التفاسير

< >
عرض

وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ
٢٣
-يوسف

روح المعاني

{ وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا } رجوع إلى شرح ما جرى عليه عليه السلام في منزل العزيز بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، وقوله سبحانه: { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [يوسف: 21] إلى هنا اعتراض جيء به أنموذجاً للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه عليه السلام من الفتن التي ستحكي بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه عليه السلام محسن في أعماله لم يصدر عنه ما يخل بنزاهته. والمراودة المطالبة برفق من راد يرود إذا ذهب وجاء لطلب شيء، ومنه الرائد لطالب الكلأ والماء، وباعتبار الرفق قيل: رادت الإبل في مشيتها ترود روداناً، ومنه بني المرود؛ ويقال: أرود يرود إذا رفق، ومنه بني رويد، والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المديون ومداواة الطبيب وغير ذلك مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما. قال شيخ الإسلام: وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم: كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى، فإن فعل البادىء وإن لم يكن جزاء لكنه لكونه سبباً للجزاء أطلق عليه اسمه، وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وإرادة قراءة القرآن حيث كانتا سبباً للقيام والقراءة عبر عنهما بهما فقيل: { { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [المائدة: 6] { { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } [النحل: 98] وهذه قاعدة مطردة مستمرة، ولما كانت أسباب الأفعال المذكورة فيما نحن فيه صادرة عن الجانب المقابل لجانب فاعلها فإن مطالبة الدائن للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي من جانب الدائن، وكذا مداواة الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض، وكذلك مراودتها فيما نحن فيه لجمال يوسف عليه السلام نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتها التي هي تلك الأفعال فبنى الصيغة على ذلك وروعي جانب الحقيقة بأن أسند الفعل إلى الفاعل وأوقع على صاحب السبب فتأمل اهـ.

وكأنه أشار بالأمر بالتأمل إلى ما فيه مما لا يخفى على ذويه، وفي «الكشف» المراودة منازعة في الرود بأن يكون له مقصد مجيئاً وذهاباً وللمفاعل مقصد آخر يقابله فيهما، ومعنى المفاعلة هٰهنا إما المبالغة في رودها أو الدلالة على اختلافهما فيه فإنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك وهذا أبلغ ولما كان منازعة جيء ـ بعن ـ في قوله / تعالى: { عَن نَّفْسِهِ } كما تقول: جاذبته عن كذا دلالة على الأبعاد وتحصيل الجذب البالغ، ولهذا قال في «الأساس»: ومن المجاز راوده عن نفسه خادعه عنها. وقال الزمخشري هنا: أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، ولا شك أن هذا إنما يحصل من المنازعة في الرود، ولهذه النكتة جعل كناية عن التمحل لمواقعته إياها، والعدول عن التصريح باسمها للمحافطة على الستر ما أمكن. أو للاستهجان بذكره، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز مع أنه أخصر وأظهر لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة، وإضافة البيت إلى ضميرها لما أن العرب تضيف البيوت إلى النساء باعتبار أنهن القائمات بمصالحه أو الملازمات له، وخرج على ذلك قوله تعالى: { { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب: 33] وكثر في كلامهم صاحبة البيت. وربة البيت للمرأة، ومن ذلك:

يا ربة البيت قومي غير صاغرة

{ وَغَلَّقَتِ ٱلاْبْوَٰبُ } أي أبواب البيت، وتشديد الفعل للتكثير في المفعول إن قلنا: إن الأبواب كانت سبعة كما قيل، فإن لم نقل به فهو لتكثير الفعل فكأنه غلق مرة بعد مرة أو بمغلاق بعد مغلاق، وجمع { ٱلاْبْوَٰبُ } حينئذٍ إما لجعل كل جزء منه كأنه باب أو لجعل تعدد إغلاقه بمنزلة تعدده، وزعم بعضهم أنه لم يغلق إلا بابان: باب الدار، وباب الحجرة التي هما فيها. وادعى بعض المتأخرين أن التشديد للتعدية وأن كونه للتكثير وهم معللاً ذلك بأن غلقت الأبواب غلقاً لغة رديئة متروكة حسبما ذكره الجوهري، ورد بأن إفادة التعدية لا تنافي إفادة التكثير معها فإن مجرد التعدية يحصل بباب الأفعال فاختيار التفعيل عليه لأحد الأمرين، ولذا قال الجوهري أيضاً: { وَغَلَّقَتِ ٱلاْبْوَٰبُ } شدد للتكثير اهـ. وفي «الحواشي الشهابية» أنه لم يتنبه الراد لأن ما نقله عليه لا له لأن الردىء الذي ذكره اللغويون إنما هو استعمال الثلاثي منه لا أن له ثلاثياً لازماً حتى يتعين كون التفعيل للتعدية فتعديه لازم في الثلاثي وغيره سواء كان رديئاً أو فصيحاً فتعين أنه للتكثير، وقد قال بذلك غير واحد، فالواهم ابن أخت خالة الموهم فافهم.

{ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي أسرع فهي اسم فعل أمر مبني على الفتح كأين، وفسرها الكسائي والفراء بتعال، وزعما أنها كلمة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها؛ وقال أبو زيد: هي عبرانية، وعن ابن عباس والحسن هي سريانية، وقال السدي: هي قبطية. وقال مجاهد وغيره هي عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حث وإقبال، واللام للتبيين كالتي في سقيا لك فهي متعلقة بمحذوف أي إرادتي كائنة لك أو أقول لك، وجوز كونها اسم فعل خبري كهيهات، واللام متعلقة بها والمعنى تهيأت لك، وجعلها بعضهم على هذا للتبيين متعلقة بمحذوف أيضاً لأن اسم الفعل لا يتعلق به الجار، والتاء مطلقاً من بنية الكلمة، وليس تفسيرها بتهيأت لكون الدال على التكلم التاء ليرد أنها / إذا كانت بمعنى تهيأت لا تكون اسم فعل بل تكون فعلاً مسنداً إلى ضمير المتكلم بل لأنه لما بينت التهيؤ بأنه له لزم كونها هي المتهيأة كما إذا قيل لك: قربني منك فقلت: هيهات فإنه يدل على معنى بعدت بالقرينة.

