التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٣١
-يونس

روح المعاني

{ قُلْ } أي لأولئك المشركين الذين حكيت أحوالهم وبين ما يؤدي إليه أفعالهم التي هي أفعى لهم احتجاجاً على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الإشراك. { مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَآء وَٱلأَرْضِ } أي منهما جميعاً فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية كالمطر وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ومواد أرضية والأولى بمنزلة الفاعل والثانية بمنزلة القابل أو من كل واحد منهما بالاستقلال كالأمطار والمن والأغذية الأرضية توسعة عليكم ـ فمن ـ على هذا لابتداء الغاية، وقيل: هي لبيان من على تقدير المضاف، وقيل: تبعيضية على ذلك التقدير أي من أهل السماء والأرض { أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَـٰرَ } (أم) منقطعة بمعنى بل والإضراب انتقالي لا إبطالي وفيه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة ومن وقف على تشريحهما وقف على ما يبهر العقول أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما عن أدنى شيء يصيبهما أو من يتصرف بهما إذهاباً وإبقاء، والملك على كل مجاز، قيل: والمعنى الأول أوفق لنظم الخالقية مع الرازقية كقوله تعالى: { { هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } [فاطر: 3].

{ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } أي ومن ينشىء الحيوان من النطفة مثلا والنطفة من الحيوان أو من يحيـي أو يميت بأن يكون المراد بالإخراج التحصيل من قولهم: الخارج كذا أي الحاصل أي من يحصل الحي من الميت بأن يفيض عليه الحياة ويحصل الميت من الحي بأن يفيض عليه الموت ويسلب عنه الحياة والمآل ما علمت، ومن الناس من فسر الحي والميت هنا بالمؤمن والكافر والأول أولى { وَمَن يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ } أي ومن يلي تدبير أمر العالم جميعاً وهو تعميم بعد تخصيص ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر، وفيه إشارة إلى أن الكل منه سبحانه وإليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله.

{ فَسَيَقُولُونَ } / بلا تلعثم ولا تأخير { ٱللَّهِ } إذ لا مجال للمكابرة والعناد في شيء من ذلك لغاية وضوحه، والاسم الجليل مبتدأ والخبر محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره { هَـٰذَا } وربما يستدل بالآية على تقدير أن لا تكون { مِنْ } لابتداء الغاية على جواز أن يقال الله سبحانه انه من أهل السماء والأرض، وكون المراد هناك غير الله تعالى لا يناسب الجواب ومن لم ير الجواز تعني ومن رآه بناء على ظواهر الآيات المفيدة لكونه تعالى في السماء وقوله صلى الله عليه وسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قيل لها: اين الله؟ "أعتقها فإنها مؤمنة" وإقراره حصيناً حين قال له عليه الصلاة والسلام: "كم تعبد يا حصين؟ فقال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء فقال صلى الله عليه وسلم: فمن الذي أعددته لرغبتك ورهبتك؟ فقال حصين: الإله الذي في السماء" أبقى الآية على ما يقتضيه ظاهرها. وأنت تعلم إنه لم يرد صريحاً كونه تعالى من أهل السماء والأرض وان ورد كونه جل وعلا في السماء على المعنى اللائق بجلاله جل جلاله فلا أرى جواز ذلك، ولا داعي لإخراج { مِنْ } عن ابتداء الغاية ليحتاج إلى العناية في رد الاستدلال كما لا يخفى.

وفي «الانتصاف» ((أن هذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الارزاق منقسمة فمنها ما رزقه الله تعالى للعبد وهو الحلال ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام فهي ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا { { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } [يونس: 42] وكذا فيما قيل تكفح في وجوه أناس يزعمون أن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه وهو عماد السماء عندهم ولولاه لوقعت على الأرض فكأني بك إذا سألتهم من يدبر الأمر يقولون القطب، وقد يعتذر عنهم بأن مرادهم أنه المدبر بإذن الله تعالى وجاء اطلاق المدبر بهذا المعنى على غيره تعالى في قوله سبحانه: { فَٱلْمُدَبِّرٰتِ أَمْراً } [النازعات: 5].

وربما يقال إنه لا فرق عندهم بين الله تعالى وبين القطب إلا بالاعتبار لأنه الذي فاز بقربـي النوافل والفرائض على أتم وجه فارتفعت الغيرية، فالقول بأن القطب هو المدبر كالقول بأن الله سبحانه هو المدبر بلا فرق. واعترض هذا بأنه ذهاب إلى القول بوحدة الوجود وأكثر المتكلمين وبعض الصوفية كالإمام الرباني قدس سره ينكرون ذلك، والأول بأنه هلا قال المشركون في جواب ذلك: الملائكة أو عيسى عليهم السلام مثلا على معنى أنهم المدبرون للأمر بإذن الله تعالى فيكون المذكورون عندهم بمنزلة الأقطاب عند أولئك، وأجيب بأن السؤال إنما هو عمن ينتهي إليه الأمر فلا يتسنى لهم إلا الجواب المذكور، ولعل غير أهل الوحدة لو سئلوا كذلك ما عدلوا في الجواب عنه سبحانه، وأما أهل الوحدة قدس الله تعالى أسرارهم فلهم كلمات لا يقولها المشركون وهي لعمري فوق طور العقل ولذا أنكرها أهل الظاهر عليهم.

{ فَقُلْ } لهم { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في قولك: أتضرب إياك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قولك: أأضرب أبـي، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تتقون، والخلاف في مثل هذا التركيب شهير وما ذكرناه هو ما عليه البعض، ومفعول { تَتَّقُونَ } محذوف وهو متعد لواحد أي أفلا تتقون عذابه الذي لكم بما تتعاطونه من إشراككم به سبحانه ما لا يشاركه في شيء مما ذكر من خواص الأولوهية، وكلام القاضي يوهم أنه متعد إلى مفعولين وليس بذاك.