التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ
١٣
-يونس

روح المعاني

{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ } مثل / قوم نوح وعاد وثمود وهو جمع قرن بفتح القاف أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران كأن أهل ذلك الزمان اقترنوا في أعمالهم وأحوالهم، وقيل: القرن أربعون سنة وقيل: ثمانون وقيل مائة وقيل هو مطلق الزمان، والمراد هنا المعنى الأول وكذا في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم" وقوله:

إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب

{ مِن قَبْلِكُمْ } أي من قبل زمانكم، والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمي، والجار والمجرور متعلق بأهلكنا، ومنع أبو البقاء كونه حالا من القرون { لَمَّا ظَلَمُواْ } أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغي والضلال، والظرف متعلق بأهلكنا وجَعْل (لما) شرطية بتقدير جواب هو أهلكناهم بقرينة ما قبله تكلف لا حاجة إليه وقوله سبحانه: { وَجَآءتْهُمْ رُسُلُهُم } حال من ضمير { ظَلَمُواْ } بإضمار قد وقوله تعالى: { بِٱلْبَيِّنَـٰتِ } متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع حال من { رُسُلُهُمْ } دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو متلبسين بها حين لا مجال للتكذيب، وجوز أبو البقاء وغيره عطفه على { ظَلَمُواْ } فلا محل له من الإعراب أو محله الجر وذلك عند من يرى إضافة الظرف إلى المعطوف عليه، والترتيب الذكري لا يجب أن يكون حسب الترتيب الوقوعي كما في قوله تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } [يوسف: 100] ولا حاجة إلى هذا الاعتذار بناء على أن الظلم ليس منحصراً في التكذيب بل هو محمول على سائر أنواع الظلم، والتكذيب مستفاد من قوله تعالى: { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } على أبلغ وجه وآكده لأن اللام لتأكيد النفي. وهذه الجملة على الأول عطف على { ظَلَمُواْ } وليس من العطف التفسيري في شيء على ما قاله صاحب «الكشف» خلافاً للطيبـي لأن الأولى إخبار بإحداث التكذيب وهذه إخبار بالإصرار عليه، وعلى الثاني عطف على ما عطف عليه، وقيل: اعتراض للتأكيد بين الفعل وما يجري مجرى مصدره التشبيهي أعني قوله سبحانه:

{ كَذٰلِكَ } فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أي مثل ذلك الجزاء الفظيع أي الإهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة { نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي كل طائفة مجرمة فيشمل القرون، وجعل ذلك عبارة عنهم غير مناسب للسياق. وقرىء { يجزي } بياء الغيبة التفاتاً من التكلم في { أَهْلَكْنَا } إليها. وحاصل المعنى على تقدير العطف أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل وأنهم ما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم، ويقتصر على الأمر الأول في بيان الحاصل على تقدير الاعتراض، وذكر الزمخشري بدل الأمر الثاني علم الله تعالى أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل عليهم السلام وجعل بياناً على التقديرين وفيه ما يحتاج إلى الكشف فتدبره.

وتعليل عدم الإيمان بالخذلان ونحوه ظاهر، وكلام القاضي صريح في تعليله أيضاً بعلم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر. واعترض بأنه مناف لقولهم: إن العلم تابع للمعلوم، وتكلف بعض الفضلاء في تصحيحه ما تكلف ولم يأت بشيء. وقال بعض المحققين: معنى كون العلم تابعاً للمعلوم أن علمه تعالى في الأزل بالمعلوم المعين الحادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية وفعليتها فيما لا يزال فتابع لعلمه الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال على هذه الخصوصية فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه تعالى الأزلي ووقوعه تابع له وهذا مما لا شبهة فيه وهو مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى وبه ينحل إشكالات كثيرة فليحفظ.

وذكر مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني أن معنى كون العلم تابعاً للمعلوم أنه متعلق به كاشف له على ما هو عليه وبنى على ذلك كون الماهيات ثابتة غير مجعولة في ثبوتها، والقول بالتبعية المذكورة مما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره ونازع في ذلك عبد الكريم الجيلي. وقال الشيخ محمد عمر البغدادي عليه الرحمة: إن كون العلم تابعاً للمعلوم بالنظر إلى حضرة الأعيان القديمة التي أعطت الحق العلم التفصيلي بها وأما بالنظر إلى العلم الإجمالي الكلي فالمعلوم تابع للعلم لأن الحق تعالى لما تجلى من ذاته لذاته بالفيض الأقدس حصلت الأعيان واستعداداتها فلم تحصل عن جهل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - وحينئذ فلا مخالفة بين الشيخ الأكبر قدس سره والجيلي، على أنه إن بقيت هناك مخالفة فالحق مع الشيخ لأن الجيلي بالنسبة إليه نحلت تدندن حول الحمى، والدليل أيضاً مع الشيخ كنار على علم لكنه قد أبعد رضي الله تعالى عنه الشوط بقوله: العلم تابع للمعلوم والمعلوم أنت وأنت هو والبحث وعر المسلك صعب المرتقى وتمام الكلام فيه يطلب من محله.

واستفادة معنى العلم هنا على ما قيل من التأكيد الذي أفادته اللام، وفي الآية وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لأنهم وأولئك المهلكين مشتركون فيما يقتضي الإهلاك، ويعلم مما تقرر أن ضمير { كَانُواْ } للقرون وهو ظاهر، وجوز مقاتل أن يكون الضمير لأهل مكة وهو خلاف الظاهر، وكذا جوز كون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذاناً بأنهم أعلام في الإجرام وذكر { ٱلْقَوْمَ } إشارة إلى أن العذاب عذاب استئصال. والتشبيه على هذا ظاهر إذ المعنى يجزيكم مثل جزاء من قبلكم، وأما على الأول فهو على منوال { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة: 143] وأضرابه وفيه بعد أيضاً بل قال بعض المحققين: يأباه كل الإباء قوله سبحانه: