التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٠
بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨٢
-البقرة

جواهر التفسير

الواو عاطفة، والمعطوف عليه قيل هو قوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً }، وعلى هذا فهو عطف قصة على قصة، وقيل: هو قوله: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ }، وعليه فهو عطف جملة على جملة، فتكون الجملة المعطوفة حالية كالمعطوف عليها، ومؤدى ذلك التعجيب من طمع المؤمنين أو بعضهم في إيمانهم مع أن هذه هي عقيدتهم التي اصطبغت بها أذهانهم، كما أن تبديل كلام الله بعدما سمعوه شأن عرف به فريق منهم من قبل، وهو قول أبي حيان في البحر، وقيل المعطوف عليه هو قوله: { يَكْتُبُونَ... } الخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار، وهو قول الإِمام ابن عاشور، وذكر مناسبته له، وهي أن قولهم: { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ } دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها، إذ هم قد آمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة كتب عذابها على جميعهم فهم لا يتوقون الإِقدام على المعاصي لأجل ذلك، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإِخبار عن عقيدة من ضلالاتهم، ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإِجرام.
وبيان ذلك أنهم اعتقدوا أنهم لا نجاة لهم من هذا العذاب سواء أقلوا من المعاصي أم أكثروا، فلذلك لم يبالوا بمعصية يرتكبونها أو حرمة ينتهكونها أو واجب مقدس يضيعونه وقد بيّن لنا الحق تعالى في وسورة آل عمران أن عقيدتهم هذه هذه مصدر نبذهم الكتاب وراء ظهورهم، وذلك حيث قال:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [آل عمران: 23-24].
والأيام المعدودة التي زعموا أن عذابهم منحصر فيها، قيل: هي سبعة أيام لأن عمر الدنيا - حسبما زعموا - سبعة آلاف عام، فهم يعذبون يوما عن كل ألف عام، وقيل: أربعون يوما بقدر أيام عبادتهم العجل، وقيل: بقدر ما يقطعون ما بين طرفي النار لأن عرضها - حسبما زعموا - أربعون عاما وهم يقطعون مسيرة كل عام في يوم حتى يصلوا إلى شجرة الزقوم.
ووصف الأيام بأنها معدودة يؤذن بقلتها، فقد سلكوا مسلك العرب في تعبيرهم لاحتكاكهم بهم، وتأثرهم بأساليبهم، وقد كانت العرب تصف القليل بالمعدود، إما لعدم اعتنائهم بالحساب، وإما لأن الكثير ليس من شأنه أن يقاس بالعدد، بل بمقاييس أخرى، كالوزن والكيل، وقد سلكوا هذا المسلك حتى فيما لا يكال ولا يوزن.
ورد الله عليهم زعمهم هذا بقوله: { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } لأن أمثال هذه القضايا لا يجوز أن يستند فيها إلا إلى ما بينه الله سبحانه فيما أوحاه إلى رسله، لأنها قضايا سمعية بحتة فلا حكم فيها للعقول.
والإِستفهام بالهمزة إما للتقرير لإِلجائهم إلى الاعتراف بأصدق الأمرين، وعليه فـ (أم) متصلة، وإما للإِنكار، فهو في حكم النفي لما وليه، وعليه فـ (أم) منقطعة تفيد بل مع الهمزة، فكأنه قيل بل أتقولون على الله ما لا تعلمون.
والفاء في قوله: { فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ } فصيحة على حد قول الشاعر:

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا

وعليه فيقدر قبلها شرط مستفاد من الجملة الاستفهامية، أي فإن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده، فالفاء وما بعدها جواب للشرط، وقيل: جملة: { فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ } معترضة بين الاستفهامين المتعادلين، وعليه ابن عطية، ولا اعتراض عليه بتصديرها بالفاء لأن ذلك معهود في الاعتراض نحو قوله تعالى: { { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] المعترض بين قوله: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ } [النحل: 43] وقوله: { بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ } [النحل: 44]، ومثله: { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } المعترض بين قوله: { { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } [عبس: 12] وقوله: { { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } [عبس: 13]، وقد سبق الاستشهاد له بقول الشاعر:

واعلم - فعلم المرء ينفعه - أن سوف يأتي كل ما قدرا

وجنح القطب -رحمه الله تعالى - في الهيميان الى قول من يرى أن هذه الجملة معترضة غير أنه صدر برأي آخر ملخصه أن الفاء عاطفة على ما بعد همزة الاستفهام فيكون الاستفهام واقعا على هذه الجملة على طريق التفريع لا على الاستقلال، وذلك باعتبار الاستفهام مقصودا به الأمران، الإِتخاد وعدم الخلف، وأتبع ذلك قوله: "ولا فرق من جهة المعنى بين هذه الفاء وفاء جواب الاستفهام المنصوب، فلسنا نحتاج إلى جعل ذلك جواب شرط محذوف، كما قيل إن التقدير إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يُخلف الله عهده، ولا إلى ما قيل ضمن الاستفهام معنى الشرط فأجيب بالفاء".
والعهد الوعد المؤكد، وكل وعود الله مؤكدة، وقيل: المراد به هنا الإِيمان الخالص والعمل الصالح الواقيان من النار على حد قوله تعالى:
{ { أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [مريم: 78]، ويرجح الأول قوله: { فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ }.
وفي قوله: { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } تنبيه بالأدنى على الأعلى فإنهم بما ادعوه قائلون على الله ما يعلمون الحق في خلافه، وإذا كان الخائض فيما لا يعلم من أمر الله حقيقا بالملامة والتقريع كما هو في الآية فإن من علم الحقيقة فأنكرها أحق بهما لأنه تعمد مخالفة الحق وطمس الحقيقة.
وبعد نقض دعواهم بما يفيد إفلاسهم من الحجة على صحتها أبان الحق سبحانه أن الحقيقة ليست كما تمنوا فإن الدار الآخرة لا تحكم فيها الأماني بل كل أحد فيها رهين عمله، والناس فيها بين امرئ جمع بين الإِيمان والعمل الصالح فهو موعود بالخلد في النعيم وآخر ارتكس في المعصية، ولم يجد منها مخلصا لعدم تعلقه بأسباب التوبة النصوح، فليس له قرار إلا النار والعياذ بالله، لا يجد منها مخرجا، ولا عن عذابها مخلصا، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما لم ينفلت من قيود المعصية في الدنيا لن ينفلت من سجن عذابها في الآخرة.
و"بلى" جواب إيجابي على نفي سابق سواء اقترن بالإِستفهام أم لا، مثال الأول:
{ { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172]، ومثال الثاني: هاتان الآيتان فإن بلى فيهما رد على قولهم المحكى وهو: { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً }.
والكسب أصلا طلب ما ينفع حسيا كان أو معنويا كقولهم اكتسب مالا، أو جاها، أو منصبا، أو سمعة حسنة، واستعمله القرآن في اتيان أسباب الإِثم للكشف عن الحالة النفسية التي يتلبس بها العاصي في إجرامه، فإن الإِقدام على المعصية لا يكون إلا لمنفعة وهمية تدفع بصاحبها إليه، فالزاني عندما يقدم على الزنا يظن أنه منفعة له لما يجد فيه من اللذة، والسارق يتوهم في سرقته منفعة له بما يأخذه من مال المسروق وقاتل النفس المحرمة بغير حق يتخيل أن في ذلك منفعة له، لأن القتل إما أن يكون لشفاء غيظه من عدوه، أو لشهرة بالإِقدام ينالها القاتل بين الناس، وشارب الخمر يجد في السكر نشوة يظنها منفعة له، وآكل الربا يتصور أنه أيسر وسيلة لجمع المال بغير عناء، وكذلك صاحب الميسر، وما هذه الأوهام إلا حبائل للشيطان يتصيد بها النفوس المضطربة والعقول الكليلة.
والسيئة اسم للمعصية لأنها تسوء صاحبها في العاقبة، أو لأنها تسوء غيره منذ صدورها منه، ويجوز أن تكون في الأصل صفة لموصوف أميت، كالفعلة، ونحوها الحسنة في كلا الإِحتمالين.
