التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٧٢
فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٧٣
-البقرة

جواهر التفسير

في هاتين الآيتين بيان الداعي لأمر بني إسرائيل بذبح البقرة المذكور في الآيات السابقة، وإيضاح للحكمة البالغة التي كانت تكمن وراء هذا الأمر، وذلك أن قتيلاً من بني إسرائيل وجد على باب سبط من أسباطهم فشبت بينهم نار فتنة كادوا يصطلون بأوارها، فقد تداروا مسؤولية قتله، وألقاها كل سبط على عاتق غيره من الأسباط مدعياً براءته منها براءة الذئب من دم يوسف، فما كان منهم إلا أن امتشقوا السيوف وشرعوا الأسنة وكادوا يتجالدون بالسلاح لولا عناية الله التي ساقت بعضهم إلى اقتراح التحاكم إلى موسى نبي الله ورسوله عليه السلام.
وقد عنى المفسرون بالمأثور بهذه القصة فأوردوها على وجوه شتى؛ فمن قائل: كان القاتل ابن أخ للقتيل، وقائل: كان ابن عمه، وآخرون ذهبوا إلى أن القاتل أكثر من واحد، وقد ذكرت فيما سبق ما يجمع بين هذه الأقوال.
وقد سبق الحديث عن النفس، وهي مؤنثة اللفظ وأما مدلولها فيكون تارة ذكرا وتارة أنثى، وهي هنا بمعنى الإِنسان، وإطلاقها عليه لأنه مشتمل على الروح المسماة بالنفس، وأصل هذه التسمية مأخوذة من التنفس لأنه أبرز علامات وجود الروح.
وأصل "ادارأتم" تدارأتم غير أن التاء أدغمت في الدال واجتلبت همزة الوصل لابتداء النطق بها حتى لا يبدأ بساكن عندما يبتدأ في النطق بالفعل، أما اذا كان موصولا بما قبله فثبت همزة الوصل في صورة الأف خطا وتسقط لفظا، ونحو هذا قوله تعالى:
{ حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا } [الأعراف: 38]، وهو جائز عندما يكون الفعل على وزن تفاعل أو تفعل، وتكون فاؤه دالا، أو ذالا، أو تاءا، أو طاء، او ظاء، أو صاد، أو ضادا، أو زايا، أو سينا، أو شينا.
والدرء الدفع، ومنه قوله تعالى:
{ { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ } [النور: 8]، وتدارؤهم في النفس المقتولة تدافعهم مسؤولية قتلها بتبرؤ كل فريق منها وإلقائها على غيره من الفرقاء، وفسر ابن جرير الدرا بالعوج، واستشهد له بقول أبي النجم:

خشية طغام إذا هم حسر يأكل ذا الدرء ويقصى من حقر

وقول رؤبة:

أدركتها قدام كل مدرهبالدفع عني درء كل عنجه

وحمل عليه قول السائب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت لا تماري ولا تدارئ، وأتبعه قوله: يعني بقوله لا تداري، لا تخالف رفيقك وشريكك، ولا تنازعه ولا تشاره.
وحاصل قوله: أن التدارؤ هو المعاوجة المصحوبة بالشقاق والنزاع وهو قريب من تفسيره بالتدافع، وذهب بعض أهل التفسير إلى أن هذا التدارؤ لم يكن قوليا فسحب بل كان تدافعا بالأيدي.
و"مخرج" بمعنى مظهر، وما كانو يكتمونه هو معرفتهم بالقاتل، فإن القتلة كانوا يعرفون أنفسهم، وكذلك الذين كانوا يشايعونهم على كتمان هذا السر، وإلقاء مسؤولية هذا الأمر على غيرهم.
أمر الله أن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة فانبعثت فيه الحياة بأمر الله، وفي طي هذا الأمر حكمة باهرة إذ لو كان الضرب ببعض حي لربما توهم متوهم أن الحياة سرت إلى الميت من ذلك البعض المضروب به وهو حي، أما والبقرة نفسها لم تعد حية فلا مجال للتوهم أن الحياة سرت إلى القتيل من مماسته لعضو حي، وهو من دواعي الإِيمان بأن من وراء الأسباب مسببها، وأن الأسباب لا تؤدي إلى مسبباتها إلا بتقدير من العزيز العليم الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، واختلف في البعض الذي ضرب به على أقوال شتى، هل هو لسانها أو فخذها، أو البضعة التي بين كتفيها أو الغضروف الذي تحت أذنها أو عظم من عظامها أو غير ذلك؟ وهو خلاف مفقودة جدواه لأنه فيما لا يضر جهله ولا يفيد علمه، ولم يقم على شيء من هذه الأقوال دليل، وحسبنا أن نقف حيثما وقف بنا القرآن من الإِجمال.
ولم أجد بين المفسرين القدامى والمحدثين خلافا في أن القتيل أحياه الله بهذه الضربة فعين قاتله ثم عاد إلى الموت، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: { كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ }، اللهم إلا ما كان من صاحب المنار من ربط هذه القصة بما ذكرته من قبل عن التوراة فيما إذا وُجد قتيل في أرض إسرائيلة ولم يعلم قاتله مِن لزوم ذبح أهل أقرب مدينة إلى موضع القتيل عجلة من البقرة...الخ.
وتفسيرها بما يتلاءم مع أذواق المفكرين المعاصرين الذين لا يؤمنون بخوارق العادات؛ وهاكم نص ما في المنار: "والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده، وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم، ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية، ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس، أي يحييها بمثل هذه الأحكام، وهذا الإِحياء على حد قوله تعالى:
{ { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [المائدة: 32]، وقوله: { { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة: 179]، فالإِحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين، ثم قال:{ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } بما يفصل بها في الخصومات ويزيل من أسباب الفتن والعداوات، فهو كقوله تعالى: { { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } [النساء: 105]، وأكثر ما يستعمل هذا التعبير في آيات الله في خلقه الدالة على صدق رسله.
وهذا التفسير بعيد عن الواقع ومجانب لمدلول القصة حسب نصها القرآني، فإن الفارق واضح جدا بين قوله تعالى: { كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ }، وقوله: { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ }، ففي الأول نص على أن ذلك كان إحياء بعد موت بخلاف الثاني.
وذكر المفسرون أن القاتل أخذ بجريرته فقتل بعدما أخبر عنه الميت ولا يستفاد شيء من ذلك من نص الآية، ولم يستندوا فيه إلى دليل من السنة، ومثل هذه الأخبار لا يجوز الجزم فيها بشيء من غير توقيف، لذلك أرى عدم الخوض فيما قالوه، فإنه من المحتمل أن يكون الخصوم تراضوا في هذه القضية على ما دون القصاص.
واستدل المالكية بهذه القصة على أن قول المقتول قبيل وفاته "دمي عند فلان" أو "فلان قتلني" لوث تترتب عليه القسامة، وهو - لو سُلِّم له - مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو ضعيف، على أن الآية لم تشر إلى القسامة من قريب ولا من بعيد، كما أنها لم تشر إلى مصير القاتل بعد حياة القتيل، ومما يوهن هذا الاستدلال أن هذه النازلة خارجة عن المألوف فلا يقاس عليها، فإن حياة الميت بعد قتله وتعيينه القاتل بقوله من خوارق العادات، فلا يحمل عليها قول أحد إثر طعنه "دمي عند فلان" أو "فلان قتلني" لاحتماله الصدق والكذب، ولكونه دعوى لم يقم عليها دليل، وإذا كانت الدعاوى الفارغة من البينات لا تقبل من المال ولو كان دانقا، فكيف تقبل في الدماء؟ والأنفس أغلى من الأموال.
