التفاسير

< >
عرض

قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤٨
-هود

روح المعاني

{ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ } الخ وهو من الحسن بمكان، وبنى الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى، وقيل: القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل: أي انزل من الفلك، وقيل: من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودي في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك / شهراً، ثم قيل له: اهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها: قرية الثمانين عدد من في السفينة، وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتاً فسميت سوق الثمانين. وأخرج ابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لما استقرت السفينة على الجودي لبث نوح عليه السلام ما شاء الله تعالى، ثم إنه أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال: ائتني بخبر الأرض، فانحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ عليه فلعنه، ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال: اهبطي فأتني بخبر الأرض فانحدرت فلم تلبث قليلاً حتى جاءت تنفض ريشها بمنقارها فقالت: اهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح: بارك الله تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولولا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب، والظاهر عندي أن الهبوط من الجودي الذي استقرت عليه السفينة إلى الأرض، وليس في الكلام ما يستدعي أن يكون بعد الاستقرار بلا مهلة ليقال: إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء، والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور، ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب، وخبر الحمامة. والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون، والله تعالى أعلم بصحته، وغالب الظن أنه لم يصح، وكذا اشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل وأنها لما ضاقت عليهم تحولوا إلى باب فبنوها. وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال: أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل. وقرىء { ٱهْبِطْ } بضم الباء.

{ بِسَلَـٰمٍ } أي ملتبساً بسلامة مما تكره كائنة { مِنَّا } أي من جهتنا، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلماً عليك من جهتنا { وَبَركَـٰتٍ عَلَيْكَ } أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق، أو مباركاً عليك أي مدعواً لك بالبركة بأن يقال: بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله: السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، ((وأصل البَرْكِ ـ كما قال الراغب ـ صدرُ البعير يقال: برك البعير إذا ألقى ركبه، واعتبر منه [معنى] اللزوم ولذا سمي محبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الإلۤهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة. ولما كان الخير الإلۤهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة: هو مبارك وفيه بركة، ولما في ذلك من الإشعار باللزوم وكونه غير محسوس اختص تبارك بالاستعمال في الله تبارك وتعالى)) كما قيل، وفي «الكشف» كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه، ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر، وحكى عبد العزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ ـ وبركة ـ بالتوحيد، وفي الآية على القراءتين صنعة الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول، وذكر فيه ما حذف من الأول، والتقدير سلام منا عليك وبركات، أو وبركة منا عليك، وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه السلام وخلاصة من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره.

{ وَعَلَىٰ أُمَمٍ } ناشئة { مّمَّن مَّعَكَ } متشعبة منهم ـ فمن ـ ابتدائية، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة، والمراد ممن معه أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناءً على ما قيل: إنه لم يعقب غيرهم، فالناس كلهم على هذا من نسل نوح عليه السلام؛ ومن هنا سمي عليه السلام آدم الثاني وآدم الأصغر، واستدل لذلك بقوله تعالى: { { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ / هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ } [الصافات: 77] وقد يقال ببقاء ـ من ـ على عمومه بناءاً على ما عليه أكثر المفسرين من عدم اختصاص النسل بأولاده عليه السلام بل لمن معه نسل باق أيضاً، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقوله سبحانه: { وَأُمَمٌ } بالرفع وهو على ما ذهب إليه الزمخشري مبتدأ، وجملة قوله تعالى: { سَنُمَتّعُهُمْ } صفته، والخبر محذوف أي ومنهم أمم، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركاً له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ } فيها أو في الآخرة أو فيهما { مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } وجوز أبو حيان أن يكون { أُمَمٌ } مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة، والتقدير وأمم منهم، وجملة { سَنُمَتّعُهُمْ } هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضاً { سَنُمَتّعُهُمْ } ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر:

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول

وقول القرطبـي: ((إنه ارتفع { أُمَمٌ } على معنى ويكون أمم)) إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس بجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول: كلمت زيداً وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف، ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالاً مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة. وقال أبو البقاء: إن { أُمَمٌ } معطوف على الضمير في { ٱهْبِطْ } والتقدير اهبط أنت وأمم وكان الفصل بينهما مغنياً عن التأكيد، و { سَنُمَتّعُهُمْ } نعت لأمم، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى: { وَمَنْ آمَنَ } [هود: 40] ولم يكونوا قسمين كفاراً ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد. وجوز أن تكون ـ من ـ في { مّمَّن مَّعَكَ } بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وسموا أمماً لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازاً فحينئذٍ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه: { وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ } بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة.

وفي «الكشاف» إن الوجه هو الأول قيل: ليقابل قوله تعالى: { وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ } ولأنه أشمل ولأن ـ من ـ الابتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه: { { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـٰلِحٍ } [هود: 46] ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني، واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبـي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه السلام، فلا يرد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلماً عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة، وإن جعل من باب { إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120] لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهماً غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال: حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم / فيما تقدم، نعم قيل: إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاءاً لأن (مَن) المذكورة بيانية، والمحذوفة تبعيضية أو ابتدائية، وربما يجاب عنه أيضاً بإلزام أن لا حذف أصلاً كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفاً فتدبر جميع ما ذكر.

والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن محمد القرظي قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال الله تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس، وقيل: المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، وبالعذاب ما نزل بهم، وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه السلام فإن الله تعالى جعل فيها البركة وليس بشيء كما لا يخفى. وهٰهنا لطيفة وهي أنه قد تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله:

وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر

ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق، ولله تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه.