التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
١١٦
-هود

روح المعاني

{ فَلَوْلاَ كَانَ } تحضيض فيه معنى التفجع مجازاً أي فهلا / كان { مّنَ ٱلْقُرُونِ } أي الأقوام المقترنة في زمان واحد { مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ } أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل أو ذوو فضل على أن يكون ـ البقية ـ اسماً للفضل والهاء للنقل، وأطلق عليه ذلك على سبيل الاستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبذلك فسر بيت «الحماسة»:

إن تذنبوا ثم يأتيني (بقيتكم) فما علي بذنب عندكم فوت

ومنه قولهم: في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا، وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لأنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه، والظاهر أنها على هذا مصدر، وقيل: اسم مصدر، ويؤيد المصدرية أنه قرىء { بَقِيَّةُ } بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه، وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تأخر صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج» الخبر أراد معاذ انتظرناه، وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضى يرضى، والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه، وقرىء { بقية } بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية. وقرأ أبو جعفر وشيبة { بقية } بضم الباء وسكون القاف.

{ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِي ٱلأَرْضِ } الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم، وفسر الفساد في «البحر» بالكفر وما اقترن به من المعاصي { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } استثناء منقطع أي ولكن قليلاً منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون، وقيل أي: ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي، و { مِنْ } الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه: { { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الأعراف: 165] وإلى ذلك ذهب الزمخشري، ومنع اتصال الاستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لاستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضاً ـ لأولي البقية ـ على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، ثم قال: ((وإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلاً كان استثناءاً متصلاً ومعنى صحيحاً وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل))، والحاصل أن في الكلام اعتبارين: التحضيض والنفي، فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلاً لأن المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له، والتحضيض معناه لم ما نهوا، ولا يجوز أن يقال: إلا قليلا فانهم لا يقال لهم: لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون. وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فإنك إذا قلت: اضرب القوم إلا زيداً فليس المعنى على أنه ليس أضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلا زيداً فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال: أولو بقية محضوضون على النهي إلا قليلاً فإنهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعاً كما ذهب إليه بعض السلف، وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الاستثناء أنهم غير محضوضين، وذلك إما لكونهم نهوا أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم، فإما أن يكون قد جعل احتمال الفساد إفساداً أو ادّعى أنه هو المفهوم من السياق. ثم إن المدقق «صاحب» الكشف قال: إن ظاهر تقرير / كلام الزمخشري يشعر بأن { يَنْهَوْنَ } خبر { كَانَ } جعل { مّنَ ٱلْقُرُونِ } خبراً آخر أو حالاً قدمت لأن تحضيض ـ أولي البقية ـ على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة، و { مّنَ ٱلْقُرُونِ } خبراً كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبراً لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا بل كان ما كان منهم أولو بقية ناهين إلا قليلاً فإنهم نهوا وهو فاسد، والانقطاع على ما أثره الزمخشري أيضاً يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم، فالوجه أن يؤوّل بأن المقصد من ذكر الاسم الخبر وهو كالتمهيد له كأنه قيل: فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلا قليلاً، وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهي، وأولو البقية، وإنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولي بالتحضيض والتنديم، وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الاسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلا ناهياً فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو من باب.

ولا ترى الضب بها ينجحر

وقولك: ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لا شجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان لهم شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم انتهى، وهو تحقيق دقيق أنيق. وادعى بعضهم أن الظاهر أن { كَانَ } تامة، و { أُوْلُو بَقِيَّةُ } فاعلها، وجملة { يَنْهَوْنَ } صفته، و{ مّنَ ٱلْقُرُونِ } حال متقدمة عليه، و { مِنْ } تبعيضية، و { مِن قَبْلِكُمْ } حال من { ٱلْقُرُونِ }، ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناءاً على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضاً ونفياً، والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيداً في الكلام؛ والاستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة في الطنبور من غير طرب، ومثله يعد من النصب.

{ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وهم تاركو النهي عن الفساد. { مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ } ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية، وأصل الترف التوسع في النعمة. وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة، وقيل: { أُتْرِفُواْ } أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته ـ ففي ـ إما سببية أو ظرفية مجازية، وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا؛ ومعنى اتباع ذلك الاهتمام به وترك غيره أي اهتموا بذلك { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } أي مرتكبي جرائم غير ذلك، أو كافرين متصفين بما هو أعظم الاجرام، ولكل من التفسيرين ذهب بعض، وحمل بعضهم { ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } على ما يعم تاركي النهي عن الفساد والمباشرين له، ثم قال: وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة، ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل، والجملة عند أبـي حيان مستأنفة لخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك. وجوز بعض المحققين أن تكون عطفاً على مقدر دل عليه الكلام أي لم ينهوا واتبع الخ. وقيل: التقدير إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين الخ، وأن تكون استئنافاً يترتب على قوله سبحانه: { إِلاَّ قَلِيلاً } أي إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه، وجعل الإظهار على هذا مقتضى الظاهر، وعلى الأول لإدراج المباشرين مع التاركين / في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب.

وفي «الكشاف» ما يقضي ظاهره بأن العطف على { نهوا } الواقع خبر لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبراً أيضاً مع خلوه عن الرابط، وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن { نُهُوا } جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها، وفي ذلك ما فيه، وقوله تعالى: { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } عطف على { ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ } الخ مع المغايرة بينهما، وجوز أن يكون العطف تفسيرياً على معنى: وكانوا مجرمين بذلك الاتباع، وفيه بعد، وأن يكون على { أُتْرِفُواْ } على معنى اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر، وتعقبه صاحب «التقريب» بقوله: وفيه نظر لأن ما في { مَآ أُتْرِفُواْ } موصولة لا مصدرية لعود الضمير من { فِيهِ } إليه، فكيف يقدر { كَانُواْ } مصدراً إلا أن يقال: يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة { ظَلَمُواْ } فتكون { مَا } مصدرية وأن تكون الجملة اعتراضاً بناءاً على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني.

وقرأ أبو جعفر والعلاء بن سيابة وأبو عمرو وفي رواية الجعفي { وَٱتَّبِعْ } بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الاتباع، قيل: ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي اتبعوا جزاء ما أترفوا و { مَا } إما مصدرية أو موصولة والواو للحال، وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهوا المقدر، والمعنى على الأوّل إلا قليلاً نجيناهم وقد هلك سائرهم. وأما قوله سبحانه: { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } فقد قالوا: إنه لا يحسن جعله قيداً للإنجاء إلا من حيث أنه يجري مجرى العلة لإهلاك السائر فيكون اعتراضاً أو حالاً من { ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } والحال الأول من مفعول { أَنجَيْنَا } المقدر وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة، وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا، والواو للحال أيضاً في القول الشائع كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا، وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل: فاعل { وَٱتَّبِعْ } { مَآ أُتْرِفُواْ } أو الكلام على القلب فتدبر.