التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ
١
-الكوثر

روح المعاني

{ إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ } وقرأ الحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني (أنطيناك) بالنون وهي على ما قال التبريزي لغة العرب العرباء من أولي قريش وذكر غيره أنها لغة بني تميم وأهل اليمن وليست من الإبدال الصناعي في شيء ومن كلامه صلى الله عليه وسلم (( "اليد العليا المنطية واليد السفلى المنطاة" )) وكتب عليه الصلاة والسلام لوائل "أنطوا الثبجة أي الوسط في الصدقة" .

{ ٱلْكَوْثَرَ } فيه أقوال كثيرة فذهب أكثر المفسرين إلى أنه نهر في الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث المتقدم آنفاً المروي عن الإمام أحمد ومسلم ومن معهما "هل تدرون ما الكوثر قالوا الله تعالى ورسوله أعلم قال هو نهر أعطانيه ربـي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك" وقوله عليه الصلاة والسلام على ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم (( "دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك إذفر قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى" )) وجاء في حديث عن أنس أيضاً قال "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قد أعطيت الكوثر قلت يا رسول الله وما الكوثر قال نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ولا يتوضأ منه أحد فيشعث أبداً لا يشرب منه من أخفر ذمتي ولا من قتل أهل بيتي." وروي عن عائشة أنها قالت هو نهر في الجنة عمقه سبعون ألف فرسخ ماؤه أشد بياضاً / من اللبن وأحلى من العسل شاطئاه الدر والياقوت والزبرجد خص الله تعالى به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقالت ليس أحد يدخل أصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر وهو على التشبيه البليغ.

وقيل هو حوض له عليه الصلاة والسلام في المحشر. وقول بعضهم الاختلاف في الروايات سببه ملاحظة اختلاف سرعة السير وعدمها وهو قبل الميزان والصراط عند بعض وبعدهما قريباً من باب الجنة حيث يحبس أهلها من أمته صلى الله عليه وسلم ليتحاللوا من المظالم التي بينهم عند آخرين ويكون على هذا في الأرض المبدلة. وقيل له صلى الله عليه وسلم حوضان حوض قبل الصراط وحوض بعده ويسمى كل منهما على ما حكاه القاضي زكريا كوثراً وصححرحمه الله تعالى أنه بعد الصراط وأن الكوثر في الجنة وأن ماءه ينصب فيه ولذا يسمى كوثراً وليس هو من خواصه عليه الصلاة والسلام كالنهر السابق بل يكون لسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرده مؤمنو أممهم ففي حديث الترمذي "إن لكل نبـي حوضاً وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة" وهو كما قال حديث حسن غريب.

وهذه الحياض لا يجب الإيمان بها كما يجب الإيمان بحوضه عليه الصلاة والسلام عندنا خلافاً للمعتزلة النافين له لكون أحاديثه بلغت مبلغ التواتر بخلاف أحاديثها فإنها آحاد بل قيل لا تكاد تبلغ الصحة ورأيت في بعض الكتب أن الكوثر هو النهر الذي ذكره أولاً وهو الحوض وهو على ظهر ملك عظيم يكون مع النبـي صلى الله عليه وسلم حيث يكون فيكون في المحشر إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيه وفي الجنة إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيها ولا يعجز الله تعالى شيء.

