التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
٨٣
-البقرة

جواهر التفسير

من أساليب القرآن التفنن في الخطاب، فبينا تجده يواجه طائفة من الناس مواجهة الحاضر بالأمر أو النهي أو التذكير أو التقريع أو الوعد أو الوعيد تجده يتحدث عن تلك الطائفة حديثه عن الغائب ليرسخ العبرة في نفوس القارئين والمستمعين، وليعمم حصيلة ما سلف من الحديث على جميع المستفيدين، وأول ما كان من ذكره لأخبار بني إسرائيل وأحوالهم في هذه السورة ورد بأسلوب الخطاب لهم لتذكير أعقابهم الموجودين بما أنعم الله عليه من فواضله التي قصروا في شكرها، بل بالغوا في كفرها، كتفضيلهم على العالمين بكثرة النبوات وتعاقب الرسالات بينهم، وإنجائهم من آل فرعون بما أهلك به عدوهم، وإيتاء موسى الكتاب والفرقان لتنجية أرواحهم من ردى الضلال كما نجيت أبدانهم من الهلاك بالعذاب أو الغرق وتيسير وسائل العيش الرغد لهم بسوق النعم إليهم، وما كان مع هذا كله من تعنتهم على نبيهم موسى عليه السلام في طلب ما لم يجعل الله لهم إليه سبيلا، ومبالغتهم في الإِعنات حتى اتخذوا معبودا لهم من دون الله سبحانه إلى غير ذلك مما مر ذكره، ثم ولى ذلك بيان تنوعت فيه الأساليب بحيث ذكر تارة حكمهم وحكم غيرهم ممن له تعلق بأسباب الرسالات، ووجهوا تارة بالخطاب مرة أخرى، والتفت إلى خطاب المؤمنين في شأنهم تارة أخرى، والسياق لا يزال في بني إسرائيل.
وفي هذه الآية جيء بما لم يذكر من قبل من الأحكام العملية المشروعة لهم سواء ما كان منها خاصا بعبادتهم لربهم، أو كان فيما يختص بالتعامل بين أفراد الأسر، أو يعم جميع أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه.
وبما أن شرعية ما ذكر هنا لا تختص ببني إسرائيل ذكر هذا التشريع بأسلوب الغيبة لا الخطاب ليستفيد من حكمه المؤمنين، وإنما خوطبوا عندما ذكر نقضهم لهذه العهود.
واختلف في أخذ هذا الميثاق، فقيل: كان أخذه عندما رفع فوقهم الطور، وإليه الإِشارة بقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ... } الآية. وقيل هو الميثاق العام الذي أخذه الله على البشر جميعا كما صرح به قوله سبحانه: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } ويضعفه أنه غير خاص ببني إسرائيل، والسياق هنا يقتضي أنه ميثاق أخذ عليهم من أنفسهم، وقيل: هو ميثاق منزل في التوراة، وقيل: على لسان موسى عليه السلام.
والعبادة سبق بيانها في الفاتحة الشريفة، وهي تستلزم العقيدة الصحيحة، إذ لا بد للعابد من اعتقاد عظمة المعبود، واستشعار خوفه ورجائه، واستحضار إحسانه وبطشه، وذكرها بصيغة الخبر دون الأمر يفيد التأكيد عليها لأن هذا شأن الأوامر إذا صبت في قوالب الأخبار، لأن مدلولاتها أنزلت منزلة الأمور الواقعة لما تقتضيه أهميتها من سرعة امتثالها، وقيل: بأن الأصل أن لا تعبدوا إلا الله، أو بأن لا تعبدوا فحذفت أن على الوجه الأول، ومع الباء على الوجه الثاني فارتفع الفعل الذي كان منصوبا بها على حد قوله تعالى:
{ { تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ } [الزمر: 64] برفع "أعبد" ويجوز في مثله - عربية - النصب على إضمارها، وقد رُوي بالوجهين قولهم: تسمعَ بالمعيدي خير من أن تراه، وقول الشاعر:

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير لا يعبدون وأحسن ما حملت عليه قراءتهم حذف أن الناصبة.
