التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٢
-يوسف

روح المعاني

{ إِنَّآ أَنزَلْنَـٰهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } وصف له باعتبار الشرف الإضافي. وضمير الغائب للكتاب السابق ذكره فإن كان المراد به القرآن كله كما هو الظاهر المناسب للحال فذاك وإن كان المراد به هذه السورة فتسميته قرآناً لأنه اسم جنس يقع على الكثير والقليل فكما يطلق على الكل يطلق على البعض، نعم إنه غلب على الكل عند الإطلاق معرفاً لتبادره. وهل وصل بالغلبة إلى حد العلمية أولا؟ فيه خلاف، وإلى الأول ذهب البيضاوي قدس سره فتلزمه الألف واللام ومع ذلك لم يهجر المعنى الأول، ووقع في كتب الأصول أنه وضع تارة للكل خاصة وأخرى لما يعمه، والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواتراً، ونظر فيه بأن الغلبة ليس لها وضع ثان وإنما هي تخصيص لبعض أفراد الموضوع له، ولذا لزمت العلم بها اللام أو الإضافة إلا أن يدعى أن فيها وضعاً تقديرياً كذا قيل؛ وممن صرح ـ بأن التعيين بالغلبة قسيم للتعيين بالوضع ـ العلامة الزرقاني وغيره لكن تعقبه الحمصي فقال: إن دلالة الأعلام بالغلبة على تعيين مسماها بالوضع وإن كان غير الوضع الأول فليتأمل.

وعن الزجاج وابن الأنباري أن الضمير لنبأ يوسف وإن لم يذكر في النظم الكريم، وقيل: هو للإنزال المفهوم من الفعل، ونصبه على أنه مفعول مطلق، و { قُرْآناً } هو المفعول به، والقولان ضعيفان كما لا يخفى، ونصب { قُرْآناً } على أنه حال وهو بقطع النظر عما بعده وعن تأويله بالمشتق حال موطئة للحال التي هي { عَرَبِيّاً } وإن أول بالمشتق أي مقروءاً فحال فير موطئة؛ و { عَرَبِيّاً } إما صفته على رأي من يجوز وصف الصفة، وإما حال من الضمير المستتر فيه على رأي من يقول بتحمل المصدر الضمير إذا كان مؤولا باسم المفعول مثلاً، وقيل: { قُرْآناً } بدل من الضمير، و { عَرَبِيّاً } صفته، وظاهر صنيع أبـي حيان يقتضي اختياره.

ومعنى كونه / { عَرَبِيّاً } أنه منسوب إلى العرب باعتبار أنه نزل بلغتهم وهي لغة قديمة. أخرج ابن عساكر في «التاريخ» عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية فلما أكل من الشجرة سلبها فتكلم بالسريانية فلما تاب ردّها الله تعالى عليه، وقال عبد الملك بن حبيب: كان اللسان الأول الذي هبط به آدم عليه السلام من الجنة عربياً إلى أن بعد وطال العهد حرف وصار سريانياً وهو منسوب إلى أرض سورية وهي أرض الجزيرة وبها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق، وكان يشاكل اللسان العربـي إلا أنه محرف وكان أيضاً لسان جميع من في السفينة إلا رجلاً واحداً يقال له: جرهم فإنه كان لسانه العربـي الأول فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته وصار اللسان العربـي في ولده عوص أبـي عاد وعبيل وجاثر أبـي ثمود وجديس، وسميت عاد باسم جرهم لأنه كان جدّهم من الأم وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشد بن سام إلى أن وصل إلى قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنوا إسماعيل عليه السلام فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربـي. وقال ابن دحية: العرب أقسام: الأول عاربة وعرباء وهم الخلص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح، وهي عاد، وثمود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار، ومنهم تعلم إسماعيل عليه السلام العربية، والثاني المتعربة قال في «الصحاح»: وهم الذين ليسوا بخلص وهم بنو قحطان، والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلص أيضاً وهم بنو إسماعيل وهم ولد معد بن عدنان بن أدد اهـ.

وقال ابن دريد في «الجمهرة» العرب العاربة سبع قبائل: عاد وثمود وعمليق وطسم وجديس وأميم وجاسم وقد انقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين في القبائل، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية يعرب بن قحطان وهو مراد الجوهري بقوله: إنه أول من تكلم بالعربية، واستدل بعضهم على أنه أول من تكلم بها بما أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفاً ولا أراه يصح ذكر فيه تبلبل الألسنة ببابل وأنه أول من تكلم بالعربية.

وأخرج الحاكم في «المستدرك» وصححه والبيهقي في «شعب الإيمان» من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا } الخ ثم قال: "ألهم إسمعيل عليه السلام هذا اللسان العربـي إلهاماً" وقال الشيرازي في كتاب «الألقاب»: أخبرنا أحمد بن إسمٰعيل المداني أخبرنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماشي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف بن السكيت قال: حدثني الأثرم عن أبـي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسمٰعيل عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة" وروي أيضاً عن ابن عباس أن إسمٰعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية المحضة، وأريد بذلك ـ على ما قاله بعض الحفاظ ـ عربية قريش التي نزل بها القرآن وإلا فاللغة العربية مطلقاً كانت قبل إسمٰعيل عليه السلام وكانت لغة حمير وقحطان، وقال محمد بن سلام: أخبرني يونس عن أبـي عمرو بن العلاء قال: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حميراً وبقايا جرهم وقد جاورهم وأصهر إليهم، وذكر ابن كثير أن من العرب من ليس من ذريته كعاد وثمود وطسم وجديس وأميم وجرهم والعماليق وأمم غيرهم لا يعلمهم / إلا الله سبحانه كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه وكان عرب الحجاز من ذريته وأما عرب اليمن ـ وهم حمير ـ فالمشهور كما قال ابن ماكولا: إنهم من قحطان واسمه مهزم وهو ابن هود، وقيل: أخوه، وقيل: من ذريته، وقيل: قحطان هو هود، وحكى ابن إسحاق وغيره أنه من ذرية إسماعيل، والجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من ذريته عليه السلام وأن اللغة العربية مطلقاً كانت قبله وهى إحدى اللغات التي علمها آدم عليه السلام وكان يتكلم بها وبغيرها أيضاً وكثر تكلمه فيما قيل: بالسريانية، وادعى بعضهم أنها أول اللغات وأن كل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفاً أو اصطلاحاً، واستدلوا على أسبقيتها وجوداً بأن القرآن كلام الله تعالى وهو عربي وفيه ما فيه. وهي أفضل اللغات حتى حكى شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبـي يوسف عليه الرحمة كراهة التكلم بغيرها لمن يحسنها من غير حاجة، وبعدها في الفضل على ما قيل: الفارسية الدرية حتى روي عن الإمام أبـي حنيفة رضي الله تعالى عنه جواز قراءة القرآن بها سواء في ذلك ما كان ثناءاً كالإخلاص وغيره وسواء كانت عن عجز عن العربية أم لا. وروي عن صاحبيه جواز القراءة في الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها، وفي «النهاية» و«الدارية» أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم. وقد عرض ذلك على النبـي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه، نعم الصحيح أن الإمام رجع عن ذلك، وفي «النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية» للشرنبلالي ما ملخصه: حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتبه بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته وحرمة مسه لغير الطاهر اتفاقاً كقراءته وعدم صحة الصلاة بافتتاحها بالفارسية وعدم صحتها بالقراءة بها إذا كانت ثناءً واقتصاره عليها مع القدرة على العربية وعدم الفساد بما هو ذكر وفسادها بما ليس ذكراً بمجرد قراءته ولا يخرج عن كونه أمياً وهو يعلم الفارسية فقط وتصح الصلاة بدون قراءة للعجز عن العربية على الصحيح عند الإمام وصاحبيه، وأطال الكلام في ذلك. وفي «معراج الدراية» من تعمد قراءة القرآن أو كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق والمجنون يداوى والزنديق يقتل، وروي ذلك عن أبـي بكر محمد بن الفضل البخاري ومع هذا لا ينكر فضل الفارسية، ففي الحديث "لسان أهل الجنة العربـي والفارسي الدري" وقد اشتهر ذلك لكن ذكر الذهبـي في «تاريخه» عن سفيان أنه قال: بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي وآخرون عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبوا العرب لثلاث لأني عربـي والقرآن عربـي وكلام أهل الجنة عربي" .

وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبـي هريرة ما يعضده، ولا يخفى على الخبير بمزايا الكلام أن في الكلام العربـي من لطائف المعاني ودقائق الأسرار ما لا يستقل بأدائه لسان ويليه في ذلك الكلام الفارسي فإن كان هذا مدار الفضل فلا ينبغي أن يتنازع اثنان في أفضلية العربـي ثم الفارسي مما وصل إلينا من اللغات وإن كان شيئاً آخر فالظاهر وجوده في العربـي الذي اختار سبحانه إنزال القرآن به لا غير، وقد قسم لنبينا / صلى الله عليه وسلم من هذا اللسان ما لم يقسم لأحد من فصحاء العرب، فقد أخرج ابن عساكر في «تاريخه» "عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظته. ا" وأخرج البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أبيه من حديث فيه طول قال رجل: " يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك؟ قال: حق لي فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربـي مبين" ، هذا وجوز أن يكون العربـي منسوباً إلى عربة وهي ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر:

(وعربة) أرض ما يحا حرامها من الناس إلا اللوذعي الحلاحل

والمراد لغة أهل هذه الناحية.

واستدل جماعة منهم الشافعي رضي الله تعالى عنه وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر بوصف القرآن بكونه عربياً على أنه لا معرب فيه، وشدد الشافعي النكير على من زعم وقوع ذلك فيه، وكذا أبو عبيدة فإنه قال: من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول. ووجه ابن جرير ما ورد عن ابن عباس وغيره في تفسير ألفاظ منه أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية كذا بأن ذلك مما اتفق فيه توارد اللغات، وقال غيره: بل كان للعرب التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لأهل سائر الألسنة في أسفار لهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاورتها حتى جرت مجرى العربـي الفصيح ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن. وقال آخرون: كل تلك الألفاظ عربية صرفة ولكن لغة العرب متسعة جداً ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الأجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح، ومن هنا قال الشافعي في الرسالة (ص 42): لا يحيط باللغة إلا نبـي.

وذهب جمع إلى وقوع غير العربـي فيه، وأجابوا عن الآية بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن العربية، فالقصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها فارسية بلفظة عربية. وقال غير واحد: المراد أنه عربـي الأسلوب، واستدلوا باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو إبراهيم للعلمية والعجمة، ورد بأن الأعلام ليست محل خلاف وإنما الخلاف في غيرها، وأجيب بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس ونظر فيه، واختار الجلال السيوطي القول بالوقوع، واستدل عليه بما صح عن أبـي ميسرة التابعي الجليل أنه قال: في القرآن من كل لسان، وروي مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه. وذكر أن حكمة وقوع تلك الألفاظ فيه أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالاً للعرب وأيضاً لما كان النبـي صلى الله عليه وسلم مرسلاً إلى كل أمة ناسب أن يكون في كتابه المبعوث به من لسان كل قوم شيء، وقد أشار إلى الوجه الأول ابن النقيب. وقال أبو عبد الله القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية الصواب تصديق القولين جميعاً وذلك أن هذه الأحرف أصولها عجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الأحرف بكلام العرب فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: إنها عجمية فهو صادق، ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجزري وآخرون، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام [الآية: 4] ما يتعلق بهذا المبحث أيضاً فليتفطن وليتأمّل.

/ واحتج الجبائي بالآية على كون القرآن مخلوقاً من أربعة أوجه: الأول وصفه بالإنزال، والقديم لا يجوز عليه ذلك، الثاني وصفه بكونه عربياً، والقديم لا يكون عربياً ولا فارسياً، الثالث أن قوله تعالى: { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا } يدل على أنه سبحانه قادر على إنزاله غير عربـي وهو ظاهر الدلالة على حدوثه. الرابع أن قوله عز شأنه: { { تِلْكَ آيَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ } [يوسف: 1] يدل على تركبه من الآيات والكلمات وكل ما كان مركباً كان محدثاً ضرورة أن الجزء الثاني غير موجود حال وجود الجزء الأول. وأجاب الأشاعرة عن ذلك كله بأن قصارى ما يلزم منه أن المركب من الحروف والكلمات محدث وذلك مما لا نزاع لنا فيه، والذي ندعي قدمه شيء آخر نسميه الكلام النفسي وهو مما لا يتصف بالإنزال ولا بكونه عربياً ولا غيره ولا بكونه مركباً من الحروف ولا غيرها، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هنا فلا تغفل.

{ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه من البدائع أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أنه خارج عن طوق البشر مشتمل على ما يشهد له أنه منزل من عند خلاق القوى والقدر، وهذا بيان لحكمة إنزاله بتلك الصفة، وصرح غير واحد أن لعل مستعملة بمعنى لام التعليل على طريق الاستعارة التبعية، ومرادة من ذلك ظاهر، وجعلها للرجاء من جانب المخاطبين وإن كان جائزاً لا يناسب المقام. وزعم الجبائي أن المعنى أنزله لتعقلوا معانيه في أمر الدين فتعرفوا الأدلة الدالة على توحيده وما كلفكم به. وفيه دليل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح من حصل منه ذلك ومن لم يحصل، وفيه أنه بمعزل عن الاستدلال به على ما ذكر كما لا يخفى.