أما قول ابن العربي - منتصراً لمذهب مالك - "المعجزة كانت في إحيائه، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد" فهو مردود للفرق بين الحالين، فإن العبد ما لم يفارق الحياة المألوفة لا ينفك عن التكليف، فإذا أحيي من بعد حياة أخرى - كحياة قتيل بني اسرائيل - لم يكن من التكليف في شيء لأنها حياة ما أراد الله بها إلا بيان الواقع.
وقد عنى كل من قطب الأئمة في "هيميان الزاد" والقرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" بشرح أحكام القسامة في هذا الموضع، وهو ما لا أجد داعيا إليه، إذ لا مناسبة بينها وبين الآية الكريمة لعدم تعرضها لها بشيء، ومثل ذلك التعرُّضُ لعدم ميراث القاتل من المقتول، فإن حكم ذلك لا يستفاد من الآية، وإنما يستفاد من الأحاديث الصحيحة الناصة عليه.
واستدل القرطبي بقصة البقرة هذه على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو استدلال لا وجه له، بل الأقرب أن تكون دليلا على خلاف هذا المذهب، إذ لو كنا مخاطبين بما نُص عليه في القرآن من شرائع الأنبياء السابقين وأحكامهم لكان علينا إذا تشاجر قوم في قتيل لم يُعرف قاتله أن نأمرهم بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها كما في القصة، وهو ما لم يقله أحد حتى من المحسوبين على هذه الأمة فضلا عمن يعتد بقوله.
وقوله: { كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } تشبيه للإِحياء بالإِحياء، من حيث اتساع القدرة الإِلهية لهما، وقيام البرهان من هذا الإِحياء المقيد في الدنيا على إمكان الإِحياء المطلق في الآخرة، ولا يعني ذلك أن الإِحياء يكون في الآخرة بنفس هذه الكيفية التي كان بها في الدنيا، وأنه يترتب على هذه الأسباب المذكورة، وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون إحياء هذا القتيل منوطا بهذه الأسباب، مع أنه تعالى قادر على إحيائه بدون سبب ذلك لأن الله أراد تعبدهم بهذه الأسباب، وعندما تلكأوا في امتثال أمره، وانتحلوا لذلك الأعذار التافهة شدد الله عليهم
{ جَزَآءً وِفَاقاً } [النبأ: 26].
وقد سمى الله هذه الآية آيات في قوله: { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } لكثرة ما تدل عليه، فإنها دالة على قدرة الله تعالى على ما يشاء، وأن وراء الأسباب مسببها وأنه سبحانه محيط بكل شيء علما، فالقاتل ما كان يظن أن سريرته ستنكشف وجريرته ستظهر، وقد أبداها الله سبحانه لعلمه بجميع الخفايا، كما تدل على صحة نبوة موسى عليه السلام لأن الله أجراها على يديه، وعلى ثبوت المعاد الذي نبأ به المرسلون.
وهذا الخطاب يحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام لقومه بعدما ظهرت لهم هذه الآية الباهرة، وأن يكون من كلام الله أوحاه الى موسى ليبلغه قومه، وهو الأظهر، والمخاطب على كلا الحالين بنو إسرائيل وشذ من قال إنه خطاب من الله للذين ينكرون البعث عندما أنزل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وهم مشركوا العرب، فإن السياق يأباه.
والمراد بقوله: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لعلكم تتصرفون تصرف من يستفيد من عقله وينتفع بتجاربه.
وتوجيه الخطاب بقوله: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } إلى بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرته من قبل من كونهم امتدادا لآبائهم الأقدمين أصحاب هذه القصة وما شاكلها فلذلك انصب عليهم التذكير والتقريع من قوله تعالى: { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ }.. وما بعده.
وقد علمتم مما سبق أن الجمهور يرون أن قصة القتل هذه هي جزء من القصة السابقة، وهي أمرهم بذبح بقرة، وإنما فائدة تقسيمها إلى ما يشبه القصتين المستقلين تكرار توبيخهم على أمرين وهما مماطلتهم في امتثال الأمر بذبح البقرة، وصدور القتل بغير حق منهم، ولو أدمجت القصتان في قصة لفات ما يفيده التكرار من زيادة تقريعهم، وقد سبق ذكر رأي الإِمام ابن عاشور، وهو أنه يرى أنهما قصتان مستقلتان، وتجويز القرطبي لذلك، وجوزه أبو حيان أيضا.
وما قاله الجمهور أصح وأبين، ولا إشكال في مخالفة الترتيب الذكري للترتب الزمني، لأن الواو لمطلق الجمع، وقد يعطف بها السابق على اللاحق مراعاة للطائف بيانية، ومنها هنا أن الأمر بذبح البقرة من غير تقدم ذكر لأسبابه يشوق النفوس إلى الاطلاع على حكمته خصوصا عندما يرد ذلك في كلام الحق تعالى الذي لا يدانيه الباطل ولا يلابسه الهزل، ولا يحوم حوله الريب، فإذ أتبع ذلك ذكر سببه كانت النفوس أوعى للحكمة، وأفهم للمقصد.