التفاسير

< >
عرض

يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
٩
-البقرة

جواهر التفسير

جملة يخادعون مبدلة من جملة يقول آمنا بالله .. الخ، لأنهم ما قصدوا بهذا القول إلا الخداع، ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا أو حالا من فاعل يقول.
ويخادعون من خادع الدال على الاشتراك في الخدع، وهو أن يوهم أحد غيره بقوله أو فعله عكس ما يريده به من المكروه، من خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يريد الخروج من الجهة التي أدخل الحارش فيها يده، ثم يخرج من جهة أخرى لئلا يرقبه الحارش فيصطاده.
والاشتراك هنا شكل من وجهين:
أولهما: أنه إذا أمكن للمنافقين أن يخدعوا المؤمنين بإظهارهم جميل القول وحسن المعاملة وإعلانهم الايمان، فلا يمكنهم بحال أن يخدعوا قيوم السماوات والأرض، العليم بما تنطوي عليه حنايا الضمائر، وما تكتنفه أعماق النفوس.
ثانيهما: إذا كان الخدع من ديدن المنافقين فليس هو من شأن المؤمنين، لأنه صفة مذمومة، اللهم إلا ما استثنى من خدع العدو في الحرب لأجل إحراز النصر. وقد يحمد من المؤمن التغاضي والصفح اللذان قد يتوهم أنهما ناشئان عن البله، كما جاء في الحديث
"المؤمن غر كريم" وهو معنى قول الفرزدق:

استمطروا من قريش كل منخدع إن الكريم إذا خادعته انخدعا

وقول ذي الرمة:

تلك الفتاة التي علقتها عرضا إن الحليم وذا الاسلام يختلب

فلا عجب إن كانوا مخدوعين بظواهر أعمال المنافقين؛ لأن من شأنهم إحسان الظن وغض الطرف عن الهفوات، مع توقد فطنهم ونفاذ بصائرهم، غير أنه لا يحمد بحال أن يكون شأنهم شأن المنافقين في إظهار غير ما يبطنون وإعلان خلاف ما يسرون.
وإذا كان صدور الخدع من المؤمنين ممتنعا فأحرى أن يمتنع من عالم الغيب والشهادة الذي هو على كل شيء قدير.
ومن الظاهر بداهة أن الخداع لا يكون إلا لضعف الخادع وقوة المخدوع، وإذا كان هذا في البشر فكيف يمكن صدور مثله ممن لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وأجيب عن الأول بوجوه:
أولها: أن الخداع قد يصدر من أحد لغيره فيصادف غير مقصوده، كمن يخدع عامل الحاكم أو وكيله فينبه بأن صنيعه هذا يتجه إلى الحاكم، وهكذا شأن المنافقين، فهم قصدوا بخداعهم المؤمنين الذين صُنِعوا على عين الله وأحيطوا بكلاءته وشُمِلوا برعايته، فنبه أولئك المنافقون المخادعون بأن خداعهم للمؤمنين هو في حقيقته خداع لله سبحانه، إذ هو الكفيل بنصر عباده ودفع المكاره والأذى عنهم.
ثانيها: أن صورة صنيعهم مع الله سبحانه صورة صنيع المخادع، فهم يظهرون الايمان ويبطنون خلافه، ويدعون الانخراط في سلك المؤمنين وهم أكثر ما يكونون بعدا عنهم وكيدا لهم، على أنه لا يبعد أن يكون هذا التعبير بالنظر إلى معتقداتهم الفاسدة ونواياهم السيئة في حق الله تعالى، فإن كثيرا منهم كانوا من اليهود، واليهود لا يتورعون عن مثل هذا الاعتقاد، كيف وهم الذين حكى الله عنهم قولهم:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [آل عمران: 181] وقولهم: { { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [المائدة: 64].
وما بأيديهم من نسخ التوراة المحرفة شاهد على أنهم أضل الناس اعتقادا في الله، وأبعدهم عن أن يقدروه حق قدره، تعالى الله عما يقولون وعما يعتقدون علوا كبيرا، ومن كانت هذه عقيدته فليس ببعيد أن يعتقد أنه يخدع الله سبحانه فضلا عن اعتقاده مخادعة المؤمنين.
ثالثها: أن المراد بمخادعتهم لله مخادعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر اسم الله عز وجل بدلا من اسمه تشريفا له وإعلاء لقدره وإعلاما أنه محفوف بعصمة الله ومحاط بعنايته، فلا يخلص إليه شيء من كيد الكائدين، وذلك كما أخبر تعالى أن مبايعته صلى الله عليه وسلم هي مبايعة لله وذلك في قوله:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [الفتح: 10].
وهذا الوجه مع ما فيه من التنويه بقدره صلى الله عليه وسلم غير خال من الضعف، فإن إطلاق اسم الله مع قصد رسوله لا يصح إلا بقرينة كما في آية المبايعة.
وأجيب عن الثاني بوجوه أيضا:
أولها: أن وزن فاعل لا يستلزم المشاركة دائما، فقد يأتي خاليا من معناها، نحو عالج المريض، وناهز الاحتلام، فإن الفعل فيها جميعا صادر من جهة واحدة، فلا يبعد أن يأتي خادع بمعنى خدع، وكثيرا ما يكون ذلك لقصد المبالغة، ومن المعلوم أن المنافقين كانوا يجهدون أنفسهم في خدع المؤمنين وابتكار الحيل والأساليب المؤدية لهذا الغرض، فكان فعلهم كأنما يصدر من أكثر من جهة، وتؤيد هذا التأويل قراءة يخدعون الله وهو إنما يدفع هذا الاشكال دون الذي قبله.