وقيل هو أولاده عليه الصلاة والسلام لأن السورة نزلت رداً على من عابه صلى الله عليه وسلم وهم والحمد لله تعالى كثيرون قد ملؤا البسيطة وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب أصحابه وأشياعه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وقيل علماء أمته صلى الله عليه وسلم وهم أيضاً كثيرون في كل قطر وإن كانوا اليوم في بعض الأقطار والأمر لله تعالى أقل قليل وعن الحسن أنه القرآن وفضائله لا تحصى وقال الحسين بن الفضل هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع وقيل هو الإسلام وقال هلال هو التوحيد وقال عكرمة هو النبوة وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه هو نور قلبه صلى الله عليه وسلم وقيل هو العلم والحكمة وقال ابن كيسان هو الإيثار وقيل هو الفضائل الكثيرة المتصف بها عليه الصلاة والسلام وقيل المقام المحمود وقيل غير ذلك وقد ذكر في «التحرير» ستة وعشرين قولاً فيه وصحح في «البحر» قول النهر وجماعة أنه الخير الكثير والنعم الدنيوية والأخروية من الفضائل والفواضل ورواه ابن جرير وابن عساكر عن مجاهد وهو المشهور عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد أخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبـي بشر عن سعيد بن جبير عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال الكوثر الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام قال أبو بشر قلت لسعيد فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة قال النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إياه صلى الله عليه وسلم وحكى هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضاً وفيه إشارة إلى أن ما صح في الأحاديث من تفسيره صلى الله عليه وسلم إياه بالنهر من باب التمثيل والتخصيص لنكتة وإلا فبعد أن صح الحديث في ذلك بل كاد يكون متواتراً كيف يعدل عنه إلى تفسير آخر وكذا يقال في سائر ما في الأقوال السابقة وغيرها.

وهو فوعل من الكثرة صيغة مبالغة الشيء الكثير كثرة مفرطة قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك قالت بكوثر وقال الكميت:

وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

/ وفي حذف موصوفه ما لا يخفى من المبالغة على ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية.

وفي إسناد الإعطاء إليه دون الإيتاء إشارة إلى أن ذلك إيتاء على جهة التمليك فإن الإعطاء دونه كثيراً ما يستعمل في ذلك ومنه قوله تعالى لسليمان عليه السلام: { هذا عَطَاؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ } [ص: 39] بعد قوله { هَبْ لِى مَلَكًا } [ص: 35] وقيل فيه إشارة إلى أن المعطي وإن كان كثيراً في نفسه قليل بالنسبة إلى شأنه عليه الصلاة والسلام بناء على أن الإيتاء لا يستعمل إلا في الشيء العظيم كقوله تعالى: { وَآتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } [البقرة: 251] { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } [سبأ: 10] { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } [الحجر: 87] والإعطاء يستعمل في القليل والكثير كما قال تعالى { { وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } [النجم: 34] ففيه من تعظيمه عليه الصلاة والسلام ما فيه. وقيل التعبير بذلك لأنه بالتفضل أشبه بخلاف الإيتاء فإنه قد يكون واجباً ففيه إشارة إلى الدوام والتزايد أبداً لأن التفضل نتيجة كرم الله تعالى الغير المتناهي وفي جعل المفعول الأول ضمير المخاطب دون الرسول أو نحوه إشعار بأن الإعطاء غير معلل هو من محض الاختيار والمشيئة وفيه أيضاً من تعظيمه عليه الصلاة والسلام بالخطاب ما لا يخفى. وجوز أن يكون في إسناد الإعطاء إلى نا إشارة إلى أنه مما سعى فيه الملائكة والأنبياء المتقدمون عليهم السلام. وفي التعبير بالماضي قيل إشارة إلى تحقق الوقوع وقيل إشارة إلى تعظيم الإعطاء وأنه أمر مرعى لم يترك إلى أن يفعل بعدو قيل إشارة إلى بشارة أخرى كأنه قيل إنا هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية وقيل إشارة إلى أن حكم الله تعالى بالإغناء والإفقار والإسعاد والإشقاء ليس أمراً محدثاً بل هو حاصل في الأزل. وبنى الفعل على المبتدأ للتأكيد والتقوي وجوز أن يكون للتخصيص على بعض الأقوال السابقة في الكوثر وفي تأكيد الجملة بإن ما لا يخفى من الاعتناء بشأن الخبر وقيل لرد استبعاد السامع الإعطاء لما أنه لم يعلل والمعطى في غاية الكثرة وجوز أن يكون لرد الإنكار على بعض الأقوال في الكوثر أيضاً والفاء في قوله تعالى: { فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ }.