ومن حيث كون هذه المرحلة متميزة بالقوة أطلق هذا الوصف على ما هو شديد الوطأة كقولهم "حرب عوان".
وفسر أهل التفسير الفارض بالهرمة التي لا تلد لكبرها، والبكر بالصغيرة التي لم تصل إلى حد الولادة، وخالفهم السُّدي في البكر فقال - فيما أخرجه ابن جرير عنه - إنها التي لم تلد إلا مرة واحدة، وما قالوه أنسب بالمعروف في الاستعمال فإن المتداول لغة وعرفا أن البكر من الإِناث ما لم يفتحله الفحل سواء في الآدميات أو البهائم. وفسروا العوان بالتي ولدت مرة أو مرتين.
والظاهر أنّ وصف العوان ينطبق على كل والدة إلى أن تصل إلى حد ما لا يلد للكبر، لأن هذه المرحلة متوسة بين البكارة والهرم.
وبين للتوسط بين شيئين فصاعدا وإنما أضيفت هنا إلى اسم الإِشارة الذي للمفرد المذكر لأن الوصفين المذكورين من قبل - وهما الفارض والبكر - بانقضاء ذكرهما كانا كالشيء الواحد المعبَّر عنه بما تقدم أو ما ذكر فلذلك جازت الإِشارة إليهم بصيغة المفرد المذكر كما جاز عود الضمير المفرد المذكر إلى شيئين تقضي ذكرهما وذلك نحو قول الراجز:

فيها خطوط من سواد ويقق كأنه في الجلد توليع البهق

وعندما قيل له إن أردت الخطوط فقل كأنها، وإن أردت السواد واليقق فقل كأنهما، قال: أردت كأن ذلك ويحك.
وفي قول موسى عليه السلام لهم إثر ذلك { فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } استحثاث لهم على الامتثال وإشفاق عليهم مما يترتب على ترددهم من العقوبة بتغليظ التكليف الذي كانوا بمنأى عنه أول الأمر وإنما طرأ عليهم تأديبا لهم على تعنتهم في المسألة، ولكن أنى لهم ذلك، وقد عودوا أنفسهم الاستخفاف بأمر الله والتنطع على رسله حتى فسدت فطرتهم وانطمست بصيرتهم فصار ذلك جزاء من جبلتهم، فلذا أعادوا السؤال ثانية بما حكاه الله عنهم هنا في قوله: (قالوا يا موسى ادعُ لنا ربك يبين لنا ما لونها) وما لِلَّون وما كُلفوا به لولا عدم تَهَيئهم لاستقبال أمر الله كما يجب ومحاولتهم التهرب منه بهذه المناقشات الفارغة التي لا تثمر إلا ضياع الوقت وسوء الطبع والتعود على التمرد والبعد عن الطاعة غير أنهم عوقبوا بجزاء من جنس ما سألوه، فكان هذا الجواب: { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ } فرض عليهم لون خاص في تلك البقرة وهو الصفرة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جاوزه إلى اشتراط فقوع اللون وهو أبلغ ما تكون فيه الصفرة فإن الفاقع للأصفر كالحالك والداكن للأسود، والقاني للأحمر واليقق للأبيض، يراد به الخلوص والنصاعة بحيث لا يشوبه لون آخر، وروي عن الحسن البصري أن المراد بالصفراء هنا شدة السواد واستدل بعضهم لقوله بقول الشاعر:

تلك خيلي منها وتلك ركابي هي صفر أولادها كالزبيب

وهو قول لا يعتد به لمخالفته الوضع والاستعمال، فإن العرب خصصت لكل لون من الألوان باسم مشهور لا يشبه بغيره، ويؤكد أن الصفرة هنا على حقيقتها تأكيدها بالفقوع، وقوله: { تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ }، فإن اللون الأصفر في البقر ونحوها أقرب إلى كونه مصدر الإِعجاب والأنس من اللون الأسود، ولا دليل في البيت لما ادعوه فإن العرب إنما تشبه بما كان أكثر اشتهارا وانتشارا عندها، وقد اشتهر في أوساطهم الزبيب الأصفر كالطائفي دون الأسود، ولو سُلِّم ما تّوهموه من أن المشبه به الزبيب الأسود لم تكن في ذك أيضا حجة لأن الصفرة لا تفارق ألوان الإِبل ولو غلبها السواد بخلاف البقر السود، وبجانب هذه الرواية النادرة عن الحسن نجد ابن جرير الذي رواها عنه روى عنه وعن سعيد ابن جبير أيضا أنها كانت بقرة خالصة الصفرة حتى أن قرونها وأظلافها كانت صفراء، وهو مخالف للمعهود في البقر، ولعلهما - إن صحت الرواية بذلك عنهما - استظهرا ذلك من قوله "فاقع"، وهو غير ظاهر فإنما يستفاد منه خلوص صفرة الجلد دون غيره كما لو وصف واصف أحدا - وهو في سن الشباب - بأنه أبيض يقق لم يفد ذلك إلا خلوص البياض في ما اعتيد فيه دون غيره، كالشعر وأحداق العينين والشفتين واللسان، وكذا لو سمعت واصفا يصف شيئا بلون من الألوان لم يسبق إلى ذهنك إلا شمول ذلك اللون للأجزاء التي اعتيد فيها دون غيرها.