ثانيها: أن المؤمنين أمروا من قبل الله بالاغضاء عن بوادر المنافقين وفلتات ألسنتهم وهفوات أفعالهم وكبوات تصرفاتهم التي يستشف من ورائها النفاق، كما أمروا أن يعاملوهم معاملة أنفسهم، فكان ذلك مما يجرئهم على الاسترسال في غيهم والانهماك في فسادهم، متخيلين أنهم قد أحرزوا أنفسهم من الخطر ووقوها المخاوف بهذا الصنيع، فكان هذا الأمر منه تعالى شبيها بخدعهم، لأن من ورائه ما ينتظرهم من العقاب الأليم والعذاب العظيم، فجاز أن يستعار لهذه المعاملة اسم الخداع، ولما كان صدور ذلك من المؤمنين بإذن منه تعالى، صح إسناد ذلك إليه وإليهم، ونحوه في إسناد الخدع إلى الله في قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142].
ثالثها: حمل هذا التعبير على الاستعارة التمثيلية، تشبيها لما يحصل - من إملاء الله لهم والابقاء عليهم ومعاملة المؤمنين إياهم معاملة أنفسهم في إجراء أحكام الاسلام عليهم - بفعل من يخدع غيره بمختلف الأساليب في المعاملة، كما تشبه بذلك أيضا حالتهم في معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ثم بيّن سبحانه ما يؤول إليه خداعهم بقوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }، حيث نفى سبحانه أن تكون مغبة هذا الخداع واقعة إلا عليهم، لأنهم الذين يجنون ثمرتها المرة، ويكابدون غصصها المؤلمة، وقد يتبادر للسامع أو القارئ وجود تناقض بين ما في صدر الكلام وعجزه، حيث أثبت تعالى أولا أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، ثم نفى ما أثبته ضمن قوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }.
والجواب أن المنفي غير المثبت، فما عبر عنه بالخداع أولا هو تلك الأقوال والأعمال التي كانوا يبدونها مع انطوائهم على نقائضها، ثم أطلق اسم الخداع على لازم معاملتهم، وهو الضر الماحق والعاقبة الوخيمة، وذلك واقع بهم دون غيرهم كما علمت، وهذا من باب المجاز على المجاز، لأن المخادعة استعيرت أولا لما استعيرت له من معاملتهم للمؤمنين ودين الله، ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم ذلك المعنى الذي استعيرت له.
وهذه الجملة حال من فاعل { يخادعون } في الجملة التي قبلها، وفيها قراءتان مشهورتان:
الأولى: { وما يخدعون } وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، من السبعة، كما قرأ بها أبو جعفر ويعقوب، من سائر العشرة.
والثانية: { وما يخادعون } بزيادة ألف المفاعلة، وبها قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، من السبعة، وخلف من بقية العشرة. وثم قراءات أخرى من الشواذ غير المعوّل عليها، ولا إشكال في القراءة الأولى، وإنما الاشكال في الثانية لاقتضائها في المشاركة التي لا تصدر إلا عن جهتين فصاعدا، مع أن الجهة هنا متحدة ويندرئ الاشكال باعتبار أن من يقدم على جريرة من الجرائر لا بد له أن تتفاعل في نفسه خواطر متضادة منها ما ينشأ عن بصيرة العقل ووحي الضمير، ومنها ما ينشأ عن رعونة العواطف واضطراب الهواجس، فيتولد ما يشبه العداوة بين الجانبين، ويظل المرء في تردد بين إقدام وإحجام، حسب إصغائه تارة إلى صوت العقل، وأخرى إلى داعي الهوى.
ومن ثم جاءت هذه القراءة هنا مصورة لعداوة تنجم بين هؤلاء المنافقين ونفوسهم الداعية إلى الخير بطبيعة الفطرة، وصورت ما يصدر منهم من شغلها بالأماني واقتيادها إلى الشر بالمخادعة، وفي كلام العرب ما ينحو هذا المنحى في التعبير، كقول عمرو بن معد يكرب:

