التفاسير

< >
عرض

لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ
٢٢
-هود

روح المعاني

{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } أي لا أحد أبين أو أكثر خسراناً منهم، فأفعل للزيادة إما في الكم أو الكيف، وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر، وإن جعل { هُمْ } ضمير فصل أفاد تأكيد الاختصاص، وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم، وفي { لاَ جَرَمَ } أقوال: ففي «البحر» عن الزجاج أن ـ لا ـ نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلمهم مثلا، و ـ جرم ـ فعل ماض بمعنى كسب يقال: جرمت الذنب إذا كسبته؛ وقال الشاعر:

نصبنا رأسه في جذع نخل بما جرمت يداه وما اعتدينا

وما بعده مفعوله، وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك أظهرية أو أكثرية خسرانهم، وحكي هذا عن الأزهري، ونقل عن سيبويه أن ـ لا ـ نافية حسبما نقل عن الزجاج، و ـ جرم ـ فعل ماض بمعنى حق، وما بعد فاعله كأنه قيل: لا ينفعهم ذلك الفعل حق أنهم في الآخرة الخ.

وذكر أبو حيان أن مذهب سيبويه وكذا الخليل أيضاً كون مجموع { لاَ جَرَمَ } بمعنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية، وقيل: { لا } صلة و { جَرَمَ } فعل بمعنى كسب أو حق، وعن الكسائي أن { لا } نافية { وجرم } اسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل، والمعنى لا ضد ولا منع، والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسبما يقتضيه المعنى، وقيل: إن { لاَ جَرَمَ } اسم { لا } ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته، والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه.

ونقل السيرافي عن الزجاج أن { لاَ جَرَمَ } في الأصل بمعنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الاثم، ثم كثر استعماله حتى صار بمعنى لا بد، ونقل هذا المعنى عن الفراء، وفي البحر أن { جَرَمَ } عليه اسم { لا }، وقيل: إن { جَرَمَ } بمعنى باطل إما على أنه موضوع له، وإما أنه بمعنى كسب والباطل محتاج له، ومن هنا يفسر { لاَ جَرَمَ } بمعنى حقاً لأن الحق نقيض الباطل، وصار لا باطل يميناً كلا كذب في قول النبـي صلى الله عليه وسلم: "أنا النبـي لا كذب" وفي «القاموس» أنه يقال: { لاَ جَرَمَ } ولاذا جرم، ولا أن ذا جرم ولا عن ذا جرم ولا جرم ككرم، و { لا جرم } بالضم أي لا بد أو حقاً أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام، فيقال: { لاَ جَرَمَ } لآتينك انتهى، وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج، وما ذكره من { لا جرم } بالضم عن أناس من العرب، ولكن قال الشهاب: إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم تردداً، وجرم فيها يحتمل أن يكون اسماً وأن يكون فعلاً مجهولاً سكن للتخفيف، وحكى بعضهم لا ذو جرم ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الاستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم: سو ترى. والظاهر أن المقحمات بين { لا } و { جرم } زائدة، وإليه يشير كلام بعضهم، وحكى بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا جرم فليراجع ذاك والله تعالى يتولى هداك.

ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما لهم، شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه: / { { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } [هود: 17] الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالاً ومآلاً فقال عز من قائل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }.