التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
٤٢
-يوسف

روح المعاني

{ وَقَالَ } أي يوسف عليه السلام. { للَّذي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ } أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيده قوله: { { قُضِيَ ٱلأَمْرُ } [يوسف: 41] الخ، وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال: للذي ظنه ناجياً { مِّنْهُمَا } أي من صاحبيه، وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيداً لمناط التوصية بالذكر بما يدور عليه الامتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك. والظانّ هو يوسف عليه السلام لا صاحبه، وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظنّ الناجي بل على ظنّ يوسف عليه السلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ } [البقرة: 46] ونظائره. ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع الله تعالى، فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبئ عنه قوله: { { قُضِيَ ٱلأَمْرُ } [يوسف: 41] الخ، وقيل: هو بمعناه، والتعبير بالاجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضاً اجتهادي. واستدل به من قال: إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي، والجار والمجرور إما في موضع الصفة - لناج - أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقاً - بناج - لأنه ليس المعنى عليه { ٱذْكُرْنِي } بما أنا عليه من الحال والصفة. { عنْدَ رَبِّكَ } سيدك، روي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له: أوصني بحاجتك، فقال عليه السلام: حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها { فَأَنْسَاهُ الشيْطَانُ } أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالاً حتى يذهل عن الذكر، وإلا فالإنساء حقيقة لله تعالى، والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه { ذكْرَ رَبِّه } أي ذكر يوسف عليه السلام عند الملك، والإضافة لأدنى ملابسة، ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه.
{ فَلَبثَ } أي فمكث يوسف عليه السلام بسبب ذلك القول أو الإنساء { في السِّجْن بضْعَ سنينَ } البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة، وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى دون المائة والألف، وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع؛ والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فيما صححه البعض، وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول، ولا يأبى ذلك فاء السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر، وقيل: إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول، وقد لبث قبلها خمساً فجميع المدة اثنتا عشرة سنة، ويدل عليه خبر
"رحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل: { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } لما لبث في السجن سبعاً بعد / خمس" .
وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما الثابت في عدة روايات "ما لبث في السجن طول ما لبث" وهو لا يدل على المدعى. وروى ابن أبي حاتم عن طاوس والضحاك تفسير البضع هٰهنا بأربع عشرة سنة وهو خلاف المعروف في تفسيره، والأولى أن لا يجزم بمقدار معين كما قدمنا. وكون هذا اللبث مسبباً عن القول هو الذي تظافرت عليه الأخبار كالخبر السابق والخبر الذي روي عن أنس قال: "أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك، قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه، قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك، قال: أنت يا رب، قال: فما بالك نسيتني وذكرت آدمياً، قال: يا رب كلمة تكلم بها لساني، قال: وعزتي لأدخلنك في السجن بضع سنين" وغير ذلك من الأخبار. ولا يشكل على هذا أن الاستعانة بالعباد في كشف الشدائد مما لا بأس به، فقد قال سبحانه: { { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } [المائدة: 2] فكيف عوتب عليه السلام في ذلك لأن ذلك مما يختلف باختلاف الأشخاص، واللائق بمناصب الأنبياء عليهم السلام ترك ذلك والأخذ بالعزائم، واختار أبو حيان أن يوسف عليه السلام إنما قال للشرابي ما قال ليتوصل بذلك إلى هداية الملك وإيمانه بالله تعالى كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه، وإن ذلك ليس من باب الاستعانة بغير الله تعالى في تفريج كربه وخلاصه من السجن، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر، وموجب للطعن في غير ما خبر، نعم إنه اللائق بمنصبه عليه الصلاة والسلام. وجوز بعضهم كون ضمير - أنساه - و { رَبِّهِ } عائدين على يوسف عليه السلام، وإنساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل هو ترك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين، وأنت تعلم أن الأول هو المناسب لمكان الفاء، ولقوله تعالى الآتي: { { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [يوسف: 45].