وقيل: بأن في اللام قسما محذوفا، أي والله لا تعبدون إلا الله، وأولى من ذلك أن يقال بأن للميثاق نفسه حكم القسم لأنه بمنزلته.
والباء في قوله: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } قيل: هي متعلقة بـ (إحسانا) على أنه مصدر وضع موضع فعل الأمر كأنه قيل وأحسنوا بالوالدين. وهذا لأن: { لاَ تَعْبُدُونَ } فيه معنى الأمر وإن كانت صيغته خبرية كما تقدم، أو موضع فعل مضارع مدلوله أمر أيضا، أي وتحسنون بالوالدين وقيل متعلقة بمحذوف ناصب للمصدر المذكور، إما أمرا أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وإما مضارعا، أي وتحسنون ... الخ، وقيل: متعلقة بمحذف تقديره ووصيناهم، وعليه فإحسانا مفعول لأجله، أي لأجل إحساننا إلى الموصى بهم.
والوالدن تثنية والد، وهما الأب والأم، غلبت في صيغة تثنيتهما الذكورة كما هو الشأن في المثنيات، وقد وصى الله سبحانه بهما خيرا، وحض على الإِحسان إليهما حسب المستطاع في كل الشرائع، وحذر من عقوقهما ولهما فيما وصى به هذه الأمة في القرآن النصيب الأوفر، فقد قرن الله حقهما بحقه، وأمر ببرهما بعد الأمر بعبادته، وجمع بين شكرهما وشكره، ولم يسقط حقهما حتى مع شركهما به، ومن ذلك قوله تعالى:
{ { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [لقمان: 14 - 15]، وإنما حذر ولدهما من طاعتهما إذا أمراه بالشرك، وكذا سائر المعاصي إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وسيأتي إن شاء الله القول في حقهما في الإِسلام في سورة النساء، وغيرها.
وذوو القربى هم الذين يدلي إليهم بنسب من قبل الأم أو الأب، ويعبر عنهم بذوي الأرحام، والإِحسان إليهم واجب ديني في كل الشرائع المنزلة، لأنه داعية الترابط الأسرى المؤدي إلى الترابط الاجتماعي فإن من حكمة الله سبحانه أن جعل النوع الإنساني يتميز عن جميع أنواع خلقه بضرورته إلى التعايش الاجتماعي، إذ لا يمكن لفرد منه أن يستقل بمصالحه عن مجتمعه، والمجتمعات إنما تتكون من الأسر، بل الأسرة في حقيقتها مجتمع أصغر، والمجتمع أسرة كبرى، فإذا انحلت الروابط الأسرية تلاشت بالأحرى النظم الاجتماعية، ولم يعد فرق بين الناس والسباع إذ ليست المدينة مباني تشاد، ومدنا تخطط وتعمر بقدر ما هي تواد وتعاطف وتآلف وتعاون بين الناس، وسيأتي الحديث إن شاء الله عن حق ذوي القربى في الإِسلام في موضعه.
واليتامى جمع يتيم وهم من البشر الذين مات عنهم آباؤهم قبل البلوغ، ولا يتم بعد البلوغ، وقد حضت الشرائع على مراعاتهم والإِحسان إليهم بحسن التربية والتوجيه السليم، ومواساتهم بالمال مع الاحتياج، والمحافظة على أموالهم، والعناية بجميع مصالحهم حتى يبلغوا رشدهم، لأن اليتيم بحاجة إلى الرقة والرحمة، والتربية والتوجيه، فإن من شأن الناس أن يعطفوا على أولادهم ويعرضوا عن أولاد غيرهم، فإذا لم يحضوا على الإِحسان إلى اليتامى ماديا ومعنويا فقد اليتيم ما هو أحوج إليه من العطف والرحمة، والإِرشاد والتوجيه فيضيع وسط تناسي الناس له، وكثيرا ما يؤدي به ذلك إلى الانحراف والشذوذ لأنه ينشأ ساخطا على مجتمعه الذي أضاعه، غير قادر على التحكم في رغبات نفسه وشهواتها، وإذا كان الكبار كثيرا ما ينجرفون وراء تيارات الفساد لغلب شهواتهم على عقولهم، فما بالكم بالأطفال الذين لا يجدون من يوجههم إلى الطريق المستقيم، وليس لهم ما يردعهم عن الانحراف من عقل أو ضمير، وإذا فسد اليتامى فسد غيرهم من الأولاد لما يكون بينهم من الاحتكاك غالبا، ومن هنا كان المشفق على أولاده من الانحراف جديرا بأن يحسن إلى اليتامى بالرعاية الحسنة، والتوجيه السليم وذلك من أسباب نيل رضوان الله تعالى والفوز برفعة الدرجات ووفرة الحسنات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"أنا وكافل اليتيم كهاتين" مشيرا إلى سبابته ووسطاه.
وتقديم اليتامى على المساكين لإِثارة الاهتمام بهم، فإنهم أحوج إلى الرعاية، فإن المساكين محتاجون إلى العون المادي فحسب، بينما اليتامى بحاجة إلى رعايات مختلفة، فهم يحتاجون إلى رعاية أجسادهم بوقايتها من الأذى، والمحافظة على صحتها، ورعاية عقولهم ومشاعرهم بتربيتها بالأفكار السليمة والأخلاق القويمة، ورعاية أموالهم بإصلاحها وحفظها من التلف مع تقديم العون المادي إليهم إن لم يكن لهم مال أو لم يكفهم مالهم لمطالبهم الضرورية.
والمساكين جمع مسكين، وهو من لا يفي كسبه بنفقاته الضرورية، واختلف في التفرقة بينه وبين الفقير على أقوال جمة ستأتي إن شاء الله في آية الصدقات من سورة التوبة، ولا ينظر في المسكين إلى وفرة كسبه وقلته، وإنما يعتبر حاله، فرب ذي كسب قليل لا يعد من المساكين لسداد عوزه بما يكسب، ورب ذي كسب وفير معدود من المساكين لأن كسبه لا يفي بحاجته الضروية، فشتان بين من لا يعول إلا امرأته، ومن يعول أكثر من عشرة من الأولاد مع والديه الضعيفين، كما أن اختلاف أوضاع الناس الاجتماعية لها أثر في التفرقة بين حكم إنسان وآخر، فمن الناس من يأويه القصاد من شتى أنحاء البلاد، فلا يكاد يرحل عنه ضيف حتى يحل آخر، ومنهم من لا يكاد يطرق بابه طارق، ولا بد في باب الزكاة وغيرها من رعاية هذه الفروق.
والإِنسان مطالب بالإِحسان على أي حال غير أنه لا يمكنه أن يساوي بين جميع الناس في الإِحسان إليهم، فلذلك طولب أولا بالإِحسان إلى والديه لأنهما منبتة ومخرجه إلى الحياة؛ ثم إلى ذوي القربى لما يجمعه بهم من الأواصر التي إذا لم تراع انحلت روابط المجتمع بأسره؛ ثم إلى اليتامى لافتقارهم إلى رعاية المجتمع لهم؛ ثم إلى المساكين لينالوا قسطهم من نعمة العيش بين إخوانهم، وليسود المجتمع التواد والتآخي، وأما سائر الناس فهو مطالب نحوهم بالإِحسان العام الذي لا يكلفه عناء، ولا يحتاج إلى انفاق، وهو القول الحسن الذي يغرس في النفوس المودة، ويؤلف النافر، ويدني البعيد، وهو ترجمة لحسن الطوية ومرآة لصفاء النفس، وقد يسره الله لجميع الناس، فلذلك فرضه على جميعهم لجميعهم.
