التفاسير

< >
عرض

فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ
٥
-المسد

روح المعاني

وقوله تعالى: { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في موضع الحال من الضمير في { حَمَّالَةَ } وقيل من { امْرَأَتُهُ } المعطوف على الضمير وقيل الظرف حال منها و{ حَبْلٌ } مرتفع به على الفاعلية وقيل هو خبر لامرأته وهي مبتدأ لا معطوفة على الضمير و{ حَبْلٌ } فاعل وعلى قراءة { حمالة } بالرفع قيل { امْرَأَتُهُ } مبتدأ و{ حمالة } خبر وفي { جِيدِهَا حَبْلٌ } خبر ثان أو حال من ضمير { حمالة } أو الظرف كذلك و{ حبل } مرتفع به على الفاعلية أو { امرأته } مبتدأ و{ حمالة } صفته لأنه للماضي فيتعرف بالإضافة والخبر على ما سمعت أو { امرأته } عطف على الضمير و{ حمالة } خبر مبتدأ محذوف أي هي حمالة وما بعد خبر ثان أو حال من ضمير { حمالة } على نظير ما مر. وفي التركيب غير ذلك من أوجه الإعراب سيذكر إن شاء الله تعالى وبعض ما ذكرناه هٰهنا غير مطرد على / جميع الأوجه في معنى الآية كما لا يخفى عند الاطلاع عليها على المتأمل.

والمسد ما مسد أي فتل من الحبال فتلاً شديداً من ليف المقل على ما قال أبو الفتح ومن أي ليف على ما قيل وقيل من لحاء شجر باليمن يسمى المسد وروي ذلك عن ابن زيد وقد يكون كما في «البحر» من جلود الإبل أو أوبارها ومنه قوله:

وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانِقِ ليست بأنيابٍ ولا حَقَائِقِ

أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال والمراد تصويرها بصور الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تخسيساً لحالها وتحقيراً لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها إذ كانا في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبـي لهب بحمالة الحطب فقال:

ما ذا أردت إلى شتمى ومنقصتي أم ما تعير من حمالة الحطب
غراء شادخة في المجد غرتها كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب

وقد أغضبها ذلك فيروى أنها لما سمعت السورة أتت أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر فقالت بلغني أن صاحبك هجاني ولأفعلن وأفعلن وإن كان شاعراً فأنا مثله أقول:

مذمما أبينا ودينه قلينا
وأمره عصينا

وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي أن أبا بكر قال لها هل ترى معي أحداً؟ فقالت أتهزأ بـي لا أرى غيرك فسكت أبو بكر ومضت وهي تقول قريش تعلم أني بنت سيدها فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام "لقد حجبني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله تعالى شرها." وقيل إن ذلك ترشيح للمجاز بناء على اعتباره في { حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ } [المسد: 4] وفي «الكشاف» ((يحتمل أن يكون المعنى تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه)) وعليه فالحبل مستعار للسلسلة وروي هذا عن عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان.

وأمر الإعراب على ما في «الكشف» أنه إن نصب { حمالة } يكون حالاً هو والجملة أعني { في جيدها حبل } عن المعطوف على ضمير { سيصلى } أي ستصلي امرأته على هذه الحالة أو يكون { حمالة } نصباً على الذم والجملة وحدها حالاً أو { امرأته... في جيدها حبل } جملة وقعت حالاً عن الضمير ويحتمل عطف الجملة على الجملة على ضعف وعلى الرفع يحتمل أن تكون الجملة حالاً وأن يكون (امرأته) عطفاً على الفاعل و{ حمالة الحطب * في جيدها } جملة لا محل لها من الإعراب وقعت بياناً لكيفية صليها أي هي حمالة الحطب انتهى فتأمل ولا تغفل.

وعلى جميع الأوجه والاحتمالات إنما لم يقل سبحانه في عنقها والمعروف أن يذكر العنق مع الغل ونحوه مما فيه امتهان كما قال تعالى { فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } [يس: 8] والجيد مع الحلي كقوله:

وأحسن من جيد المليحة حليها

ولو قال عنقها كان غثاً من الكلام قال في «الروض الأنف» لأنه تهكم نحو { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21] أي لا جيد لها فيحلى ولو كان لكانت حليته هذه ولتحقيرها قيل { امْرَأَتُهُ } ولم يقل زوجه انتهى وهو بديع جداً إلا أنه يعكر على آخره قوله تعالى { وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ } [هود: 71] ولعله استعان هٰهنا على ما قال بالمقام.

وعن قتادة أنه كان في جيدها قلادة من ودع وفي معناه قول الحسن من خرز وقال ابن المسيب كانت قلادة فاخرة من جوهر وأنها قالت واللات والعزى لانفقنها على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ولعل المراد على هذا أنها تكون في نار جهنم ذات قلادة من حديد ممسود بدل قلادتها التي كانت تقول فيها / لأنفقنها الخ وعلى ما قبله تهجين أمر قلادتها لتأكيد ذمها بالبخل الدال عليه قوله تعالى: { حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ } [المسد: 4] على ما نقلناه سابقاً عن قتادة ويحتمل غير ذلك. ووجه التعبير بالجيد على ما ذكر مما لا يخفى وزعم بعضهم أن الكلام يحتمل أن يكون دعاء عليها بالخنق بالحبل وهو عن الذهن مناط الثريا نعم ذكر أنها ماتت يوم ماتت مخنوقة بحبل حملت به حزمة حطب لكن هذا لا يستدعي حمل ما ذكر على الدعاء.

هذا، واستشكل أمر تكليف أبـي لهب بالإيمان مع قوله تعالى: { سَيَصْلَىٰ } [المسد: 3] الخ بأنه بعد أن أخبر الله تعالى عنه بأنه سيصلى النار لا بد أن يصلاها ولا يصلاها إلا الكافر فالإخبار بذلك يتضمن الإخبار بأنه لا يؤمن أصلاً فمتى كان مكلفاً بالإيمان بما جاء به النبـي صلى الله عليه وسلم ومنه ما ذكر لزم أن يكون مكلفاً بأن يؤمن بأن لا يؤمن أصلاً وهو جمع بين النقيضين خارج عن حد الإمكان.

وأجيب عنه بأن ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبـي عليه الصلاة والسلام إجمالاً لا الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن الكريم حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر. ويقال نحو هذا في الجواب عن تكليف الكافرين المذكورين في قوله تعالى: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ } [الكافرون: 1] الخ بالإيمان بناء على تعينهم مع قوله تعالى: { وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [الكافرون: 3] الخ بناء على دلالته على استمرار عدم عبادتهم ما يعبد عليه الصلاة والسلام.

وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى: { سَيَصْلَىٰ } الخ ليس نصاً في أنه لا يؤمن أصلاً فإن صلي النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب منه أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره ولا يجري هذا في الجواب عن تكليف أولئك الكافرين بناء على فهمهم السورة إرادة الاستمرار.

وأجاب بعض آخر بأن من جاء فيه مثل ذلك وعلم به مكلف بأن يؤمن بما عداه مما جاء به صلى الله عليه وسلم. وأجاب الكعبـي وأبو الحسين البصري وكذا القاضي عبد الجبار بغير ما ذكر مما رده الإمام. وقيل في خصوص هذه الآية أن المعنى سيصلى ناراً ذات لهب ويخلد فيها إن مات ولم يؤمن. فليس ذلك مما هو نص في أنه لا يؤمن وما لهذه الأجوبة وما عليها يطلب من مطولات كتب الأصول والكلام.

واستدل بقوله تعالى: { وَٱمْرَأَتُهُ } على صحة أنكحة الكفار والله تعالى أعلم.