فجاشت علي النفس أول مرة فردت على مكروهها فاستقرت

وقول عروة بن أذينة:

وإذا وجدت لها وساوس سلوة شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها

وربما جعلوا هذه النوازع المتباينة نفسين مختلفين في شخص واحد، كقول بعض الأعراب:

لم تدر ما (لا) ولست قائلها عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر نفسيك ممتريا فيها وفي أختها ولم تكد

وقول الآخر:

يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة أيستوبع الذوبان أم لا يطورها

وقول غيره:

وكنت كذات الضنى لم تدر إذ بغت تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني؟

ويحتمل أن يكون خادع هنا بمعنى خدع مع قصد المبالغة كما تقدم في تفسير صدر الآية، وبناء على ذلك يكون معنى القراءتين واحدا.
وانتقد ابن جرير قراءة { وما يخادعون } فعدها غير صحيحة، وقد بنى هذا الانتقاد على أن فَعَلَ هو الذي يكشف عاقبة المفاعلة دون فَاعَلَ، كما يقال قاتل فلان فلانا، وما قتل إلا نفسه، إذا كانت عاقبة المقاتلة رجعت عليه دون صاحبه، وعزز ذلك بأن مخادعتهم لله وللمؤمنين مثبتة في صدر الآية، فإذا حصرت المخادعة بعد في أنفسهم انتفى ما كان مثبتا، وهو تناقض لا يحوم حول ساحة القرآن.
وقد علمت أن هذه القراءة هي قراءة ثلاثة من السبعة المشهورين، وقراءة كل واحد من القرّاء السبعة معدودة في المتواتر الذي لا يصح إنكاره أو رفضه، فرد أية قراءة من السبع عثرة لا تقال، وقد تكرر وقوع ابن جرير في هذه الورطة على إمامته في التفسير، كما سنبين ذلك إن شاء الله كلا في موضعه.
وكما اتفق الجمهور على تواتر قراءتي "ملك ومالك" اتفقوا على تواتر قراءتي "يخدعون ويخادعون"، ذلك لأن الاختلاف فيهما عائد إلى جوهر القراءة، وهو مما يعد من المتواتر عندهم، وإنما اختلفوا فيما كان من قبيل الأداء، كالامالة والمد والترقيق والتفخيم والغنّة، فقيل بتواتره في السبع، وقيل بعدمه.
وبما ذكرته من توجيه هذه القراءة يندفع الاشكال الذي زعمه ابن جرير، وما ذكره من لزوم نفي ما أثبت عليها، مدفوع بأن جهتي الاثبات والنفي مختلفتان، وبذلك يندفع المحذور، ونحوه ما في قوله تعالى:
{ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال: 17]، ففي صدر الآية نفي الرمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي وسطها إثباته، وفي آخرها إسناده إلى الله تعالى، فلو أخذ بظاهر اللفظ لقيل بالتناقض، غير أن الرمي المنفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثبت لله هو غير الذي أثبت للرسول، والقرآن نزل بلسان العرب الذي يستعمل الكلمات في حقيقتها تارة وفي مجازها أخرى، والقرائن هي الكفيلة ببيان المراد.
وذكر أبو حيان في البحر أن بعضهم ادعى بأن في عبارة هذه الآية قلبا، وأن الأصل وما يخادعهم إلا أنفسهم، لأن الانسان لا يخدع نفسه، بل هي التي تخدعه وتسول له وتأمره بالسوء، وأورد أشياء مما قلبته العرب، وذكر أبو حيان أن للنحويين مذهبين في القلب:
أحدهما: جوازه في النثر والشعر اتساعا واتكالا على فهم المعنى.
ثانيهما: عدم جوازه إلا في الشعر في حالة الاضطرار.
قال: وهذا الذي صححه أصحابنا ثم أتبع ذلك بأن هذا المدعي للقلب نظر إلى قوله تعالى:
{ { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } [يوسف: 18].
وقولهم: منتك نفسك، فتخيل أن الممني والمسوِّل غير الممنَّى والمسوَّل له، ثم عكر عليه بأن الأمر ليس كما تخيل، فالفاعل هنا هو المفعول كما يقال أحبَّ زيد نفسه وعظم نفسه، فلا يتصور تباين بين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ مع وحدة المدلول، وإذا صح المعنى دون القلب فلا داعي إليه، مع أن الصحيح عدم جوازه إلا في الشعر، فما أجدر كتاب الله عز وجل أن ينزه عنه.
والنفس: حقيقة الشيء وذاته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى:
{ { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [المائدة: 116]، وقوله: { { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [الأنعام: 12]، وقوله: { { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران: 30]. هذا هو المعنى اللغوي للنفس، أما ما عدا ذلك من المعاني فهو من اصطلاح الحكماء الذي لا داعي إليه في فهم مقاصد القرآن.
وجملة { وما يشعرون } إما مستأنفة وإما معطوفة على جملة { وما يخدعون }، والشعور: يطلق على العلم بدقائق الأشياء الخفية، ويرى بعض أهل اللسان أنه مأخوذ من إصابة الشَّعَرِ فإنه لدقته مما يستصعب، وكذلك الشعور هو إصابة ما دق من المعاني، والتفطن لما خفي من الأمور.
وأصل الشعر العلم بهذه الدقائق، ومنه قولهم: ليت شعري، ثم نقل إلى الكلام الموزون المقفَّى لما في تركيبه من الدقة وما يحتويه من خفي المعاني ودقيق المقاصد التي لا يتفطن لها إلا أصحاب الاحساس المرهف، ومن هنا قيل إن الشعور لا يستعمل إلا فيما دق من حسي وعقلي، فلا يقال: شعرت بحلاوة العسل، وبصوت الصاعقة، وبألم كية النار، وإنما يقال: شعرت بملوحة في الماء أو مرارة - إذا كانت قليلة - وبهينمة وراء الجدار، وبحرارة في بدني.
وهذا الوصف في المنافقين مشعر بتحجر عقولهم وخبوِّ فطنهم، وهو - كما قيل - أبلغ في الذم من وصفهم بعدم الاحساس، لأن الذم على أمر يمكن حصوله ألذع وأنكى من الذم بما يتحقق عدمه، وإحساسهم أمر معلوم لهم وللناس، فلا يغيظهم أن يوصفوا بعدمه، بخلاف وصفهم بعدم الشعور المتضمن لمعنى البلادة.
ومن حيث أن الشعور يتميز عن العلم باختصاصه بدقائق الأمور المحسوسة والمعقولة أوثر في التعبير هنا على العلم نظرا إلى أن مخادعتهم لأنفسهم مما لا يظهر إلا لذوي الفطن المتوقدة، والمدارك المتفتحة، والمنافقون بما ران على قلوبهم من النفاق واستحكم في عقولهم من الضلال ليسوا من الذين يراقبون الله عز وجل، فهم إن وجد بينهم من يؤمن بوجود الله سبحانه فإيمانه سطحي لم يتغلغل في أعماق نفسه، ولم يلامس شغاف قلبه، فلذلك كانوا أبعد ما يكونون عن خشيته ومراقبته، والتفكر فيما يرضيه وما يغضبه، فكانت معاملتهم له معاملة الخب الخادع لمن يرجو أن تنطلي عليه حيلته، ويؤثر فيه مكره، وما كانوا يتفطنون أن عاقبة مكرهم ستعود عليهم بشر مما كانوا يتوقعون.
سر مخادعة المنافقين:
وفي تفسير المنار بحث نفيس للامام محمد عبده كشف فيه سر مخادعتهم بأسلوبه الأدبي الرفيع وتحليله المنطقي البديع، ولما في هذا البحث من فوائد جمة رأيت إيراده برمته، قال:
هؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم قام لهم من أنفسهم ما يسهل لهم أمره، من أمل في الغفران أو تأويل إلى غير المراد، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء المغشاة بصور من العقائد الملونة؛ بما قد يتجلى للأعين فيما يسمونه إيمانا وما هم في الحقيقة بمؤمنين، وإنما هم خادعون مخدوعون، ولكنهم لما عمي عليهم من أمر أنفسهم لا يشعرون لأن ذلك يمر في أنفسهم وهم عنه غافلون.
وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عندما تسأل عنه، وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الارادة باعثة لها على العمل، فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها على النحو الذي ذكرنا، فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال، وهو ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات، كالكرم والشجاعة ونحوهما، فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها، وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال، وربما يغفل الانسان عنه ولا يلاحظه عندما يعمل، وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره، وبين وجوده وتحققه في نفسه.
ومن العلوم ما يلاحظ الانسان أنه عنده، فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها، لأنه لم يُشْرَبه القلب، ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها، وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الاسلامي مثلا، وكعلم مزايا الفضيلة، ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق، والنظار في كتب الأوائل والأواخر لتعزير مادة العلم وتوسيع مجال القول وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل، يبقى في خزانة الخيال، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال لا إلى تحسين باطن الحال، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه، وتسميته علما لأنه يدخل في تعريفه العام (صورة من الشيء حاضرة عند النفس) وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقي، فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر. فهؤلاء الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم، وإن كان باطلا في نفسه، وهو تصديقهم بما في شهواتهم من المصلحة لذواتهم، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به، وجعله رسما مخزونا في الخيال لا أثر له في الأفعال يدعونه بألسنتهم وتكذبه في دعواه أعمالهم وأحوالهم، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }.
فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفَّى عليه بذكر العمل الذي يشهد له، ومن هنا يعلم ما الايمان الذي يعتد به القرآن، وهو يظهر لمن يقرأ القرآن ليحاسب به نفسه، ويزن إيمانه وأعماله بما حكم به على إيمان من قبله وأعمالهم، لا لمن يقرأه على أنه قصة تاريخية مات من يحكي عنها واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها، فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان، فكل مؤمن بالله واليوم الآخر وهو يصدر في عمله عن شهواته ولا يمنعه إيمانه عن ركوب خطيئاته، فاعتقاده إنما هو خيال لا يعدو عن لفظ في مقال، ودعوى عند جدال، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه مخادع لربه، يظن أن علام الغيوب لا ينظر إلى ما في القلوب. اهـ.
وبإمكاننا أن نستوحي من هذا البحث أن الامام يرى ما في هذه الآيات شاملا للصنفين من المنافقين، مَن كان نفاقه عقائديا ومن كان نفاقه عمليا، ولعله يرد ذلك إلى أن النفاق العملي لا ينشأ إلا عن ضعف العقيدة وعدم تمكنها في النفس، كتمكن عقيدة المؤمنين الذين كانت ظواهرهم شاهدة على سلامة بواطنهم وأعمالهم مصدقة لراسخ اعتقادهم.