وقرأ ابن كثير وأهل مكة { هيت } بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء تشبيهاً له بحيث. وقرأ أبو الأسود وابن أبـي إسحاق وابن محيصن وعيسى البصرة وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { هيت } بفتح الهاء وسكون الياء وكسر التاء تشبيهاً له بجير، والكلام فيها على هاتين القراءتين كالكلام فيها على القراءة السابقة. وقرأ نافع وابن عامر وابن ذكوان والأعرج وشيبة وأبو جعفر { هيت } بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وتاء مفتوحة، وحكى الحلواني عن هشام أنه قرأ كذلك إلا أنه همز، وتعقب ذلك الداني تبعاً لأبـي علي الفارسي في الحجة، وقد تبعه أيضاً جماعة بأن فتح التاء فيما ذكر وهم من الراوي لأن الفعل حينئذٍ من التهيؤ، ويوسف عليه السلام لم يتهيأ لها بدليل { وَرَاوَدَتْهُ } الخ فلا بدّ من ضم التاء، ورد ذلك صاحب النشر بأن المعنى على ذلك تهيأ لي أمرك لأنها لم يتيسر لها الخلوة به قبل أو حسنت هيئتك، و { لَكَ } على المعنيين للبيان، والرواية عن هشام صحيحة جاءت من عدة طرق، وروي عنه أيضاً أنه قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، وهي رواية أيضاً عن ابن عباس وابن عامر وأبـي عمرو أيضاً، وقرأ كذلك أبو رجاء وأبو وائل وعكرمة ومجاهد وقتادة وطلحة وآخرون. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبـي إسحاق كذلك إلا أنهما سهلا الهمزة، وذكر النحاس أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وكسر التاء، وقرىء أيضاً (هيا) بكسر الهاء وفتحها وتشديد الياء، وهي على ما قال ابن هشام: لغة في { هَيْتَ }، وقال بعضهم: إن القراءات كلها لغات وهي فيها اسم فعل بمعنى هلم، وليست التاء ضميراً؛ وقال آخر: إنها لغات والكلمة عليها اسم فعل إلا على قراءة ضم التاء مع الهمز وتركه فإن الكلمة عليها تحتمل أن تكون فعلاً رافعاً لضمير المتكلم من هاء الرجل يهيء كجاء يجيء إذا حسنت هيئته أو بمعنى تهيأت، يقال: هئت وتهيأت بمعنى، وإذا كانت فعلاً تعلقت اللام بها، ونقل عن ابن عباس أيضاً أنه قرأ هييت مثل حببت وهي في ذلك فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء كأن أحداً هيأها له عليه السلام.

{ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ } نصب على المصدر يقال: عذت عوذاً وعياذاً وعياذة ومعاذاً أي أعوذ بالله عز وجل معاذاً مما تريدين مني، وهذا اجتناب منه عليه السلام على أتم الوجوه وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله جل وعلا للخلاص منه، وما ذلك إلا لأنه قد علم بما أراه الله تعالى ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء. وقوله تعالى: { إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } تعليل ببعض الأسباب الخارجية مما عسى يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي التي لا تكاد تقبله لما سولته لها نفسها، والضمير للشأن، وفي تصدير الجملة به من الإيذان بفخامة مضمونها ما فيه مع زيادة تقريره في الذهن أي إن الشأن الخطير هذا أي هو ربـي أي سيدي العزيز أحسن تعهدي حيث أمرك بإكرامي على أكمل وجه فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه؟! وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد والسدي / وابن أبـي إسحاق، وتعقب بأن فيه إطلاق الرب على غيره تعالى فإن أريد به الرب بمعنى الخالق فهو باطل لأنه لا يمكن أن يطلق نبـي كريم على مخلوق ذلك، وإذا أريد به السيد فهو عليه السلام في الحقيقة مملوك له، ومن هنا ـ وإن كان فيما ذكر نظر ظاهر ـ اختار في «البحر» أن الضمير لله تعالى، و { رَبّي } خبر إن، و { أَحْسَنَ مَثْوَايَّ } خبر ثان، أو هو الخبر، والأول بدل من الضمير أي إنه تعالى خالقي أحسن مثواي بعطف قلب من أمرك بإكرامي علي فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة؟! وفيه تحذير لها عن عقاب الله تعالى، وجوز على تقدير أن يكون الرب بمعنى الخالق كون الضمير للشأن أيضاً، وأياً مّا كان ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض لاقتضائها الامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً.

وقوله تعالى: { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } تعليل غب تعليل للامتناع المذكور، والفلاح الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالأول: الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز، والثاني: أربعة أشياء: بقاء بلا فناء وغنى بلا فقر وعز بلا ذل وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة، ومعنى أفلح دخل في الفلاح كأصبح وأخواته، ولعل المراد به هنا الفلاح الأخروي، وبالظالمين كل من ظلم كائناً من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاة لأمر الله تعالى دخولاً أولياً، وقيل: الزناة لأنهم ظالمون لأنفسهم، وللمزني بأهله، وقيل: الخائنون لأنهم ظالمون لأنفسهم أيضاً ولمن خانوه.