التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ
١
-الفلق

روح المعاني

{ قُلْ أَعُوذُ } أي ألتجيء وأعتصم وأتحرز { بِرَبّ ٱلْفَلَقِ } فَعَل بمعنى مفعول صفة مشبهة كقصص بمعنى مقصوص من فلق شق وفرق وهو يعم جميع الموجودات الممكنة فإنه تعالى فلق [ظلمة العدم] بنور الإيجاد عنها سيما ما يخرج من أصل كالعيون من الجبال والأمطار من السحاب والنبات من الأرض والأولاد من الأرحام، وخص عرفاً بالصبح وإطلاقهم المفلوق عليه مع قولهم فلق الله تعالى الليل عن الصبح على نحو إطلاق المسلوخ على الشاة مع قولهم سلخت الجلد من الشاة وتفسيره بالمعنى العام أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن ابن عباس ولفظه الفلق الخلق وأخرج الطستي عنه أنه فسره بالصبح وأنشد رضي الله تعالى عنه قول زهير:

الفارج الهم مسد ولا عساكره كما يفرج غم الظلمة الفلق

وهو مروي عن جابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبـي وابن زيد، وعليه فتعليق العياذ باسم الرب المضاف إلى الفلق المنبىء عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق، والفتق بعد الرتق عدة كريمة بإعاذة العائذ مما يعوذ منه وإنجائه / منه وتقوية لرجائه بتذكير بعض نظائره ومزيد ترغيب له في الجد والاعتناء بقرع باب الالتجاء إليه عز وجل. وقيل إن في تخصيص الفلق بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة فالدور كالقبور والنوم أخو الموت والخارجون من منازلهم صباحاً منهم من يذهب لنضرة وسرور ومنهم من يكون من مطالبة ديون في غموم وشرور إلى أحوال أخر تكون للعباد هي أشبه شيء بما يكون لهم في المعاد.

وفي «تفسير القاضي» ((أن لفظ الرب هٰهنا أوقع من سائر الأسماء - أي التي يجوز إضافتها إلى (الفلق) على ما قيل - لأن الإعاذة من المضار تربية)) وهو على تعميم الفلق ظاهر لشموله للمستعيذ والمستعاذ منه وعلى تخصيصه بالصبح قيل لأنه مشعر بأنه سبحانه قادر مغير للأحوال مقلب للأطوار فيزيل الهموم والأكدار.

وقال الرئيس بن سينا بعد أن حمل (الفلق) على ظلمة العدم المفلوقة بنور الوجود: إن في ذكر الرب سراً لطيفاً من حقائق العلم وذلك أن المربوب لا يستغني في شيء من حالاته عن الرب كما يشاهد في الطفل ما دام مربوباً ولما كانت الماهيات الممكنة غير مستغنية عن إفاضة المبدأ الأول لا جرم ذكر لفظ الرب للإشارة إلى ذلك، وفيه إشارة أخرى من خفيات العلوم وهو أن العوذ والعياذ في اللغة عبارة عن الالتجاء إلى الغير فلما أمر بمجرد الالتجاء إلى الغير وعبر عنه بالرب دل ذلك على أن عدم الحصول ليس لأمر يرجع إلى المستعاذ به المفيض للخيرات بل لأمر يرجع إلى قابلها فإن من المقرر أنه ليس شيء من الكمالات وغيرها مبخولاً به من جانب المبدأ الأول سبحانه بل الكل حاصل موقوف على أن يصرف المستعد جهة قبوله إليه وهو المعنى بالإشارة النبوية "إن لربكم في أيام دهركم نفحات من رحمته ألا فتعرضوا لها" بَيَّنَ أن نفحات الألطاف دائمة وإنما الخلل من المستعد انتهى.

وفي رواية عن ابن عباس أيضاً وجماعة من الصحابة والتابعين أن (الفلق) جب في جهنم وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ } قال هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون وإن جهنم لتعوذ بالله تعالى منه" وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن عنبسة قال "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ } فقال يا ابن عنبسة أتدري ما الفلق؟ قلت الله ورسوله أعلم قال بئر في جهنم فإذا سعرت البئر فمنها تسعر جهنم وإن جهنم لتتأذى منه كما يتأذى ابن آدم من جهنم" وأخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم عن كعب قال الفلق بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من شدة حره وعن الكلبـي أنه واد في جهنم وقيل هو جهنم.

وهو على ما في «الكشاف» ((من قولهم لما اطمأن من الأرض الفلق والجمع فلقان)) كخلق وخلقان وتخصيصه بالذكر قيل لأنه مسكن اليهود فعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم فقال لا أبالي أليس من ورائهم الفلق؟ وفسر بما روى آنفاً عن كعب، ومنهم الذي سحر النبـي صلى الله عليه وسلم ففي تعليق العياذ بالرب مضافاً إليه عدة كريمة بإعاذته صلى الله عليه وسلم من شرهم ولا يخفى أن هذا مما لا يثلج الصدر وأظن ضعف الأخبار السالفة ويترجح في نظري المعنى الأول للفلق.