التفاسير

< >
عرض

بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٩٠
-البقرة

جواهر التفسير

الكلام مستأنف لتسجيل مذمتهم مقرونة ببرهانها وذلك أنهم إنما استحقوا هذا الذم بإيثارهم الباطل على الحق واختيارهم الكفر على الإِيمان، لا لإِلتباس حاصل أو شك في حقيقة الحق، ولكن لإِيثار هوى النفوس على مصالحها الباقية، والبغي الذي لا يؤدي إلا إلى محاولة تشويه الحقيقة الناصعة وطمس الحق المبين.
و(بئس) فعل من الأفعال الجامدة كأختها نعم، فهما لا تتصرفان الى مضارع ولا أمر ولا مصدر ولا اسم فاعل، ولا اسم مفعول، ولا صفة مشبهة، وإنما يفرق بينهما المعنى، فهذه تدل على الذم، وتلك على المدح، وكما تشتركان في الجمود تشتركان كذلك في العديد من الأحكام، منها: رفعهما الفاعل، وافتقارهما الى مخصوص بالمدح أو الذم، إما منطوق به، وإما مفهوم من المقام، وفاعلهما لا يكون إلا معرفة سواء كان مظهرا نحو نعم الرجل أبو بكر وبئس الرجل أبو جهل فالرجل في المثالين فاعل، وأبو بكر مخصوص بالمدح، وأبو جهل مخصوص بالذم أم كان مضمرا تفسره نكرة تلي الفعل منصوبة على التمييز نحو بئس رجلا أبو لهب فإن الفاعل في المثال ضمير مستتر في بئس يفسره التمييز وهو رجلا.
ومع تعريفه فهو إما أن يكون معرفا بأل كما سبق في الأمثلة أو مضافا إلى ما عرف بها، كما في حديث: "بئس أخو العشيرة...."، واختلف فيما عُرف بغيرهما كالموصول، وبناء على جوازه فإن "ما" في الآية موصولة فاعلة لبئس، والجملة بعدها صلتها، وهو محكي عن سيبويه، كما نقل عن الكسائي والفراء، واليه ذهب الفارسي في أحد قوليه، والمشهور عن سيبويه أنها معرفة تامة بمعنى الشيء فاعل لبئس، والمخصوص بالذم محذوف، أي شيء اشتروا به أنفسهم وهو معزو إلى الكسائي، وقيل هي وما بعدها مسبوكة بمصدر في موضع رفع والتقدير بئس اشتراؤهم، ولابن عطية على ذلك اعتراض تعقبه أبو حيان ولم نجد داعيا إلى إيراد كلامهما، وقيل: هي موصوفة بجملة بعدها في محل نصب على التمييز من الضمير المستتر في بئس وهو فاعلها، وعليه فهي مؤولة بشيء "وأن يكفروا" هو المخصوص بالذم مؤولا بمصدر، والتقدير بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله، وهذا هو أحد مذهبي الفارسي، واختاره الزمخشري، وثم مذاهب أخرى لا داعي إلى ذكرها.
(واشتروا) بمعنى باعوا عند الجمهور وذلك أنهم حرموا أنفسهم من سعادة الدار الآخرة بكفرهم بما أنزل الله على عبده ورسوله مع معرفتهم بحقه، وإدراكهم أن صفقتهم خاسرة، وأنهم ضالون في سعيهم، ومن حرم نعيم الآخرة فقد حرم نفسه لأنه عرضها لأخطر المهالك وأسوأ العواقب، فكان هذا التعبير أدق في الدلالة على هذا المعنى وأبلغ في تصويره وأجدى في التحذير من الأخذ بأسباب ذلك.
ويعضد هذا التفسير ما يكون في البيع والشراء من المعاوضة بين الجانبين تسوغ اعتبار كل من المتبايعين بائعا ومشتريا لأن كليهما آخذ ومعط، فآخذ السلعة مبتغ لها وقد جعل الثمن وسيلة إليها، وآخذ الثمن مبتغ له وقد جعل السلعة وسيلة إليه، فصدق على كل منهما وصف البيع والشراء، ومن هنا جاز لغة استعمال كل من العبارتين في معنى الثانية كما تقدم.
واستبعد الإِمام ابن عاشور اسعمال الاشتراء بمعنى البيع بدعوى أنه يفضي إلى ادخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة.
وأبقى الاشتراء على بابه - وهو الإِبتياع المتبادر إلى الأفهام من إطلاقه - وعده هنا مجازا أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه، تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا، فإن كانوا يعتقدون بأنهم مُحقُّون في اعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لتمسكهم بالتوراة، وأن قولهم فيما تقدم: { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ } بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقاد أنفسهم لآنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم، فقولهم: { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } أي بئس ما هو في الواقع، وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم، وقوله: { أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ } هو أيضا بحسب الواقع، وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم، وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت.
وإن كانوا معتقدين صدق الرسول، وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله: { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ } على أحد الإِحتمالين المتقدمين، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي، أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق، فالآية على نحو قوله تعالى: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ }.
هذا وقد عرفتم مما سبق جواز ترادف كملتي البيع والشراء وليس في ذلك ما يدعو إلى الغلط فهم الحقائق اللغوية، لأن القرائن الملابسة للخطاب كفيلة بإفراز المعاني المقصودة وكشف اللبس والغموض.
وتوجيه الإِمام انب عاشور لمعنى الآية مع إبقائه الاشتراء فيها على معناه المشهور لا يخلو من نظر على كلا الاحتمالين اللذين ذكرهما، أما على الأول فلأن كفر بني إسرائيل برسالة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام كان كفر عناد لا كفر جهل، فإنهم - كما أخبر الله عنهم -
{ { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146]، وفي ما قبل هذه الآية أخبر الله عنهم بأنهم كفروا لَّما جاءهم ما عرفوا، فأي مكان للجهل هنا؟ ولا داعي الى حمل هذه المعرفة على معرفة الصفة مع التفريط في تطبيقها على الموصوف، ولئن سلم ذلك فما منشأ هذا التفريط إلا العناد والحسد دون الجهل واللبس على أن هذه الحالة فيهم ألفت قديما في سلسلة مكابراتهم لأنبيائهم الذين جاءوهم بالبينات وشاهدوا منهم ما شاهدوا من المعجزات. فما عقب ذلك منهم إلا الكفر والتكذيب، وناهيك بما شاهدوا من آية انقاذهم من فرعون وآله على يدي موسى عليه السلام، وما تبع ذلك من الآيات الحسية المتلاحقة التي لا تدع مجالا للريب في صحة نبوة موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، ومع ذلك فإنهم ما كادوا يجتازون البحر حتى قالوا لموسى: { { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138]،واتخذوا العجل إلها يعبد وقالوا: { { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55]، وأعرضوا عن الميثاق فرفع فوقهم الطور، وقالوا لموسى: { { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24]، ولعمري ما مثلهم في كفرهم بنبوة النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه - مع أبصروا من الآيات الدالة على صدقه - إلا كمثل فرعون وآله الذين قال الله فيهم: { { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [النمل: 14].
وأما على الثاني فيستعبد أن يعبر القرآن - عن إيتائهم العاجلة وابتغائهم ما تهواه أنفسهم فيها من الرتب والمال - باشترائهم أنفسهم، وهو يقصد بذلك صونها وووقايتها مما يخشى إذ ذلك في حقيقته إتلاف لها وتعريضها لأسوأ أنواع التباب خصوصا مع معرفتهم بأنهم في صنيعهم مخطئون ولربهم عاصون.
والتعبير بصيغة الماضي في "اشتروا" والمضارع في (أن يكفروا) مع أن اشتراءهم هو الكفر نفسه للدلالة على أن هذه الحالة سبقت منهم على نزول الآية ولا زالوا مستصحبيها بعد النزول.
و(بغيا) مفعول لأجله علة ليكفروا على الظاهر لأنه أقرب ذكرا، ويجوز أن يكون علة لـ (اشتروا).
وأصله من بغى يبغي بمعنى أراد كما في قوله تعالى:
{ { مَا نَبْغِي } [يوسف: 65]، ومنه سميت الفاجرة بغيا لأنها تراد للزنى والعياذ بالله، واستعمل في قصد مجانبة طريق الحق بالإِساءة إلى الغير، وهو ينقسم إلى بغيين بهذا المفهوم لأنه إما أن يكون ابتغاء انتزاع تحق الغير أو تمني زوال نعمته، والأول يسمى ظلما والثاني حسدا، وهذه مصطلحات عرفية اشتهرت على الألسن فأصحبت جارية مجرى الحقائق الوضعية.
وبغي اليهود الدافع لهم إلى الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم - وهم أعرف الناس بها - من باب الحسد كما هو صريح في قولهم المحكى عنهم في القرآن:
{ { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } [آل عمران: 73]، وقد مر فيما قبل هذه الآية جواب سلام بن مشكم لمن دعاه من الأنصار إلى الإِسلام وما فيه من محالوة طمس الحقيقة بعد ظهورها حسدا لأن كان النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه من غير العنصر الإِسرائيلي، وقد كانوا يطمعون في كونه منهم، والله عليم بمن هو أولى بهذا الأمر وأجدر بهذا الخير: { { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124]، والنبوات اصطفاء من الله تعالى وليست مواريث تختص بها أجناس من البشر دون غيرها، على أن بني إسرائيل لم يعودوا أهلا لقيادة الإِنسانية، بعدما ارتكسوا في مهاوى الضلال، وتمرغوا في أوحال الدنية، وانطبعت نفوسهم بالحسد والحقد على الإِنسانية، وتلوثت أفكراهم بما تلوثت به من العقائد الزائغة والتصورات الباطلة الناتجة من مكابرة الحق والصدود عنه.
و(باء) بمعنى رجع، واستعمل في الانقلاب إلى العاقبة التي تكون نتيجة لسابقتها، كما يقال في الذين آمنوا "باؤوا برحمة الله ورضوانه"، ومنه مبوأ الصدق للجنة، ويقال في الذين كفروا باءوا بعقاب الله، واختلف في الغضب الأول هنا، فقيل هو لكفرهم بالمسيح عليه السلام، وقيل: لقولهم:
{ { يَامُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55]، وقيل: لاتخاذهم العجل، وقيل: لقتلهم النبيين، وقيل: لتحريفهم الكتاب؛ والغضب الثاني لكفرهم بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام, والصحيح أن المراد بـ "باءوا بغضب على غضب" ترادف الغضب عليهم بما أتوا من الفظائع واستحلوا من المحارم، لا حصره في غضبين كما قيل، ومثل هذا قوله تعالى في هدايته لخلقه وما نصبه لهم من معالم براهين الحق: { { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } [النور: 35]، وقوله في مثل الذين كفروا: { { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } [النور: 40].
و(ال) في (الكافرين) تحتمل أن تكون للعهد، والمعهود كفار بني إسرائيل الذين بصددهم الحديث في الآيات، وأن تكون للجنس وتشمل جميع الكافرين، ويدخل هؤلاء في الوعيد دخولا أوليا كما سبق، فان الكل أحقاء بالعذاب.
وأهان بمعنى أذل، وكل عذاب مذل للمعذب وإنما وُصف ما توعدوا به من عذاب بأنه مهين لزيادة التحذير منه والتنفير عن ملابسة ما يؤدي إليه من فاسد الاعتقاد وسيئات الأعمال.