ووصفها بأنها تسر الناظرين لأن وجود بقرة بهذه الأوصاف كلها مما يعز عادة، والنفس أبهج بغير المألوف منها بالمألوف.
والسرور لذة نفسية تنبعث بالإِحسان بالمحبوب إلى النفس سواء كان هذا الإِحساس منشؤه إدراك الحواس الخمس، أو تذكر محبوب مضى، أو انتظار محبوب آت، وتكون بالشيء الحسي كرؤية الجمال، والمعنوي كانتصار صديق على عدو.
ولم يقنعوا بهذا البيان فأردفوا السؤالين السابقين بسؤال ثالث هو من حيث الصيغة لا يختلف عن الأول: { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ }، غير أنه له مضمون آخر غير المضمون السابق، وهو حال البقرة من حيثية التعامل معها هل هي مذللة أو مدللة، وقد أحسوا - وهم يوجهون هذا السؤال إلى موسى عليه السلام بما يتفاعل في نفسه من الأسى والحسرة على هذا التقصي في البحث فاعتذروا إليه بقولهم: { إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } وأردفوه قولهم: { وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } لينشط في دعائه ربه بأن يبين لهم ما يطلبون ولينجلي عن قلبه غيم السآمة من مراجعتهم المتتابعة برجائه امتثالهم الذي أخذت تظهر تباشيره وتزحف طلائعه لا سيما أنهم جاءوا بما لم يعهد منهم من قبل من لطف القول، وحسن الوعد، ورعاية جانب مشيئة الله سبحانه فيما هم طامعون فيه من الهداية.
وقد علم الله ماذا يعنون بمسألتهم فأجابهم بما يشفي غليلهم وهو أن تلك البقرة من النوع المدلل من الحيوان فهي ليست ذلولا، والذلول ما لان وانقاد من الذِّل - بالكسر - بمعنى الانقياد وعدم العتو، يقال ذَل الثور والفرس ونحوهما لصاحبه ذِلا إذا لان له، أما الذُّل - بالضم - فهو بمعنى الهوان، كقولهم: ذَل الرجل بعد عزته ذُلا إذا هان، وهذا الوصف يقتضي عتوها لعدم ترويضها بالعمل كالبقر العوامل، وبيّن ذلك في قوله: { تُثِيرُ ٱلأَرْضَ }، فهو وصف لذلول داخل في حيز النفي.
والمراد بإثارة الأرض قلبها لأجل الحرث، ولا يكون إلا ببقرة مذللة، وروي عن الحسن أنها كانت بقرة وحشية، فلهذا وصفها بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، أي لم تعد للحرث ولا للسَّني، وذهب بعض أهل التفسير إلى أن جملة { تُثِيرُ ٱلأَرْضَ } خارجة عن حيز النفي وصفت بها البقرة المطلوبة، وعليه فالوقف على ذلول، ومحمل هذا التفسير على أنها كانت حارثة غير ساقية، وهو مردود لوجهين:
أولهما: أن الجملة المعطوفة عليها منفية ولا تجتمع جملتان أولاهما مثبتة وثانيتهما منفية بـ لا مع عطف المنفية على المثبتة بالواو إلا إذا كان في نفي الثانية تأكيد لإِثبات الأولى نحو محمد يقوم ولا ينام، وما هنا بخلاف ذلك.
ثانيهما: أن الله قد نفى عنها الذل، وفي إثبات إثارتها للأرض إثبات لهذا النفي.
وذهب بعض المفسرين إلى جواز كونها تثير الأرض مرحا ونشاطا بقروها وأظلافها، لا لأجل تهيئتها للحرث، وهو رأي سائغ ولكن القول الأول أنسب بنسق الكلام وأسبق إلى احتلال الأفهام.
والحرث هنا بمعنى المحروث كالزرع بمعنى المزروع، ومعناهما واحد.
وصفها بأنها "مسلَّمة" لتبرئتها من العيوب التي تكون في جنسها، وقيل: إن أهلها سلموها من الخدمة والاستعمال، وقيل: مسلمة من شائب الحرام، فلا غصب فيها ولا سرقة، وقيل: مسلمة من الشيات، وعليه فقوله: { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } بيان لـ "مسلمة"، وعلى ما سبق صفة أخرى لبقرة، والشية مصدر وشى، كعدة وعظة، وبمعناه الوشى وهو خلط اللون بألوان أخرى، ولذلك سُمي به التطريز لأن من عادته أن يجمع بين ألوان مختلفة، ومفاده خلوص صفرة تلك البقرة بحيث لم تُشب بأي لون من الألوان الأخرى، وهو مما يندر جدا، ولذلك قال من قال إنها لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها الله من السماء، وقد أجاد الألوسي في وصفه هذا القول بأنه هابط في تخوم الأرض، وقيل: كانت بقرة وحشية، وهو - مع بعده - أقرب مما قبله.
وتتابع التأكيد بإن في قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } وما بعده من خطاب موسى لهم المحي هنا قاض عليهم بالغباوة البالغة والعناد المتناهي، إذ لو كانوا أولي فطنة وانقياد لكانوا في غنى عن مثل هذا الخطاب المتكرر المقترن في كل مرة بآل التأكيد الذي لا يخاطب مثله إلا من استحكم فيه الغباء، واستبد به التعنت.
واختيار البقرة للذبح في هذه القضية دون غيرها من سائر الحيوان - مع أن الله تعالى قادر على بعث ميتهم بما يشاؤه من الأسباب وبدون أي سبب - إما لتمحيص إيمانهم وابتلاء عزيمتهم فإن البقر عنصر مقدس بمقتضى عقيدة الكفر التي اعتنقوها حينما عبدوا العجل، فكان في ذبحهم لها تحقيق لتوبتهم مما كانوا فيه، وإما لكشف ما بهم من غباوة تثير استغراب من يسمع قصتهم ويقارن بين حاليهم؛ فموسى عليه السلام رسول من الله لا يتكلم إلا بوحيه، ولا يدعو إلا إلى هديه، وقد أبلغهم عن الله عز وجل أنه يأمرهم بذبح بقرة، وقد كان الواجب يقتضيهم أن لايترددوا في امتثال الأمر، إذ لم يأمرهم إلا بمعقول شرعا، ومقبول وضعا، فإن ذبح البقر أمر معهود بين الناس غير أنهم ما كان منهم إلا سوء الظن بالقائل والتعنت في الأمر بينما هم - عندما أمرهم السامري بعبادة العجل - لم يتعنتوا عليه ولم يسيئوا به الظن، بل اندفعوا إلى ما أراده منهم، متجاهلين للأوامر الشرعية ومتعامين عن البراهين العقلية، القاضية بضلال ما كانوا يعملون.
وبعد أن انسدت في وجوههم الأبواب بما ووجهوا به من جواب عن كل مسألة جاءوا بها: { قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ }، ومفهوم قولهم هذا أن ما جاء به من قبل لم يكن حقا، ولذلك حكم عليهم قتادة أنهم كفروا به، ولم يرد ذلك غيره وإنما حملوه على ما اعتيد منهم من سوء القول الناشئ عن جفاء الطبع، وهؤلاء اختلفوا في المقصود بالحق؛ منهم من حمله على الحقيقة، أي الآن جئت بالحقيقة الناصعة، ويقرب منه قول من قال إنه بمعنى القول المطابق للواقع، وفسره بعضهم بمعنى الأمر المقضي أو اللازم، وذلك أنهم لم يجدوا مناصا عنه بعد هذه المعاذير التي جاءوا بها في صورة الإِستفهام عن حقيقة ما طولبوا به.
وجوز الإِمام ابن عاشور أن تكون الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين، فحكى بما يرادفه من العربية تنبيها على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم "راعنا" فنُهِّينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا }.
قال: "وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح البقرة دون بيان صفاتها تقصيرا كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء، فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات، واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر، ظنا منهم أن في علم النبي بهذه الأغراض الدنيوية كمالا فيه، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم: { ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ }، كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال: الآن أصبت الجواب، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع، فليحذر المسلمون أن يقعوا في فهم الدين على شيء مما قوع فيه أولئك وذموا لأجله".
وقد هيأ الله لهم البقرة الجامعة لما ذكر من الأوصاف: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }، وقد كان تيسيرها لهم فضلا من الله ورحمة، إذ اجتماع هذه الأوصاف جميعها في بقرة واحدة من الندرة بمكان، وقد بالغ المفسرون في تحديد ثمنها الذي بذلوه فيها، وجاءوا في ذلك بأقوال شتى حتى قال من قال منهم اشتروها بملء مسكها - جلدها - ذهبا، وقال بعضهم بوزنها من الذهب، وقال آخرون: بأضعاف ذلك، وهي جميعا أقوال لم تعززها أدلة لعدم ثبوت شيء من ذلك عن المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، ومثل هذا لا يوصل إليه إلا بالتوقيف، ولعلهم تلقفوا هذه الأقوال من أهل الكتاب، ويشهد له ما ساقوه من قصة طويلة عن البقرة وصاحبها الذي اشتريت منه، ليس إلى ذكرها من داع، ومهما يكن فإن ندرة هذا الوصف في البقر داع إلى أن يكون لها ثمن يتجاوز أثمان البقر المعتادة خصوصا عندما يعلم صاحبها ضرورتهم إليها فيشح بها عليهم استغلالا لحاجتهم، وما أوقعهم في ذلك إلا هذا العنت الطويل، وإثارة التساؤلات التي كانوا في غنى عنها لو أنهم سارعوا إلى الطاعة والامتثال، وكل ما ذكرته يستفاد من قوله تعالى: { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } فإنه دليل على منتهى إبائهم ومبلغ عنادهم.
وكاد من أفعال المقاربة، ولعلماء البلاغة والإِعراب فيما إذا جاءت منفية أو مثبتة بحوث واسعة ومداولات مشهورة، فكثير منهم قالوا هي معاكسة لسائر الأفعال فإثباتها نفي ونفيها إثبات، واعتبروا الآية دليلا على صحة ما قالوه، فهي هنا مُثبتة للفعل مع اقترانها بالنفي بخلافها في قوله تعالى:
{ { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } [البقرة: 20]، وقوله: { { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ } [النور: 43]، فإن خطف الأبصار والذهاب بها لا يكونان بالبرق وسناه، وذهب آخرون إلى إجرائها على الأصل المتبع في الإِثبات والنفي، وحملوا قوله تعالى: { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }، وقوله: { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ } على ثبوت المقاربة التي هي مدلول كاد، وحملوا النفي في هذه الآية على سابق حالهم عندما كانوا لا يفتأون يوجهون إلى موسى عليه السلام أسئلتهم الممعنة في التعنت والإِعراض هروبا الامتثال، وإصرارا على العصيان، وإنما طرأ الذبح بعد هذه الحال المؤيسة لكل ناظر في أمرهم من قبولهم لما صلب إليهم من الحق، وبين هذين الرأيين آراء أخرى لا داعي إلى ذكرها.
والتعبير بـ (يفعلون) بدلا من (يذبحون) في خاتمة هذه الآية لتجنيب القرآن التكرار الممقوت الذي لا يتلاءم مع بلاغة الكلام المعتاد فكيف بكلامٍ لا يصل إلى شأوه بيان ولا يقدر على مثله لسان، ومؤدى العبارتين واحد.