التفاسير

< >
عرض

إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ
٣
-الكوثر

روح المعاني

{ إِنَّ شَانِئَكَ } أي مبغضك كائناً من كان { هُوَ ٱلأَبْتَرُ } الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان. وأصل البتر القطع وشاع في قطع الذنب وقيل لمن لا عقب له أبتر على الاستعارة شبه الولد والأثر الباقي بالذنب لكونه خلفه فكأنه بعده وعدمه بعدمه وفسره قتادة بالحقير الذليل وليس بذاك كما يفصح عنه سبب النزول وفيها عليه دلالة على أن أولاد البنات من الذرية كما قال غير واحد.

واسم الفاعل أعني شانىء هٰهنا قيل بمعنى الماضي ليكون معرفة بالإضافة فيكون (الأبتر) خبره ولا يشكل ذلك بمن كان يبغضه عليه الصلاة والسلام قبل الإيمان من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم هداه الله تعالى للإيمان وذاق حلاوته فكان صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأعز عليه من روحه ولم يكن أبتر لما أن الحكم على المشتق يفيد علية مأخذه فيفيد الكلام إن الأبترية معللة / بالبغض فتدور معه وقد زال في أولئك الأكابر رضي الله تعالى عنهم. واختار بعضهم في دفع ذلك حمل اسم الفاعل على الاستمرار فهم لم يستمروا على البغض. والظاهر أنه انقطع نسل كل من كان مبغضاً له عليه الصلاة والسلام حقيقة وقيل انقطع حقيقة أو حكماً لأن من أسلم من نسل المبغضين انقطع انتفاع أبيه منه بالدعاء ونحوه لأنه. لا عصمة بين مسلم وكافر.

وما أشرنا إليه من أن { هُوَ } ضمير فصل هو الأظهر وجوز أن يكون مبتدأ خبره { ٱلأَبْتَرُ } والجملة خبر { شَانِئَكَ } وحينئذ يجوز صناعة أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال وحَمْل { شَانِئَكَ } على الجنس الظاهر وخصه بعضهم بمن جاء في سبب النزول واحداً أو متعدداً وفيه روايات أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبـي عن أبـي صالح عن ابن عباس قال كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية فمات القاسم عليه السلام وهو أول ميت من ولده عليه الصلاة والسلام بمكة ثم مات عبد الله عليه السلام فقال العاص بن وائل السهمي قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله تعالى { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } وأخرج ابن أبـي حاتم وابن جرير عن شمر بن عطية قال كان عقبة بن أبـي معيط يقول إنه لا يبقى للنبـي صلى الله عليه وسلم عقب وهو أبتر فأنزل الله فيه { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبـي أيوب قال لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا إن هذا الصابىء قد بتر الليلة فأنزل الله تعالى { إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ } السورة.

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال في الآية هو أبو جهل أي لأنها نزلت فيه وهذا المقدار في الرواية عن ابن عباس لا بأس به وحكاية أبـي حيان عنه أنه لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال بتر محمد عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } لا تكاد تصح لأن هلاك اللعين أبـي جهل على التحقيق قبل وفاة إبراهيم عليه السلام وعن عطاء أنها نزلت في أبـي لهب والجمهور على نزولها في العاص بن وائل وأياً ما كان فلا ريب في ظهور عموم الحكم والجملة كالتعليل لما يفهمه الكلام فكأنه قيل: إنا أعطيناك ما لا يدخل تحت الحصر من النعم فَصَلِّ وانحر خالصاً لوجه ربك ولا تكترث بقول الشانيء الكريه فإنه هو الأبتر لا أنت وتأكيدها قيل للاعتناء بشأن مضمونها وقيل هو مثله في نحو قوله تعالى: { { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [هود: 37] وذلك لمكان فلا تكترث الخ المفهوم من السياق.

وفي التعبير بالأبتر دون المبتور على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ما لا يخفى من المبالغة وعمم هذا الشيخ عليه الرحمة كلاً من جزأي الجملة فقال إنه سبحانه يبتر شانيء رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خير فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحاً لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والإيمان برسله عليهم السلام ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصراً ولا عوناً ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعماً ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هواه كمن تأول آيات الصفات أو أحاديثها على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام أو تمنى أن لا تكون نزلت أو قيلت ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها إذا سمعها حين يستدل بها السلفي على ما دلت عليه من الحق وأي شنآن للرسول عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والدفوف والشبابات فإذا سمعوا القرآن يتلى أو قرىء في مجلسهم استطالوه واستثقلوه وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة إلى غير ذلك ولكل نصيب من الانبتار على قدر شنآنه. وفي بعضه نظر لا يخفى.

وقرأ ابن عباس (شنيك) بغير / ألف فقيل مقصور من شاني كما قالوا برد في بارد وبر في بار وجوز أن يكون بناءً على فعل.

هذا واعلم أن هذه السورة الكريمة على قصرها وإيجازها قد اشتملت على ما ينادي على عظيم إعجازها وقد أطال الإمام فيها الكلام وأتى بكثير مما يستحسنه ذوو الأفهام وذكر أن قوله تعالى: { وَٱنْحَرْ } متضمن الإخبار بالغيب وهو سعة ذات يده صلى الله عليه وسلم وأمته وقيل مثله في ذلك { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }. وذكر أنه روي أن مسيلمة الكذاب عارضها بقوله: إنا أعطيناك الزماجر فصل لربك وهاجر إن مبغضك رجل كافر. ثم بين الفرق من عدة أوجه وهو لعمري مثل الصبح ظاهر ومن أراد الاطلاع على أزيد مما ذكر فليرجع إلى «تفسير الإمام» [الرازي] والله تعالى ولي التوفيق والإنعام.