وإطلاق السيئة هنا يتناول كل معصية من غير تمييز بين صنف وآخر لأنها نكرة في سياق الشرط، فمثلها كمثل القائل لإِمرأته إذا رأيت رجلا وكلمته فأنت طالق، فإن الطلاق يقع عليها باجتماع رؤيتها وتكليمها أي رجل كان، ولا ينحصر هذا الوعيد في اليهود وحدهم، وإن كانوا السبب في نزول هذه الآيات، لأن الحكم العام لا ينحصر في سببه الخاص، وهو معنى قول الأصوليين: "لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ"، وكثير من هذه الأمة راقت لهم - مع الأسف الشديد - هذه العقيدة التي سرت إليهم من الأفكار اليهودية البحتة، فأخذوا يؤولون الآيات الوعيدية تأويلا بعيدا عن مدلولها البين، ويحرفون معانيها حتى تتفق مع معتقداتهم المخالفة للنصوص الجلية، فحصروا السيئة هنا في الشرك مع فقدان أي قرينة شرعية أو وضعية تقيد إطلاقها إلا ما توهموه من أن قوله تعالى: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } يدل على ما ذهبوا إليه، والحقيقة عكس ما قالوه كما سيأتيكم بيانه.
ومما يضاعف الأسف أن يتتابع الجمّ الغفير من الناس - ومن بينهم علماء نابهون - على تلقي هذه الفكرة بالقبول من غير تمحيص لها والنظر في مصدرها، والرجوع بها إلى الأدلة الظاهرة من الكتاب العزيز والسنة الصحيحة الثابتة، فقد أخذ اللاحق يتبع فيها أثر سابقه من غير تبصر وروية حتى أنهم أخذوا يشنعون على مخالفيهم فيها، ويكيلون لهم التهم كيلا، اللهم الا الذين ارتقوا عن حضيض التقليد وسموا إلى ذروة التحقيق فأبصروا الحقيقة الناصعة، فلم يستحيوا من تجليتها للمبصرين بأقلامهم المتحررة من أسر التقليد البغيض، ومن بين هؤلاء الإِمام محمد عبده القائل في هذه الآية: "السيئة هنا على إطلاقها وخصها مفسرنا (الجلال) وبعض المفسرين بالشرك، ولو صح هذا لما كان لقوله تعالى: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } معنى، فإن الشرك أكبر السيئات وهو يستحق هذا الوعيد لذاته كيفما كان، ومعنى إحاطة الخطيئة هو حصرها لصاحبها، وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه، كأنه محبوس فيها، لا يجد لنفسه مخرجا منها، يرى نفسه حرا مطلقا، وهو أسير الشهوات وسجين الموبقات، ورهين الظلمات، وإنما تكون الإِحاطة بالاسترسال في الذنوب، والتمادي على الإِصرار، قال تعالى:
{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14] أي من الخطايا والسيئات، ففي كلمة { يَكْسِبُونَ } معنى الاسترسال والاستمرار، وران عليه غطاه وستره، أي أن قلوبهم قد أصبحت في غلف من ظلمات المعاصي، حتى لم يبق منفذ للنور يدخل إليها منه، ومن أحدث لكل سيئة يقع فيها توبة نصوحا، وإقلاعا صحيحا، لا تحيط به الخطايا، ولا ترين على قلبه السيئات، روى أحمد والترمذي والحاكم وصححاه وابن ماجة وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }" لمثل هذا كان السلف يقولون: المعاصي بريد الكفر".
وقال أيضا في الآية: "ومن المفسرين من ترك السيئة في الآية على إطلاقها ولم يؤولها بالشرك ولكنهم أولوا جزاءها، فقالوا: ان المراد بالخلود طول مدة المكث، لأن المؤمن لا يخلد في النار، وإن استغرقت المعاصي عمره وأحاطت الخطايا بنفسه فانهمك فيها طول حياته، أولوا هذا التأويل هروبا من قول المعتزلة: "إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار"، وتأييدا لمذهبهم أنفسهم المخالف للمعتزلة، والقرآن فوق المذاهب يرشد إلى أن من تحيط به خطيئته لا يكون أو لا يبقى مؤمنا.
وأتبع تلميذه العلامة السيد رشيد رضا كلامه هذا بيان ما يترتب على تأويل الخلود من القول بعدم خلود المشركين أيضا في النار، وإليكم نص قوله: "إن فتح باب تأويل الخلود يجرئ أصحاب استقلال الفكر في هذا الزمان على الدخول فيه والقول فيه بأن معنى خلود الكافرين في العذاب طول مكثهم فيه لأن الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ما كان ليعذب بعض خلقه عذابا لا نهاية له لأنهم لم يهتدوا بالدين الذي شرعه لمنفعتهم لا لمنفعته، ولكنهم لم يفقهوا المنفعة، وإذا كان التقليد مقبولا عند الله كما يرى فاتحوا الباب، فقد وضح عذر الأكثرين لأنهم مقلدون لعلمائهم... الخ، ما يتكلم به الناس ولا سيما في هذا العصر، فإن هذه المسألة قديمة وهي أكبر مشكلات الدين، نعم إن العلماء يحتجون عليهم بالاجماع ولو سكوتيا، ولكن التأويل باب لا يكاد يسده متى فتح شيء.
وتعضد التأويل الصحيح الذي ذكرته من قبل، آثار مروية عن السلف في تفسير الخطيئة وإحاطتها، فعن الحسن البصري أن رجلا سأل عن قوله: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } فقال: ما ندري ما الخطيئة يا بني أتل القرآن، فكل آية وعد الله عليها النار فهي الخطيئة". أخرجه ابن جرير، وأخرج عن سعيد عن قتادة أنه قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة، وعن عبد الرزاق عن قتادة انه قال: الخطيئة الكبائر، وعن مجاهد أنه قال: كل ذنب محيط فهو ما وعد الله عليه النار؛ وعن الضحاك أنه قال في إحاطة الخطيئة الموت عليها، ومثله عن الربيع بين خيثم، وعن الربيع أيضا أنه قال في الخطيئة الكبيرة الموجبة، وعن السدي أنه قال: "أحاطت به خطيئته" فمات ولم يتب، وعن أبي رزين أنه قال: "أحاطت به خطيئته" مات بخطيئته، أخرج هذه الآثار ابن جرير الطبري، ولا يمكن رد هذه الأقوال أو تأويلها بما يخالف ظاهرها لأجل روايات أخرى معزوة إلى بعض السلف، إذ ليس ما وافق القرآن والسنة كالذي خالفهما، ونصوص الكتاب العزيز والسنة الصحيحة قاضية بتعذيب أهل الكبائر وتخليدهم في العذاب، وحسبكم حجة على صحة هذا التفسير للسيئة وإحاطتها حديث الران السالف الذكر.
وإذا كانت عقيدة توقيت عذاب الآخرة جرأت اليهود على ما جرأتهم عليه من نبذ الكتاب وانتهاك الحرمات وتعدي الحدود، فإن الذي تلقفوها عنهم من هذه الأمة أخذوا بحظ وافر من ذلك كله، فكم من حرمة ارتكبت، ومحرمة أبيحت، وحقيقة طمست تحت مظلة اعتقاد العفو عن أهل الكبائر بعدم دخول النار مطلقا أو تعذيبهم عذابا موقتا ينقلبون بعده إلى النعيم المقيم فيتساوون مع البررة المتقين في المنزلة والثواب، فيا لله من هذه المصيبة في الدين، أين عقول هؤلاء من قوله تعالى:
{ { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص: 28].
وبعد هذا القرار الحاسم في مصير الفجار جاء تبيان مصير أضدادهم، أولئك الذين جمعوا بين صحة العقيدة وصلاح العمل، وهو ما عُبِّر عنه بـ { ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } والعمل الصالح أثر لازم للإِيمان الصحيح، فإِن الإِيمان الحق ما تعمق في النفوس حتى تولدت عنه الاستقامة في السلوك، والإِخلاص في العبادة، واللين في الأخلاق، والتسامح في المعاملة، وكما توعد الله الذين كسبوا السيئات بالخلد في الجحيم، وعد هؤلاء بالخلد في النعيم، وعبر عن أولئك بـ { أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } وعن هؤلاء بـ { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } لأن من شأن الصحبة تلازم المتصاحبين، فأولئك يصحبون النار لا ينفكون عنها، وهؤلاء يصحبون الجنة لا يبرحونها.
وإتباع الوعيد بالوعد أو العكس منهج قرآني معهود في تربية النفوس بالترغيب وبالترهيب أخرى، لما في الترغيب من الحفز على الخير، وما في الترهيب من الردع عن الشر.