التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ
٣
-يوسف

روح المعاني

{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي نخبرك ونحدثك من قص أثره إذا اتبعه كأن المحدث يتبع ما حدث به وذكره شيئاً فشيئاً ومثل ذلك تلى { أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } أي أحسن الاقتصاص فنصبه على المصدرية إما لاضافته إلى المصدر أو لكونه في الأصل صفة مصدر أي قصصا أحسن القصص، وفيه مع بيان الواقع إيهام لما في اقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل، والمفعول به محذوف أي مضمون هذا القرآن، والمراد به هذه السورة، وكذا في قوله عز وجل: { بِمَآ أَوْحَيْنَا } أي بسبب إيحائنا. { إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ } والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الاقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو، ولعل كلمة { هَـٰذَا } للإيماء إلى تعظيم المشار إليه. وقيل: فيها إيماء إلى مغايرة هذا القرآن لما في قوله تعالى: { { قُرْآناً عَرَبِيّاً } [يوسف: 2] بأن يكون المراد بذلك المجموع وفيه تأمل، وأحسنيته لأنه قد قص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة، وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين، وجوز أن يكون هذا المذكور مفعول { نَقُصُّ }.

وصرح غير واحد أن الآية من باب تنازع الفعلين، والمذهب البصري أولى هنا أما لفظاً فظاهر وأما معنى فلأن القرآن كما سمعت السورة وإيقاع الإيحاء عليها أظهر من أيقاع { نَقُصُّ } باعتبار اشتمالها على القصة وما هو أظهر أولى بإعمال صريح الفعل فيه، وفيه من تفخيم القرآن وإحضار ما فيه من الإعجاز وحسن البيان ما ليس في إعمال { نقص } صريحاً، وجوز تنزيل أحد الفعلين منزلة اللازم، ويجوز أن يكون { أحسن } مفعولاً به لنقص، والقصص: إما فعل بمعنى مفعول كالنبأ والخبر أو مصدر سمي به المفعول كالخلق والصيد أي نقص / عليك أحسن ما يقص من الأنباء وهو قصة آل يعقوب عليه السلام، ووجه أحسنيتها اشتمالها على حاسد ومحسود ومالك ومملوك وشاهد ومشهود وعاشق ومعشوق وحبس وإطلاق وخصب وجدب وذنب وعفو وفراق ووصال وسقم وصحة وحل وارتحال وذل وعز، وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدره وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان وأن الصبر مفتاح الفرج وأن التدبير من العقل وبه يصلح أمر المعاش إلى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير.

وقيل: إنما كانت { أحسن } لأن غالب من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة، وقيل: المقصوص أخبار الإمام السالفة والقرون الماضية لا قصة آل يعقوب فقط، والمراد بهذا القرآن ما اشتمل على ذلك، و { أَحْسَنُ } ليس أفعل تفضيل بل هو بمعنى حسن كأنه قيل: حسن القصص من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي القصص الحسن، والقول عليه عند الجمهور ما ذكرنا، قيل: ولكونها بتلك المثابة من الحسن تتوفر الدواعي إلى نقلها ولذا لم تتكرر كغيرها من القصص، وقيل: سبب ذلك من افتتان امرأة ونسوة بأبدع الناس جمالاً، ويناسب ذلك عدم التكرار لما فيه من الأعضاء والستر، وقد صحح الحاكم في «مستدركه» حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف، وقال الإستاذ أبو إسحاق: إنما كرر الله تعالى قصص الأنبياء وساق هذه القصة مساقاً واحداً إشارة إلى عجز العرب كأن النبـي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص وهو وجه حسن إلا أنه يبقى عليه أن تخصيص سورة يوسف لذلك يحتاج إلى بيان فإن سوق قصة آدم عليه السلام مثلاً مساقاً واحداً يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضاً بعين ما ذكر. وقال الجلال السيوطي: ظهر لي وجه في سوقها كذلك وهو أنها نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من الاستيعاب وترويح النفس بالإحاطة ولا يخفى ما فيه، وكأنه لذلك قال: وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم والحاجة داعية إلى ذلك كتكرير تكذيب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم فكلما كذبوا أنزلت قصة منذرية بحلول العذاب كما حل بالمكذبين، ولهذا قال سبحانه في آيات: { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ ٱلأَوَّلِينِ } [الأنفال: 38] { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } [الأنعام: 6] وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك، وبهذا أيضاً يحصل الجواب عن عدم تكرير قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وقصة موسى مع الخضر وقصة الذبيح، ثم قال: فإن قلت: قد تكررت قصة ولادة يحيـى وولادة عيسى عليهما السلام مرتين وليست من قبيل ما ذكرت { قُلْتَ } الأولى في سورة { كۤهيعۤصۤ } [مريم: 1] وهي مكية أنزلت خطاباً لأهل مكة، والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية أنزلت خطاباً لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا اتصل بهذا ذكر المحاجة والمباهلة اهـ. واعترض بأن قصة آدم عليه السلام كررت مع أنه ليس المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم، وأجيب بأنها وإن لم يكن المقصود بها إفادة ما ذكر إلا أن فيها من الزجر عن المعصية ما فيها فهي أشبه قصة بتلك القصص التي كررت لذلك فافهم.

{ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ } أي قبل إيحائنا إليك ذلك { لَمِنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ } عنه لم يخطر ببالك ولم يقرع سمعك، وهذا تعليل لكونه موحى كما ذكره بعض المحققين والأكثر في مثله ترك / الواو، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لا جلال شأن النبـي صلى الله عليه وسلم وكذا العدول عن ـ لغافلا ـ إلى ما في النظم الجليل عند بعض، ويمكن أن يقال: إن الشيء إذا كان بديعاً وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه قيل للمخاطب: كنت عن هذا غافلاً فيجوز أن يقصد الإشارة إلى غرابة تلك القصة فيكون كالتأكيد لما تقدم إلا أن فيه ما لا يخفى و(إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام فارقة، وجملة { كُنتُ } الخ خبر (إن).