وقرأ حمزة والكسائي حسناً (بالتحريك)، وعلى ما قرأ فهو صفة لموصوف يدل عليه الوصف، أي قولا حسنا، وصوب هذه القراءة ابن جرير الطبري بانيا تصويبه على أن الحُسن هو الاسم العام الجامع لجميع أصول معاني مشتقات هذا اللفظ، والحَسَنَ هو بعض من تلك المشتقات وهو يريد بذلك أن الحُسن هو المصدر الذي يتفرع عنه الوصف بالحسَن كما تتفرع عنه بقية مشتقاته، ويفهم من تصويبه لهذه القراءة أن ما عداها غلط، لأن عبارته تقتضي حصر الصواب فيها، حيث قال: "فالصواب من القراءة في قوله: { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم وقولوا للناس باستعمال الحسن من القول، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول".
وقد علمتم أن القراءة التي صوبها قرأ بها اثنان من السبعة فهي من القرآءات المتواترة التي لا مجال للنظر فيها أصواب هي أم خطأ لأن القراءة سنة متبعة، والقراءات السبع متواترة، غير أن ابن جرير إنما صوبها دون غيرها لأنها ملائمة لذوقه، كما عهدنا منه إنكار القراءات التي لا تروق له، وإن كانت متواترة، على أن قراءة حُسْناً (بالضم والسكون) هي التي قرأ بها الجمهور من السبعة وغيرهم، فلا معنى لتصويبه إحدى القراءتين دون الأخرى، وما ذكره من أن معنى الحسن العام غير مراد هنا مردود بأن من أساليب العرب في كلامهم التعبير عن الأخص بالأعم والعكس بحسب اقتضاء المقامات، وفي أمرهم بأن يقولوا حسنا ما لا يخفى من التأكيد على تحري الكلم الطيب في مخاطبة الناس وهو الذي يجمع محاسن القول كأنما احتوى الحسن بأكمله، وهذا كما يقال محمد عدل، والقصد به عادل لتأكيد وصفه بالعدالة حتى كأنها تمحضت في ذاته على أنه قد قيل بترادف الحسن والحسن، وقد ذكر ذلك ابن جرير نفسه.
وللمفسرين أقوال في الحُسْن الذي أمروا أن يقولوه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الأمر بلا إله إلا الله لمن لم يقولوها ورغبوا عنها حتى يقولوها كما قالوها، وعن الحسن أنه لين القول، وعن أبي العالية أنه القول المعروف، وعن ابن جريج أنه الصدق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وعن سفيان الثوري أنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واقتصر عليه الإِمام محمد عبده، ومثل هذا لا يعد خلافا في التأويل، وإنما هو خلاف في التمثيل، فإن حُسْن القول ينتظم جميع ما قالوه غير أن مراعاة الأحوال لا بد منها، فقد يحسن اللطف في حال وتحسن الشدة في حال، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مطالب بمعالجة الناس الناشزين عن الحق بما هو أجدى لهم وأنجع في ردهم إلى حظيرة الحق، فيتلطف بمن يفيده اللطف، ويشتد على من لا تردعه إلا الشدة، وكلا قوليه حسن يؤجر عليه.
وجملة: { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً.. } وما بعدها .. معطوفات على: { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ.. } وما وليها.. والمعطوف والمعطوف عليه كلاهما إنشائي وإنما اختلف الأسلوب للتفنن وإثارة الاهتمام.
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة سبق الحديث فيهما، وفي الآية دليل على أن الصلاة والزكاة مفروضتان على الأمم من قبلنا كما فرضتا علينا، ولا يلزم تشابه صلاتنا وصلاتهم، ولا زكاتنها وزكاتهم في جميع الأحوال، وإن اتفقت في أصل الفرض، وكان بعض أحبارهم يزعمون أن زكاتهم لا تدفع لفقرائهم، ولا ينتفع بها أحد من الناس، وإنما هي قرابين تأكل الناس ما تقبل منها، وقد تأثر بذلك جماعة من المفسرين فأثبتوه في تفاسيرهم وعزوه إلى بعض السلف، وليس بشيء فإنهم كانوا متعبدين بزكوات ينفقونها على طوائف منهم مخصوصين كما تفيده كتبهم المقدسة.
والتولي الإِدبار عُبِّر به عن ترك ما فرض عليهم، لأن من شأن المطيع أن يقبل على الآمر أو على الجهة التي يوجهه إليها بخلاف العاصي، فهو مجاز بالكناية والخطاب إما أن يكون لجميع بني إسرائيل من سلف منهم ومن خلف، وعليه فهو التفات حَسَّنهُ أنهم بعدما حكى الميثاق المأخوذ عليهم بصورة الخطاب كانوا بمثابة الحضور، وإما أن يكون خاصا بالخلف الذين عاصروا نزول الآية، وعليه فخطابهم بما يجدر أن يخاطب به سلفهم الذي أخذ عليه الميثاق لأنهم امتداد لهم، ولأن الميثاق المأخوذ عليهم ليس خاصا بصدر أمتهم، وهذا كما امتن عليهم بتنجيتهم من آل فرعون، وقد كانت في واقعها لأسلافهم.
وقد حصل هذا التولي ممن سلف ومن خلف فإنهم جميعا لم يعبدوا الله حق عبادته، ولم يحسنوا إلى والديهم وذوي القربى واليتامى والمساكين، ولم يوفوا الصلاة حقها من الإِقامة، ولم يؤدوا الزكاة كما شرعت إلا قليلا منهم وهم الذين قال الله فيهم:
{ { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 159]، وهؤلاء لم يلبثوا أن آمنوا بدعوة الإِسلام وصدقوا نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام عندما بلغتهم حجته وهم عبد الله بن سلام ومن معه.
والإِعراض الصد، ويكنى به عن الإِهمال فإن من شأن المكترث بالشيء أن يلتفت إليه بخلاف مهمله، فجملة: { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } حالية مؤكدة للمعنى الذي تفيده جملة: { تَوَلَّيْتُمْ } مع إفادة أنهم في توليهم لا يلوون على شيء ولا ينثنون عن ضلالهم، فقد يتولى أحد - أي ينصرف - عن شيء مع قصد العودة إليه، ولكن جملة الحال هنا تفيد انتفاء هذا القصد، بل انتفاء تراجعهم رأسا.
ومنشأ هذا التولي غرور خاصتهم وجهل عامتهم، فالخاصة غرتهم الأماني وغرهم بالله الغرور، فطمعوا في غفران خطاياهم، لأنهم من سلالات الأنبياء، ولأنهم أوتوا علم الكتاب فحرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وشرعوا لأنفسهم ولقومهم ما لم يأذن به الله، فهجروا الكتاب الذي أنزل إليهم، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم؛ والعامة تلقوا دينهم من أفواه الرجال - وهم الخاصة - ولم يرجعوا في فهمه إلى أصوله فقبلوا منهم تحليل الحرام وتحريم الحلال، وتعلقوا معهم بأذيال الأماني، فاقتادهم الهوى الى محارم الله، فكانوا سلفا ومثلا للذين يأتون من بعدهم، وهم ينهجون نهجهم في تعطيل أحكام الدين، اتباعا للشهوات، وتصامما عن الوعيد، كما هو الشأن في المغرورين من هذه الأمة بالأماني الباطلة يغدون ويروحون في معاصي الله، وهم جازمون بأنهم سيتبوأون في جنته منازل السعداء الأبرار، كأن مسامعهم لم تطرقها نذره، فلم يلتفتوا إلى قوله:
{ { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص: 28].